كان قد قرر عملاق تكنولوجيا مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أن يطوّر من لوغاريتميات المنصة، لا ليجعلها أكثر احترافية في جعل الناس أكثر اتصالًا ببعضهم البعض حول العالم كما يقول دومًا، بل ليجعل المنصة قادرة بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي، أن تتنبأ بمن سيُنهي حياته في فيديو فيسبوك المباشر القادم.
استطاع مستخدمو المنصة نشر محتوى مختلف يعبر عن حالتهم المزاجية السيئة، فكان حساب المرء الشخصي كافيًا للتنبؤ بحالته الحالية، تطور الأمر واستخدم الكثيرون المنصة كوسيلة لطلب المساعدة، عن طريق نشر منشورات تُعبر عن حالتهم النفسية المتعبة أو نشر صور لهم تعبر عن حالة الاكتئاب التي أصابتهم كنوع مختلف من الاستغاثة في عالم مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن الأمر تحوّل في السنوات الأخيرة من مجرد منشورات إلى فيديوهات ومقاطع مباشرة لبعض المستخدمين قرروا إنهاء حياتهم في مقطع مباشر على منصات التواصل الاجتماعي.
كانت مواقع التواصل الاجتماعي جنة لكل من كان يشعر بالوحدة واحتاج المشاركة والشعور بالانتماء لمجموعة من الناس تُعجب بمشاركاته وتعيد نشر المحتوى الذي ينشره، حتى ولو كان مجموعة من الأصدقاء الافتراضيين على مواقع للتواصل فقط، وكانت ملجأ لكل من تعرض لصدمات نفسية على مختلف الأصعدة، فوجد أن المنصات مكانًا يُشعره بأن العالم يستطيع رؤيته والاستماع إليه بل ومواساته في بعض الأحيان.
كانت أكثر الحوادث تطرفًا من المستخدمين الذين يعانون اضطرابات نفسية، هي محاولتهم للفت انتباه أصدقائهم ودوائرهم إليهم وإلى معاناتهم من خلال بث مقاطع مباشرة Live على كل من فيسبوك أو تويتر أو إنستجرام، يصورون فيه أنفسهم يتحدثون عن معاناتهم النفسية وأسبابها، ويتبعونها بالانتحار أمام أعين المشاهدين، في مشهد قد يصيب المشاهدين للمقطع بالشعور بالتخدير أكثر من الفزع والهلع.
أدوات جديدة للتنبؤ بمن سينتحر قريبًا!
بعض الكلمات المستخدمة بكثرة من المستخدمين المضطربين نفسيًا بحسب الدراسة
بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية WHO، فإن هناك شخصًا ينتحر كل 40 ثانية، ليكون الانتحار ثاني مُسبب للموت بين الفئة العمرية 15- 29 على مستوى العالم، وبعد انتشار مقاطع الفيديو المصورة لمستخدمين يستغلون خاصية الفيديو المباشر على مواقع التواصل الاجتماعي لتصوير أنفسهم، قررت مواقع التواصل الاجتماعي لتكون لوغاريتمياتها قادرة على التنبؤ بالمرضى النفسيين بشكل أكثر حرفية من الأطباء المُدربين.
هل ستُفرق أدوات مواقع التواصل الاجتماعي بين منشور يوحي بأن المستخدم يمر بوقت سيء أو أنه بالفعل مضطرب نفسيًا؟ الإجابة هي نعم، تستخدم أدوات مواقع التواصل الاجتماعي خاصية “التعلم الاستقرائي” أو التعلم بالمراقبة” supervised learning”، وهو منهج تعلم الآلة، حيث تحلل الآلة مجموعة من البيانات على هيئة مُدخلات، تستخدمها لتكوين معادلة تقوم من خلالها بتطبيقها من أجل تحليل مجموعة من البيانات الأخرى لتُقارنها بالبيانات الأولى ومن ثم تقوم بالاستنتاج.
بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية، فإن هناك شخصًا ينتحر كل 40 ثانية، ليكون الانتحار ثاني مُسبب للموت بين الفئة العمرية 15- 29 على مستوى العالم
“آيهان أوزون” أب تركي قام بالانتحار على فيسبوك لايف بإطلاق النار على رأسه بحسب وسائل الإعلام التركية
تحلل الآلة اللغة المستخدمة من المستخدمين للمنصات المختلفة، وعلى أساسه، تتنبأ بالتغيرات الموجودة في المحتوى، ومن ثم تتطبق المعادلات الخاصة بتحليل البيانات السابقة وتقارن ومن ثم تتنبأ بمنشورات مستقبلية سينشرها المُستخدم قريبًا على حساباته.
تشخص الآلة التغيير في اللغة المستخدمة من المضطربين نفسيًا، لتُقسم بعض الكلمات مثل “أبدًا، لا، موت” في فئة من الكلمات التي تشير إلى احتمالية كون المستخدم يتعرض لنوبة من الاضطرابات النفسية أو يكون مريضًا بالاكتئاب على سبيل المثال، وتُحلل منشوراته واحدًا تلو الآخر وبناءً عليه تستطيع التنبؤ بوضعه النفسي في المستقبل القريب لتُحذر من أن هذا المستخدم بالتحديد من الممكن جدًا أن ينتحر قريبًا.
دكتور “تويتر” النفسي!
تحليل الصورة المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديد أكثر أنواع “التصفية” أو “Filters” المستخدمة على تعديل الصورة من قبل المرضى النفسيين
نشرت المجلة العلمية “ساينتيفك ريبورتس” دراسة جديدة أجراها فريق من قسم علم النفس بجامعة هارفرد، على استخدام أدوات ولوغاريتميات تويتر في تشخيص ما يقرب من 204 مستخدمين، بعد تطوير نماذج حسابية للتنبؤ بظهور الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، استطاعت اللوغاريتميات أن تستخلص المؤثرات التي تؤثر على النمط اللغوي للمستخدمين، وذلك عن طريق خوارزميات التعلم عن طريق التعلم بالمراقبة “supervised learning”، لتكتشف في النهاية أن 105 من مستخدمي تويتر الخاضعين للدراسة مصابين بالاكتئاب من أصل 204 مستخدمين.
تقدم الدراسة نماذج للأنماط اللغوية المستخدمة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستطيع الآلة عمل مسح “Screening” لها من خلال آلية التعلم بالمراقبة، أو بالإشراف من خلال مراقبتها للمنشورات بشكل عام
لا تهدف الدراسة إلى تحديد أرقام تستنج النمط العالم لسلوك المرضى النفسيين للمجتمع بأكمله على منصات التواصل الاجتماعي، ذلك لعدم استخدام كثير من الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو اضطرابات ما بعد الصدمة لمواقع التواصل الاجتماعي من الأساس، فلا يمكن للدراسة استخدام هذه الأرقام البسيطة لتحقيق نظرية ما بالتعميم، ولكن إن كانت ستثبت شيئًا، فهو أن خوارزميات مواقع التواصل الاجتماعي قادرة على التنبؤ بالمرضى النفسيين بأسلوب لا يقل عن الأطباء المهنيين.
تقدم الدراسة نماذج للأنماط اللغوية المستخدمة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تستطيع الآلة عمل مسح “Screening” لها من خلال آلية التعلم بالمراقبة، أو بالإشراف من خلال مراقبتها للمنشورات بشكل عام، في آلية تجعلها قادرة على ملاحظة التغيّرات الحادثة في حالة المستخدم العقلية والمزاجية قبل أن يلاحظها المستخدم نفسه، وهو ما يتوقع الفريق القائم على الدراسة أن يكون له تأثير إيجابي في مجال الصحة العقلية.
على الرغم من أن اللوغاريتميات الخاصة بفيسبوك وإنستغرام وتويتر خاصة بالنمط اللغوي فقط، فمن المتوقع تطويرها في المستقبل القريب لتستطيع أن تقوم بمسح المحتويات البصرية من صور ومقاطع للفيديو ليحدد الذكاء الاصطناعي كذلك المحتويات التي لا علاقة لها بالاضطرابات النفسية أو الاكتئاب كما يفعل بالضبط مع المحتوى الكلامي.
خصوصية أم واجب!
https://twitter.com/technicallyron/status/899392104841039872
أنا لا أفهم الاكتئاب، تظن للحظة أنك فهمته بشكل كامل، ولكن بعد فترة تفقد السيطرة عليه لتجده موجودًا في كل مكان جالبًا معه أمراضًا أخرى “إحدى التغريدات التي جعلتها الدراسة ضمن البيانات “المدخلات” لآلية التعلم بالمراقبة”
يبدو الأمر أن مواقع التواصل الاجتماعي كرست أدواتها هذه المرة من أجل هدف نبيل، وهو منع الناس من إيذاء أنفسهم أو منعهم من الانتحار، في وسيلة لمنح الجهات المختصة بعلاج الأمراض العقلية والنفسية فرصة أفضل لتحديد الأمراض وتشخيص احتمالية المصابين بها قبل أن يتأخر الوقت كثيرًا، إلا أن المسألة لا تبدو نبيلة كليًا.
طورت منصة فيسبوك من أدواتها باستخدام الذكاء الاصطناعي كذلك لتكوين شبكات متصلة ببعضها البعض من مراكز طبية للمساعدة أو أطباء نفسيين على استعداد لعرض مساعدتهم على المستخدم الذي تنبأت المنصة أن عنده احتمالية كبيرة للانتحار
من بين كل المحتويات التي تساعد منصات التواصل الاجتماعي على ترويجها ونشرها ودعمها للوصول إلى أكبر عدد من الجمهور، لا يبدو أن محتويات الاضطراب النفسي والاكتئاب والانتحار شديدة النفع لعلاماتهم التجارية، حيث كان لمقاطع الفيديو المباشرة لمستخدمين قرروا الانتحار أمام المشاهدين ونشر المقطع على فيسبوك تأثيرًا سلبيًا على بقية المستخدمين، فمنهم من قرر التوقف عن استخدام المنصة كليًا لشعوره بتأثيرها على استقراره النفسي.
كما طورت منصة فيسبوك من أدواتها باستخدام الذكاء الاصطناعي كذلك لتكوين شبكات متصلة ببعضها البعض من مراكز طبية للمساعدة أو أطباء نفسيين على استعداد لعرض مساعدتهم على المستخدم الذي تنبأت المنصة أن عنده احتمالية كبيرة للانتحار أو للإصابة بالاكتئاب الحاد، ذلك من خلال نشر المنصة معلومات استنتجتها أدواتها مع الأطباء والمراكز المختصة وأحيانًا الجهات الأمنية أيضًا.
ربما لا يبدو الأمر نبيلًا كليًا، ذلك لأن المنصة تتعدى حدود خصوصية منشورات كل مستخدم لها، بالإضافة إلى نشرها بدون علم المستخدم مع المراكز المختصة لعرض خدماتها الطبية، وكذلك في محاولة لمنعه من شيء لم يحدث من الأساس، تجد منصات التواصل الاجتماعي ذلك واجبًا لحماية الشخص من إيذاء نفسه، ويجدها البعض تعدي واضح للخصوصية ونشر للمعلومات التي ربما لا تكون دقيقة بالشكل الكافي.
بعد تطوير أدوات مواقع التواصل الاجتماعي لتشمل الاتصالات الهاتفية والتسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو والصور كل ذلك بالإضافة إلى تحليلها النمط اللغوي المستخدم في المنشورات، ماذا تتوقع أن تكون نتيجة مسح وتحليل تلك الأدوات لمنشوراتك، هل تجد أن النتيجة ستكون أن لديك احتمالية للانتحار أو الإصابة بالاكتئاب؟