ترجمة وتحرير: نون بوست
قد يتخيل البعض أن صورة الأب أو الأم المثالية تتلخص في الجمال، والصحة، والثروة، والطيبة وغيرها من الخصال… وقد يكون أبناء هؤلاء الآباء المثاليين رائعين. ولكن، هذه الصورة لا توجد على أرض الواقع فلابد أن يمتلك الإنسان عيبا مهما حاول أن يكون مثاليا. وينطبق الأمر على أحد أهم أدوار الفرد في الحياة ألا وهو الأبوة أو الأمومة.
في هذا الإطار، تطرقت الأخصائية النفسية ليودميلا بيترانوفسكايا إلى الأخطاء التي قد تقع فيها الأم عند محاولتها أن تكون أما مثالية، وذلك من خلال كتابها، تحت عنوان “أمي في نقطة الصفر، دليل الإرهاق الأبوي”.
في واقع الأمر، من الرائع أن تتجسد الصفات المثالية في شخص الأم، ولكن لا يمكن أن تتوفر جميعها مهما حاولت الأم جاهدة بلوغ ذلك. ففي الواقع، تقتضي صورة الأم المثالية أن تكون متفرغة دائما لقضاء الكثير من الوقت مع طفلها، كما يجب أن تكون شخصية مستقلة ماديا ومعنويا، وقادرة على الاعتماد على نفسها. بالإضافة إلى ذلك، لا بد أن تكون الأم سعيدة ومستعدة دائما لتلبية احتياجات الطفل المعنوية. ولكن، هذا بطبيعة الحال أمر مستحيل نظرا لمشاغل الحياة العصرية بالإضافة إلى مصاعبها.
في الأثناء، تجد الأم نفسها في مواجهة العديد من متطلبات الحياة المتناقضة، التي من المستحيل أن تتماشى مع بعضها البعض، على غرار الرغبة في قضاء الكثير من الوقت مع طفلها والسعي إلى الاستقلال المادي. وبناء على ذلك، وبمجرد محاولة الأم السعي لبلوغ ذلك، تجد نفسها عاجزة عن تحقيق مرادها ما قد يؤثر عليها سلبا. ونظرا لهوس بعض الأهل بالوصول إلى مرتبة الأم المثالية، يصبح ذلك من المعوقات التي تحول دون تربيتها لطفلها بشكل سليم.
تمثل الصورة المثالية التي يروم الأهل رسمها، وسيلة مريحة جدا حتى ينقذ الولي نفسه من الاتهامات التي توجه له من قبل المجتمع على غرار الأقارب، والأصدقاء
من ناحية أخرى، وحتى في حال تمكنت الأم من امتلاك الصورة المثالية، بعد توفر كل عناصر هذه الصورة النموذجية، ستجد نفسها تفقد السيطرة وتحيد عن تلك الصورة، رغما عنها عند قيامها بأبسط الأمور المتعلقة بالطفل وتربيته. فعلى سبيل المثال، عندما تطلب الأم من طفلها غسل أسنانه قبل النوم ، من الممكن أن تواجه ردود فعل مختلفة، وقد تفاجئها حقا وتخرجها عن طورها. والجدير بالذكر أنه عندما تحاول المرأة أن تكون أما مثالية، فهي بالأساس تسعى لإرضاء طفلها. ولكن نظرا لطبيعة الطفل المتقلبة، فقد تثير غضبه أشياء بسيطة جدا وغير متوقعة، وبالتالي قد تنكسر بسهولة صورة الأم المثالية.
“صورة الأهل المثاليين قد تكون مضرة بالنسبة للطفل”
يحول السعي وراء بناء صورة مثالية للأب أو الأم دون تمكنهم من بناء علاقة فريدة من نوعها ومميزة مع الطفل. وعادة ما يقف هذا الأمر عقبة في وجه شخصية الأب أو الأم الحقيقية، نظرا لأن كليهما يحاول بلوغ الصورة المثالية. ونتيجة لذلك، يشعر الوالدان في الغالب بالتقصير وأنهما لا يقومان بما يجب فعله للوصول إلى ما يسعيان إليه، ما من شأنه أن يؤثر على علاقة الطفل بوالديه.
في سياق متصل، تمثل الصورة المثالية التي يروم الأهل رسمها، وسيلة مريحة جدا حتى ينقذ الولي نفسه من الاتهامات التي توجه له من قبل المجتمع على غرار الأقارب، والأصدقاء. وفي الأثناء، تكاد تكون الصورة النموذجية للأب أو الأم صورة نمطية يتم تطبيقها بصفة آلية، هربا من الانتقادات. في المقابل، قد لا يكون الانتقاد الذي يوجهه الأشخاص المحيطين بنا فيما يتعلق بتربية أطفالنا أمرا سلبيا، وإنما قد يكون من الجيد الاستماع إليه.
في بعض العائلات، تترعرع الفتيات خاصة على روح الكمال، حيث يجب أن تكون الفتاة جميلة، وطالبة ممتازة، ومؤدبة وذكية. كما ينبغي على الفتاة أن تكون مطيعة، أي أن تستجيب لأوامر والديها. ومن هذا المنطلق، تنشأ الطفلة بفكرة أن الاستجابة لكل تلك القوانين والأوامر والطلبات تعد السر وراء حصولها على رضا والديها. وفي حال أخلت بها فقد يتخلى أهلها عنها، مما يدفعها لبذل قصارى جهدها للحفاظ على مكانتها لدى والديها.
مع مرور الوقت، تكبر هذه الفتاة الصغيرة لتصبح أما مثالية تربي طفلها بالاستناد إلى الطريقة ذاتها التي نشأت هي عليها. ونتيجة لذلك، تراها تعمل على أن يكون كل شيء ذا صلة بطفلها مثاليا سواء كانت نظافته، أو طعامه، أو نظام حياته. وفي إطار السعي لتحقيق المثالية، لا تدرك هذه الطفلة التي أصبحت أما أن هذا الأمر سيجعلها فريسة الإرهاق العاطفي.
في خضم استعداد هذا النوع من الأمهات لولادة طفل، تجد المرأة تحاول أن تجتاز هذه المرحلة كما لو أنها بصدد اجتياز اختبار ما. في الأثناء، تسعى المرأة لأن يكون كل شيء كما يجب، من قبيل الحفاظ على نسبة سكر حمض الفوليك أثناء الحمل، ومراقبة الأمراض، وتأمين الأموال الكافية لرعاية الطفل. وأثناء الحمل، تقوم الأم المستقبلية بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية الهادئة وتناول الأطعمة المغذية، على أمل أنها سترزق بطفل مثالي بناء على اتباع هذه الخطوات.
ثم يولد الطفل وتنطلق الحياة الواقعية
مهما كانت المخططات المتعلقة بتربية ورعاية الطفل دقيقة، إلا أنه من الصعب تنفيذها بحذافيرها على أرض الواقع، خاصة عندما يتعلق الأمر بحياة إنسان آخر. ففي الغالب، لا يتصرف الطفل مثلما تتوقع الأم وإنما قد تتواتر بعض الممارسات المفاجئة والأمور غير المتوقعة. فعلى سبيل المثال، قد يبكي الطفل ويمرض، في حين تجد الأم ذات المنظور المثالي لكل شيء، نفسها عاجزة عن تهدئته، وذلك بغض النظر عن درجة حرصها ومتابعتها لطفلها فيما يتعلق بصحته ونظافته.
من ناحية أخرى، قد يولد الطفل ولديه بعض العيوب، كما قد تكون لديه بعض المشاكل في النمو أو النطق أو غيرها. وغالبا، ما تكون هذه الأمور صادمة بالنسبة للأم التي توقعت أن تكون أما مثالية لطفل مثالي. في مثل هذه الحالات، قد تتحول تجربة الأمومة إلى تجربة مؤلمة، حيث ستفقد المرأة مشاعر السعادة والبهجة لكونها أصبحت أما، كما ستكون فريسة ضغط نفسي وتعمد إلى إلقاء اللوم على نفسها بشأن أي خلل تلاحظه في طفلها. ونتيجة لذلك، تصاب الأم بخيبة أمل كبيرة بعد انهيار كل أحلامها.
وفقا لعلماء النفس، لا يحتاج الطفل إلى أم مثالية، وإنما يحتاج إلى أن يكون لديه أم مقربة منه، يشعر أنها برفقته كلما احتاج إليها
بغض النظر عن طبيعة أحلام الأم، عادة ما يكون الواقع مغايرا تماما. ففي إطار تجربة الأمومة، ستهمل الأم العديد من الأمور التي تعتبرها أحد العناصر المهمة للصورة النموذجية سواء لها أو لطفلها. ومع استمرار ذلك لفترة طويلة، سيتغير مزاج الأم وستكون حالتها العاطفية سيئة للغاية، في الوقت الذي ستعتبر فيه نفسها أما غير جيدة وأن كل شيء يسير نحو الأسوأ. علاوة على ذلك، ستتغلغل في نفسها فكرة أنها فاشلة في دور الأمومة. ونتيجة لذلك، تدخل المرأة في حالة من الإرهاق العاطفي والنفسي التي قد تتطور لتصبح اكتئابا.
من جانب آخر، قد لا تؤنب الأم نفسها، بل قد تلقي باللوم على طفلها، حيث قد ينتابها شعور بأنها ليست أما سيئة وإنما طفلها هو المخيب للآمال، ليس جميلا كفاية، أو ليس ذكيا كما تريد، وبالتالي لن يلائم الصورة المثالية التي رسمتها. ونتيجة لذلك، يوضع الطفل في خانة المتهم، ما قد يؤثر عليه سليا على مستوى صحته النفسية وعلاقته بأمه. في هذا الصدد، تتعدد السيناريوهات التي قد تلجأ لها الأم فيما يتعلق بهذا الجانب. فعلى سبيل المثال، قد تخبر الأم طفلها “أنت لست ابني” عندما يرتكب أي خطأ، أو قد تشعر بخيبة أمل فتحاول بناء خطط جديدة من أجله. أما إذا كان أصغر سنا، فقد تكتفي بمقارنته بالأطفال الآخرين في مثل سنه.
على ضوء هذه المعطيات، يمكن الجزم بأن الأم المثالية، ليست الشخص الذي يحتاجه الطفل وإنما على العكس. فمهما كانت الأم محبة لطفلها وتبحث عن الأفضل له وتسعى حتى يكون إنسانا ناجحا جدا ومتألقا ومتفوقا على جميع الأصعدة، إلا أنها قد تساهم بذلك في اهتزاز ثقته في نفسه بطريقة أو بأخرى. وبناء على ذلك، لا يعد الطفل في حاجة إلى أم مثالية. وتجدر الإشارة إلى أن علاقة الأم المثالية بطفلها تمر بالضرورة بالمراحل التالية:
- مرحلة الأحلام: وهي المرحلة التي تشرع خلالها الأم بالحلم والتخطيط لحياتها الجديدة المثالية مع طفلها.
- مرحلة الصدمة: التي تتصادم فيها المخططات والأحلام بالواقع، ويصبح كل شيء معقد في حين تحاول الأم إيجاد طريقة أخرى لتحقيق تطلعاتها.
- مرحلة فقدان الأمل: تشعر الأم خلال هذه المرحلة باليأس وخيبة الأمل وأن كل شيء يسير بطريقة سيئة وأنها فاشلة.
- مرحلة الإنكار: تتخلى فيها المرأة عن طفلها، من خلال تحميله مسؤولية فشل خططها.
في الواقع، وفقا لعلماء النفس، لا يحتاج الطفل إلى أم مثالية، وإنما يحتاج إلى أن يكون لديه أم مقربة منه، يشعر أنها برفقته كلما احتاج إليها، تساعده وتهتم بكل التفاصيل المتعلقة به، والأهم من كل ذلك، تحبه. في المقابل، تستهلك العلاقات التي تسعى فيها الأم إلى المثالية كل القيم المعنوية الحقيقية بين الطفل ووالديه. ففي مثل هذه الحالة، يصبح الطفل بمثابة التلميذ الذي ينتظر الحصول على تقييم ما من الأم، فإما قد يكون الطفل مثاليا أو مخيبا للآمال. ولكن، في الواقع، يتسم الطفل بالعديد من الخصال والطباع الصعبة أو الأخطاء، في حين يمكن الاهتمام بالجانب السلبي من شخصيته وتنشئته تنشئة سليمة.
لا يعتبر الآباء أشخاصا رائعين ولا سيئين، وإنما هم أفراد عاديون، يخطئون ويصيبون
وفقا لدونالد وينيكوت، لا يحتاج الطفل إلى أم مثالية، وإنما يحتاج إلى أم جيدة بما فيه الكفاية. وعلى العموم، حتى تكون الأم جيدة لا تحتاج لتطبيق خطوات معينة أو خاصة للغرض، وإنما يكفي أن توفر الرعاية والحماية والحب لطفلها. في الأثناء، قد تسيء الأم لطفلها وقد تتخلى عنه وترفضه في خضم سعيها لبلوغ صورة الأم المثالية.
في هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى أن المشاكل الحقيقية بين الأم وطفلها قد تتولد نتيجة بحث المرأة عن المثالية. فعندما يبكي الطفل تشعر بالغضب، وعندما يشعر بالحزن لا تساعده في الخروج من حالته العاطفية المزرية، كما لا تغفر له أخطاءه. ففي الغالب، تشعر الأم أن تصرفات طفلها تؤذي حلمها في أن تكون الأم المثالية. وفي هذا الإطار، تتمسك مثل هذه الأمهات بالصورة المشرقة للأم أكثر من حرصهن على مساعدة الطفل على تجاوز الصعوبات التي تواجهه نتيجة تقصيرهن تجاهه.
من جهته، أفاد دونالد لوينيكوت، أن الأم الأفضل هي التي تعترف منذ البداية بأنها ليست كاملة، علما وأن هذا الموقف يعد التصرف السليم. ففي الحقيقة، سيرتكب الوالدين العديد من الأخطاء في خضم تربيتهم لأطفالهم مهما اجتهدوا في البحث عن طرق جيدة للاهتمام بهم. وكلما حاول الأولياء كبت رغبتهم في بلوغ صورة العائلة المثالية، بات هناك فرصة أكبر للتواصل أكثر مع الطفل وبناء علاقة سليمة.
الحقيقة والطفل
على العموم، لا يعتبر الآباء أشخاصا رائعين ولا سيئين، وإنما هم أفراد عاديون، يخطئون ويصيبون. وبالتالي، لا بد أن يتقبل الطفل والديه كما هما ويتعاطى مع عيوب كليهما تماما مثلما يتحملان عيوبه ومتاعب تربيته. في الأثناء، من الضروري أن يعمل الوالدان على تقويم سلوك طفلهما ودفعه لتجاوز أخطائه، حيث لا يمكن التسامح مع بعضها خاصة إذا كانت تؤثر سلبا على شخصية الطفل. في المقابل، قد تكون بعض العيوب مقبولة وقد تعلم الطفل التصالح مع نفسه وقبولها مثلما هي.
من هذا المنطلق، يجب أن تدرك جميع الأمهات أن تمسكهن بصورة الأم المثالية لا يخدم مصلحة الطفل وإنما يخلق العديد من التأثيرات الجانبية على مستوى تكوينه وشخصيته. وفي إطار السعي لبلوغ مرتبة الأم المثالية، تتحول الأم إلى عكس ذلك، حيث تساهم في زعزعة صحة طفلها النفسية.
المصدر: غود هاوس