7 سنوات مرّت على وفاة شاعر فلسطين وصوتها أحمد دحبور، الذي يعدّ واحدًا من أبرز أعمدة الحركة الثقافية الفلسطينية والشعر المقاوم، حيث عاصر المأساة الفلسطينية وعاش رحلة العذاب والتشرد، وخبر حياة المنفى واللجوء.
وُلد دحبور في حيفا يوم 21 أبريل/ نيسان 1946، إلا أنه غادرها بعد سنتَين من ولادته، إثر احتلال العصابات الصهيونية مسقط رأسه عام النكبة (1948)، فانتقل في البداية إلى لبنان، ثم قرية سورية يسكنها الشركس اسمها عين زاط (عين النسر)، قبل أن ينتقل إلى مخيم النيرب للاجئين الفلسطينيين في حمص الذي بقيَ فيه 21 سنة، ومن ثم أخذه الرحيل إلى مدن عربية شتّى، قبل أن يعود مع العائدين إلى الضفة الغربية بعد اتفاقية أوسلو.
أحمد دحبور ..انحياز للثورة الفلسطينية
وُلد دحبور في مناخ النكبة الأولى، وعاصر حربَين كبيرتَين بين العرب والإسرائيليين، وعاش تجربة الثورة الفلسطينية في شبابه فانحاز إليها دون تردد، وخدمها بأشعاره التي جسّدت معاناة الفلسطينيين في مخيمات اللجوء والتشرد والمعاناة، وكرّس سنوات حياته التي ناهزت 71 سنة للتعبير عن التجربة الفلسطينية المريرة.
رغبته في تحرير وطنه والعودة إلى حيفا التي لم يرها إلا زائرًا ورؤية بيت أهله القديم، دفعته إلى الالتحاق مبكّرًا بالمقاومة الفلسطينية، والانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسّست سنة 1964، وكانت بذلك النواة الأولى لحركات التحرر الوطني في بلاده.
انضمّ أحمد دحبور إلى أجهزة الإعلام في المقاومة الفلسطينية في سنّ الـ 22، وعمل بداية مراسلًا حربيًّا، حيث كتب لصحيفة فتح (“فلسطيننا – نداء الحياة”) من قواعد المقاومين على الخطوط الأمامية في الأردن، ونقل حيثيات العديد من المعارك على الجبهة.
يُذكر أن حركة فتح بدأت الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني نهاية سنة 1964 باسم قوات العاصفة، بالعملية الشهيرة التي تمّ فيها تفجير شبكة مياه إسرائيلية تحت اسم عملية “نفق عيلبون”، ثم تواصلت عمليات حركة فتح وأخذت تتصاعد منذ العام 1965، إلى أن خفت وخمدت.
فضلًا عن ذلك، عمل أحمد دحبور ﻣﺪﻳﺮًﺍ ﻋﺎﻣًّﺎ ﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺑﻤﻨﻈﻤﺔ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﺔ، ورئيسًا لتحرير مجلة “بيادر” الثقافية التي تصدرها الدائرة، كما شغل ﻋﻀﻮية الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب ﻭﺍﻟﺼﺤﻔﻴﻴﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻄﻴﻨﻴﻴﻦ.
إلى جانب نشاطه الثوري في منظمة التحرير الفلسطينية، ﻋﻤﻞ أحمد دحبور ﻣﺪﻳﺮًﺍ ﻟﺘﺤﺮﻳﺮ ﻣﺠﻠﺔ “ﻟﻮﺗﺲ” ﺣﺘﻰ سنة 1988، وهي مجلة أدبية وثقافية وسياسية دولية، كان يصدرها اتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا، وصدرت في فترة 1968-1991، وكانت بـ 3 لغات هي اللغة العربية واللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية.
ومع مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس، إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، واصل دحبور عمله من تونس التي عاش فيها 10 سنوات، فعمل على إيصال صوت المقاومة إلى العالم الخارجي وبيان عدالة القضية الفلسطينية، وكان بذلك نموذجًا للمثقف الفلسطيني الذي ينخرط في صفوف شعبه، ويرتقي إلى مستوى المسؤولية التي يُراد للمثقف أن يرتقي إليها.
بعد اتفاق أوسلو سنة 1993، عاد الشاعر الثائر أحمد دحبور إلى “الجزء المتاح من الوطن” ليعيش بين غزة ورام الله القسم الأخير من حياته، وهناك كرّس وقته وجهده لخدمة القضية الفلسطينية، دبلوماسيًّا وثقافيًّا، فحظيَ باحترام القادة الفلسطينيين لما عُرف عنه من وطنية ودفاع مستميت عن المقاومة.
شعر المنفى
برع دحبور خصوصًا في شعر المنفى أو شعر المخيمات، فرغم أن حياة المنفى والتشرد كانت حائلًا دون أن يتلقّى دحبور تعليمًا أساسيًّا عاليًا، إلا أنها كانت دافعًا قويًا للاعتماد على نفسه وتنمية قدراته.
اعتمد دحبور على نفسه فأطلق العنان لقدراته وإمكاناته الذاتية، وأخذ يقرأ كتب الأدب العالمي والتاريخ والشعر القديم والحديث التي توفّرت له، وعلى قلّتها إلا أنه استطاع تنمية مهاراته اللغوية وصقل موهبته الشعرية.
بدأ دحبور كتابة الشعر مبكرًا، وفي سنّ الـ 18 بدأ نشر دواوينه الشعرية التي ظهرت في أعماله الكاملة عن دار العودة في بيروت سنة 1982، وهي “الضّواري وعيون الأطفال”، و”حكاية الولد الفلسطيني”، و”طائر الوحدات”، و”بغير هذا جئت”، و”اختلاط الليل والنهار”، و”واحد وعشرون بحرًا”، و”شهادة بالأصابع الخمس”، ثم نشر في التسعينيات 4 مجموعات أخرى، هي “هكذا”، و”هنا هناك”، و”كسور عشرية”، و”جبل الذبيحة”.
كان لدار العودة التي أسّسها الصحفي أحمد سعيد محمدية في بيروت أوائل سبعينيات القرن الماضي، دور كبير في التعريف بالشاعر الفلسطيني في شتى الأقطار العربية، وسبق لها أن نشرت حينها أعمال الكثير من الشعراء الفلسطينيين البارزين.
منحت المأساة التي عاشها على صغره، ورحلة العذاب والمنفى التي لاحقته أغلب ردهات حياته، شاعر فلسطين قوةً إبداعية كبيرة، فكتب الشعر والنثر للتعبير عن تلك الهموم التي يشاركها مع أغلبية الشعب الفلسطيني، نتيجة الاحتلال الإسرائيلي لأرضه والخذلان العربي.
يسترجع الشاعر في هذه القصيدة ذكريات مشاهد الفقر والفرح بالحصول على الملابس في المخيم، حيث يقول: “عرس المخيم هذا فاق البهجة، تضيئه امرأة الخوري بالبقجة، مستبشر كل بيت، أختنا رقصت: هذه البلوزة لي، زقزقت: والكرة البيضاء لي، وأخونا شدّ معطفه البني، أمي تدارينا، وتشفق أن نرى أساها الذي صارته عيناها..”
وفي هذه القصيدة الطويلة التي حملت عنوان “العودة إلى كربلاء” ونشرت في مجلة الادب السورية سنة 1972، يقارب دحبور بين مأساة كربلاء ومأساة فلسطين، وفيها يقول:
“يا كربلاء الذبحِ، والفرحِ المبيَّتِ، والمخيمِ، والمحبة، كلُّ الوجوهِ تكشّفتْ.. كلُّ الوجوه، ورأيتُ كان السيفُ في كفي، وكنتُ لنظرةِ الفقراءِ كعبة، ورأيتُ من باعوكِ، باعونا معا، وتقاسمونا في المزادِ فما انقسمنا، كنتُ فيكِ النهر، والتحمتْ بعشبِك ضفّتاي، وقُتلتُ فيكِ ــ كما رأيتُ ــ أنا هو النهرُ القتيل”.
ويقول دحبور في قصيدة “حكاية الولد الفلسطيني”: “أنا الرجل الفلسطيني، أقول لكم: عرفت السادة الفقراء، وأهلي السادة الفقراء، وكان الجوع يشحذ ألف سكين، وألف شظية نهضت من المنفى تناديني، غريب وجهك العربي بين مخيمات الثلج والرمضاء بعيد وجهك الوضاء، فكيف يعود؟”.
“طائر الوحدات”
كان أحمد دحبور شاهدًا على معاناة الفلسطينيين في المنفى، لذلك برزت عديد المفردات في أشعاره، على غرار “المخيم” و”فلسطين” و”النضال”، حتى أنه عنونَ عمله الصادر سنة 1973 باسم أحد مخيمات اللاجئين في الأردن: “طائر الوحدات”.
روّج دحبور في هذا الديوان لقصيدة المقاومة، إذ غلب في قصائد الديوان المضمون على كل ما عداه من أدوات فنية لأهمية في قلب الشاعر ووجدانه، تزامنًا مع الانتصار المهم الذي حقّقه العرب ضد العدو الصهيوني في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
بشّرت قصائد الديوان بالمقاومة، وحملت آمالًا كبيرة في التغيير، فالنصر ممكن إن توفرت العزيمة والإرادة، وحثّ دحبور الفلسطينيين على الصمود والمقاومة والكفاح لتحرير الأرض المغتصبة وطرد الاحتلال الإسرائيلي.
كان هدف “طائر الوحدات” إيقاظ الضمير القابع في داخل كل إنسان بالفطرة، واستنهاض همم الشعب الفلسطيني، وإشعال الحماس في نفس الفلسطينيين للمطالبة بالحرية والاستقلال ودحض خطى العدو، بعيدًا عن الاستسلام والرضوخ للأمر الواقع.
انتماؤه المباشر للعمل الفلسطيني المقاوم والتحاقه بالثورة مبكرًا، جعل قصائد الثائر أحمد دحبور تخرج من المحرقة مباشرة، وهي نقطة إيجابية إضافية تسجّل لصالح هذه المجموعة الشعرية وصاحبها، إذ نجح الشاعر في تصوير العمل النضالي والترويج له.
اعتمد الشاعر في بعض قصائده على أسلوب القصص، لنقل الوقائع والأحداث بأسلوب درامي قوي، حيث يحرص دحبور على الاعتناء بالمقاوم بصفاته الذاتية، ليمنح قصته مزيدًا من الواقعية حتى تدخل قلب وعقل كل شخص يسمعها.
يقول أحمد دحبور في قصيدة “صفحة من كتاب الأغوار”، وهي واحدة من أجمل قصائد المقاومة الفلسطينية: “نحن في إربد شيّعنا مجاهد كان محمولًا على الأهدابِ شاهدت صبيّهْ تلبس الأسود.. شاهدت الدموع الساحليهْ رفعت كفا لمسح الدمع لاح الخاتم المزروع في الإصبعِ شيئًا… من مجاهدْ”.
ويستنجد دحبور في هذه القصيدة الحماسية بشخصية الزير سالم الذي انتفض للانتقام لأخيه كليب، وذلك حتى يثير حمية الفلسطينيين والعرب وينهضوا للدفاع عن فلسطين المغتصبة ويردوا الحقوق المنتهكة لأصحابها.
في هذه القصيدة يقول الشاعر: “وقرب رمحي الرّويني، رأيت رأس كليب، يضيء وجه المخيم، يقول لي: لا تصالح، يقول لي: أنت ملزم، إنّ الدما لا تسامح. فهل تسدد ديني؟”.
الأغاني الوطنية
طوّع أحمد دحبور أشعاره لصالح الأغنية الوطنية، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، ذلك أن مرحلة الثمانينيات -التي برز فيها- شهدت قفزة نوعية وحضورًا ثريًّا للأغنية المقاومة التي كانت ترافق تطورات حركة المقاومة الفلسطينية، وكانت رافدًا مهمًّا لها، إذ كانت تغذّي الروح المعنوية للعمل الوطني بأشكاله المختلفة.
قدّم شاعر فلسطين أهمّ أعماله الغنائية مع فرقة “العاشقين”، وهي فرقة غنائية فلسطينية تأسّست عام 1977 في العاصمة السورية دمشق، وعُرفت هذه الفرقة بأغانٍ من أشعار كبار شعراء فلسطين، وعلى رأسهم الشاعر الراحل توفيق زياد، والراحل سميح القاسم، إضافة إلى أبو الصادق صلاح الدين الحسيني.
كانت فرقة “العاشقين” في ذلك الوقت صوت فلسطين الحر، إذ روت أغانيها قصة كفاح شعب يسعى لتحرير وطنه من عدو يشبه في أفعاله المغول، وأثبتت هذه الأغاني حقيقة أن المقاومة الفلسطينية لم تكن بندقية ثائر فقط، بل كانت بُعدًا ثقافيًّا أيضًا.
يقول الشاعر الفلسطيني في شهادته التي جاءت في كتاب “فرقة العاشقين… لفلسطين نغنّي”: “العاشقين، هي تجربة جذّابة للمنصّة والجمهور، حملت في ثناياها الهمّ الفلسطينيّ الجمعيّ وجرح الوطن النازف. رسمت في فضاء الكون أملًا، وفي خيال الشعب ثورة وحرّية. وهي تجربة واقعية تستحقّ أن تؤرّخ”.
ألّف دحبور معظم كلمات أغاني “العاشقين” التي رافقت مسيرة الثورة الفلسطينية ووثّقت تفاصيلها ومجّدت فعل المقاومة والفداء، منها ألبوم “الكلام المباح”، الذي اشتمل على مجموعة مركزية من الأغاني التي زادت من شعبية الفرقة في أوساط واسعة عربيًّا وفلسطينيًّا.
وكانت أغنية “اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت” وثيقة تاريخية قدّمت صورة تمجيدية للتضحيات الفلسطينية اللبنانية، ونجحت في رفع المعنويات العربية في مواجهة صورة الانكسار التي تولّدت مع حصار بيروت الذي دام 6 أشهر وخروج المقاومة منها.
وفي ملحمة “اشهد يا عالم”، روى دحبور أحداث حصار بيروت وصمود الفدائيين الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية أمام الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية، وسلّط الضوء على الخذلان العربي، وفي “شوارع المخيم” رثى ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، كما نجدُ توثيقًا ملحميًّا بطوليًّا آخر في أغنية “قامت القيامة بصور”.
انخرط أحمد دحبور في الثورة الفلسطينية شابًّا يافعًا، وسخّر لها وقته وجهده رغم واقع المنفى والتشرد الذي طغى على أغلب فترات حياته، وألّف القصائد والأغاني تمجيدًا لها وللمقاومين وللإرادة الفلسطينية القوية، واعدًا بالانتصار ومبشّرًا بالعيد والمرح وسعادة الشعب والأرض.