فرضت الأزمة السعودية اللبنانية نفسها على الساحة السياسية الإقليمية بصورة ملحوظة إثر القفزات المتتالية في وتيرة التصعيد السياسي والإعلامي بين الجانبين خلال الأيام القليلة الماضية والتي وصلت إلى طلب الدول الخليجية الثلاثة (الإمارات – البحرين – الكويت) بجانب المملكة مغادرة رعاياها من بيروت، فيما وصفه البعض مؤشرًا لاقتراب إعلاء دوي صفارات الحرب.
وصف الرياض للحكومة اللبنانية بأنها حكومة حرب، بالتزامن مع استقالة رئيس الوزراء سعد الحريري من قلب الرياض، والتراشق الإعلامي الواضح بين ولي العهد السعودي ووزير خارجيته من جانب في مقابل التحذيرات الإيرانية على لسان الرئيس حسن روحاني من جانب آخر، تشي إلى أن هناك أمر ما يعد له في الخفاء داخل المطابخ السياسية.
ورغم إعلان العديد من دول المنطقة مواقفها حيال هذا التصعيد وإلى أي الفريقين تكون الوجهة، هناك بعض العواصم ذات التأثير والثقل ما زالت تعاني من غموض واضح في الموقف من هذه الأزمة، وعلى رأسها القاهرة، وهنا تساؤل يفرض نفسه بقوة: ماذا لو قرعت الحرب طبولها في لبنان بين السعودية وفريقها من جانب وإيران وحزبها من جانب آخر.. إلى أي الطرفين سينحاز السيسي؟
العصا من المنتصف
من يقرأ تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على هامش مشاركته في منتدى شباب العالم الذي عقد في مدينة شرم الشيخ مؤخرًا بشأن الموقف المصري من التصعيد السعودي ضد لبنان يجد أن هناك رغبة واضحة لدى القاهرة في انتهاج سياسة مسك العصا من المنتصف وعدم الصدام مع أي من طرفي الأزمة.
السيسي خلال حوار مع قناة “سي إن بي سي” الأمريكية وحين سئل عن رأيه في الأزمة السعودية ـ اللبنانية، أجاب: “لا يمكننا دعم المزيد من الاضطرابات، فاستقرار المنطقة مهم جدًا وعلينا جميعًا حمايته، وأنا أتحدث إلى جميع الأطراف في المنطقة للحفاظ عليها”، وردًا على سؤال عما إذا كان الوقت قد حان لكي تنظر مصر في إجراءاتها ضد حزب الله، أجاب من دون الإشارة إلى الحزب أو غيره قائلًا: “الموضوع لا يتعلّق بذلك، المهم موضوع الاستقرار الهش في المنطقة في ضوء الاضطرابات التي تواجهها، فهي لا تستطيع تحمل المزيد من الاضطرابات.
وبسؤاله عن إمكانية توجيه ضربات عسكرية إلى إيران، تجنب السيسي الدخول في الموضوع مباشرة من خلال الإدلاء برأيه غير أنه أجاب بإجابات عائمة لكنها فسرت بعد ذلك في إطار أكثر تحديدًا، حيث قال: “لست مع الحرب، أنا ضد الحرب، لنا تجربة معها، إنها خسائر في كل شيء، خسائر مادية وبشرية، يمكن للحوار أن يجد حلًا لأزمات كثيرة موجودة، والمنطقة فيها ما يكفي ويجب أن نعلم أن أي حروب تحدث يكون لها تأثيرات فيما بعد”.
جاء موقف النظام المصري بعد قدوم السيسي من الملف الخليجي واضحًا خاصة بعد الدعم المالي الذي قدمته العواصم الخليجية خاصة الرياض وأبو ظبي في ترسيخ أركان هذا النظام وتعبيد الطريق له بعد التخلص من حكم الإخوان
ولم يوضح السيسي ما إذا كان قد يشارك في حرب لحساب حلفائه السعوديين أم لا، لكنه جدّد حديثه الذي بات تقليديًا بأن “أمن الخليج خط أحمر ويجب على الآخرين ألا يتدخلوا في شؤوننا، وكما نقول، إننا لا نريد حروبًا، عليهم أيضًا أن يحرصوا على ألا تصل الأمور إلى شكل من أشكال التصادم لأن هذا ليس من مصلحتنا كلنا”.
ورغم عدم تصريح السيسي باسم إيران أو حزب الله في تصريحاته، فإن وكالات الأنباء العالمية أشارت إلى هذا المقصد في تناولها لتلك التصريحات، اتساقًا مع مضمون السؤال المقدم، حيث خلصت إلى أن السيسي يرفض توجيه أي ضربة عسكرية إلى حزب الله في لبنان، في الوقت الذي يؤكد فيه على أن أمن الخليج خط أحمر، وهو ما يعني وفق الخبراء ازدواجية في التعاطي تعكس توجهًا واضحًا في محاولة إرضاء الجميع ولعل هذا ما تسبب في إضعاف دور مصر الإقليمي خلال السنوات الأخيرة.
فالسيسي يسعى إلى الحفاظ على علاقته بحلفائه الخليجيين لما قدموه من دعم غير مسبوق له منذ توليه مقاليد الأمور، حتى وإن لم يلب لهم طموحاتهم المأمولة، في المقابل لا يريد أن يخسر حليفه الروسي الدعم لإيران وتوجهاتها في المنطقة، حتى وإن لا تزال هناك بعد ملامح التوتر في العلاقات معه إثر سقوط الطائرة الروسية في سيناء 2015.
القاهرة – طهران.. موجات من المد والجذر
العلاقات المصرية الإيرانية من أكثر الملفات تعقيدًا في تاريخ العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط، تراوحت بين الفتور أحيانًا والتوتر والقطيعة أحايين كثيرة وهو ما انعكس على كثير من الملفات الإقليمية شديدة الحساسية خاصة في ظل ما تتمتع به الدولتان من تأثير إقليمي.
ويعود تاريخ العلاقات السياسية الرسمية بين الطرفين إلى ما قبل 139 عامًا تقريبًا، حيث يعود تبادل السفراء بين مصر وإيران في العصر الحديث عندما سمحت الحكومة العثمانية لإيران بعد توقيع معاهدة أرض روم بافتتاح مقار لسفاراتها في البلاد التابعة للدولة العثمانية ومن بينها مصر، وفي عام 1848 أرسلت إيران موفدًا لها لرعاية المصالح التجارية الإيرانية في مصر، بينما تم في عام 1869 إرسال أول سفرائها إلى القاهرة وكان يدعى الحاج محمد صادق خان.
بدأت العلاقات بتقارب عائلي حين تزوج شاة إيران رضا بلهوي، بشقيقة الملك فاروق الأميرة فوزية، لكن سرعان ما توترت الأجواء مجددًا عقب انفصالهما عام 1945، واستمرت الأجواء على ما هي عليه حتى رحيل الملك في أحداث ثورة 23 من يوليو 1952.
وفي عهد جمال عبد الناصر لم يختلف منحى العلاقات كثيرًا، حيث استمر العداء الواضح بين طهران والقاهرة، خاصة بعد دعم الأخيرة لرئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق ضد الشاة، وهو ما تسبب في زيادة الفجوة بينهما بصورة كبيرة، لتصل إلى أوج قمتها عند قيام حلف بغداد 1945 الذي شاركت فيه إيران.
بينما أخذت العلاقات في عهد السادات خطًا سياسيًا مختلفًا خاصة بعد هزيمة الكيان الصهيوني في حرب 1973 والتقارب مع الولايات المتحدة ومن ثم إيران حليفتها في المنطقة آنذاك، حيث شهدت العلاقات حالة من الاستقرار والتوافق في كثير من المواقف، قبل الانقلاب عليه فيما بعد، لتدخل مرحلة أخرى من التأرجح بعد قدوم نظام مبارك.
لست مع الحرب، أنا ضد الحرب، لنا تجربة معها، إنها خسائر في كل شيء، خسائر مادية وبشرية، يمكن للحوار أن يجد حلًا لأزمات كثيرة موجودة، والمنطقة فيها ما يكفي ويجب أن نعلم أن أي حروب تحدث يكون لها تأثيرات فيما بعد
ومع ثورة 25 يناير، بدأت العلاقات بين طهران والقاهرة تسير نحو مزيد من التقارب خاصة في فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي والذي زار طهران خلال افتتاح القمة 16 لحركة عدم الانحياز، ليعد أول رئيس مصري يزور إيران بعد الثورة الإسلامية 1979، إلا أن هذا لا يعفي نشوب بعض الخلافات نظرًا لتباين وجهات النظر حيال الملف السوري على وجه الخصوص، وذلك قبل أن تتحول القاهرة بصورة كاملة صوب الخليج ما بعد 2013 لتنعكس هذه القفزة على مستقبل العلاقات مع طهران بصورة ملفتة للنظر تميزت بالتذبذب والغموض والضبابية.
ويمكن القول إن تصاعد منحنى التوتر في العلاقات بين البلدين طيلة العقود الماضية يعود لمحاولات ثلاثة، أولها: دعم القاهرة للنظام البعثي العراقي خلال حربه ضد إيران والمشاركة فيها، الثاني: الاتهامات المتعلقة بمحاولة قلب نظام الحكم في مصر إبان فترة السادات وما كان لها أثر سيء على العلاقات فيما بعد، خاصة فيما يتعلق بتخليد اسم قاتل السادات وإطلاقه على أحد أكبر شوارع طهران، الثالث: الحديث عن مساعي إيران لنشر التشيع في مصر.
https://www.youtube.com/watch?v=s5ThITEz9z8
السيسي وأمن الخليج
وفي المقابل جاء موقف النظام المصري بعد قدوم السيسي من الملف الخليجي واضحًا خاصة بعد الدعم المالي الذي قدمته العواصم الخليجية خاصة الرياض وأبو ظبي في ترسيخ أركان هذا النظام وتعبيد الطريق له بعد التخلص من حكم الإخوان والقضاء على ما تبقى من ثورة 25 يناير.
الأرقام الخاصة بما قدمته دول الخليج لنظام السيسي متباينة لكنها تتجاوز وفق إحصائيات البعض حاجز الـ90 مليار دولار منذ 2013 وحتى الآن، هذا بخلاف الأموال المنفقة لدعمه لوجستيًا من خلال تمويل بعض المنصات الإعلامية والكيانات السياسية.
لذا حرصت القاهرة في أكثر من مناسبة على التأكيد على أمن الخليج والحفاظ عليه والتصدي لكل من يحاول العبث به، من قريب أو بعيد، استنادًا إلى جملة السيسي الشهيرة “مسافة السكة”، ولعل هذا ما يفسر استمرارية الدعم الخليجي رغم تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات على رأسها الملف السوري واليمني.
هناك رغبة واضحة لدى القاهرة في انتهاج سياسة مسك العصا من المنتصف وعدم الصدام مع أي من طرفي الأزمة
ففي الملف السوري غرد السيسي بعيدًا عن القبلة السعودية في كثير من الأحيان، حيث اختار ضمنيًا الوقوف إلى جانب الفريق الروسي الداعم لنظام بشار الأسد، وهو ما تجسد في التصويت للقرار الروسي في أكتوبر 2016 ضد اتخاذ أي قرار أممي يدين نظام الأسد أو يفرض عقوبات عليه، ثم أكد عليه مرة أخرى بعد ذلك خلال تصويت القاهرة على مشروعي موسكو وباريس في نفس الوقت ما أثار حفيظة الرياض حينها بصورة كبيرة.
ونفس الموقف تقريبًا من الملف اليمني، حيث تحفظت القاهرة على التدخل البري في الأراضي اليمنية، وكانت مشاركتها في عاصفة الحزم مشاركة صورية إعلامية أكثر منها عسكرية، لتقف في النهاية على خط الحياد مكتفية بالتصريحات الرامية إلى حلحلة الأزمة سياسيًا عن طريق المفاوضات وهو الموقف الذي تتبناه موسكو وطهران في آن واحد.
ورغم تباين وجهات النظر أحيانًا مع القاهرة، فإن الموقف المتأزم لدول الخليج خاصة السعودية في اليمن وسوريا والتصعيد الأخير مع إيران يدفعها لأن تتمسك بعلاقاتها القوية مع نظام السيسي إما من أجل الحصول على خدماته عندما تطلب ذلك وعبر الطرق المعروفة والتي تجيدها الرياض وأبو ظبي جيدًا، أو الحيلولة دون تقارب مع إيران.
https://www.youtube.com/watch?v=uF5zElxPRlI
الأزمة اللبنانية تحرج القاهرة
التصعيد السعودي الأخير ضد لبنان في أعقاب استقالة سعد الحريري وما تلاها من تداعيات سياسية وصلت إلى حد التراشق بين الرياض وطهران والتلويح بالحرب والتحذير من رد الفعل، وضع القاهرة في موقف حرج جدًا، خاصة أنها – القاهرة – حريصة على عدم الصدام مع أي من طرفي الأزمة.
المشهد السياسي في لبنان حاليًا منقسم إلى قسمين: الأول يتحدث عن استبعاد اشتعال أي حرب في الوقت الراهن، خاصة أن دولة الاحتلال غير مستعدة الآن لشن مثل هذه الحرب ضد حزب الله، وبالتالي فإن تل أبيب لن تنصاع لرغبة الرياض في المشاركة معها في هذه الخطوة، كما أن المملكة من الصعب أن تفتح جبهة جديدة للقتال حاليًا في الوقت الذي تعاني منه في اليمن.
القسم الثاني: يرى أن استقالة الحريري، والأجواء التي تبعتها، لا يمكن أن توضع في إطار اعتيادي، فليس من المعقول أن تكتفي المملكة بحجز الحريري ومنعه من السفر، كما جاء على لسان رئيس حزب الله حسن نصر الله في خطابه الأخير، فبالتأكيد وجود الحريري في الرياض وكواليس استقالته، ليست المُبتغى دون خطوة قاسية تتبعها، وهي بالتأكيد خطوة ستُزلزل الوضع العام، ودعوة دول الخليج رعاياها مُغادرة لبنان، قد يُفسّر بعض النوايا من وراء قرار الاستقالة.
بحسب الخبراء فإن التصعيد السعودي ضد حزب الله وإيران على وجه العموم يعكس بشكل واضح المأزق الذي تواجهه الرياض وتحالفها العربي في اليمن، وأن ما يسعى إليه محمد بن سلمان من وراء هذه الحملة الإعلامية والسياسية ضد بيروت لا يعدو كونه نوعًا من الضغط على طهران من باب نقل الأزمة إلى لبنان، ومن ثم ستتحدد ملامح التصعيد بناءً على رد الفعل الإيراني على هذا الضغط الممارس.
ومع ذلك من المتوقع أن تبقى القاهرة على معادلتها التوازنية التي تعتمد على مسك العصا من المنتصف، محذرة من شن أي عمليات عسكرية هنا أو هناك، في محاولة منها لعدم خسارة أي من طرفي الصراع، وإن كان هذا يتوقف على قدرة أي من الطرفين على مغازلة نظام السيسي باللغة التي يفهمها وحينها قد تتغير التوجهات وتتبدل الأوضاع.