استطاعت المملكة العربية السعودية بمرور فترة زمنية لا بأس بها، أن تتحايل وتتمايل على عقول بعض الدول العربية، فمن السائد لدى الكثير من هذه الدول أن السعودية ليس لديها أي علاقات مع “إسرائيل”، بل إنها لن تقبل السلام مع الدولة الصهيونية إلا عندما تقبل بمبادرة السلام العربية التي أطلقها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002، وتقر بوجود فلسطين وتسمح لها بدولة على حدود 67، وفي حال التزمت تل أبيب بهذا، فلا مانع للدول العربية من التطبيع معها بشكل كامل.
من الواضح أن من يتابع عن كثب التطورات التي تمر بها المملكة خاصة بعد تعيين محمد بن سلمان وليًا للعهد، سيعلم جيدًا أن في الفترة الأخيرة تطورت علاقتها بـ”إسرائيل” حتى دون أن تقبل تل أبيب المبادرة العربية، بل وصارت القضية الفلسطينية على الهامش.
لذلك في هذا التقرير نستعرض أسباب تطور العلاقات بين الرياض وتل أبيب في الفترة الأخيرة، بالتركيز على مستقبل هذه العلاقات، إضافة إلى المسؤولين السعوديين الساعين لتوطيد العلاقات مع الكيان الصهيوني، من خلال زياراتهم لـ”إسرائيل” من فترة لأخرى.
هل حقًا زار ابن سلمان تل أبيب؟
في الـ7 من سبتمبر/أيلول 2017، توالت الأنباء عن أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قام بزيارة إلى “إسرائيل” سرًا والتقى برئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبحثا عددًا من القضايا المهمة، الأمر الذي أكدته عدد من الصحف الإسرائيلية وبعض الصحفيين الإسرائيليين، حيث كشف موقع “هيئة البث الإسرائيلي باللغة العربية” على لسان مراسله شمعون أران، أن أميرًا سعوديًا زار “إسرائيل” سرًا خلال الأيام الأخيرة، وبحث مع كبار المسؤولين الإسرائيليين فكرة دفع السلام الإقليمي إلى الأمام، مضيفًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عقد اجتماعًا مع أحد الشخصيات الخليجية الرفيعة دون التعريف بهويته.
كما أكد الصحفي الإسرائيلي آرييل كاهان في تغريدة له على موقع “توتير” يوم 10من سبتمبر/أيلول الماضي، أن من زار “إسرائيل” هو محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، وهو ذات الأمر الذي أكدته الصحفية الإسرائيلية نوغا تارنوبولسكي في تغريدة على ذات الموقع.
ظهرت بوضوح ملامح التقارب، عندما شارك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي أيزنكوت، مع رؤساء أركان جيوش كل من (السعودية والإمارات والأردن ومصر)، في اجتماع لقادة هيئة الأركان المشتركة الأمريكية المستضيفة للمؤتمر الثاني لدول التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”
السعودية تنفي.. و”إسرائيل” تعلن
بعد مرور عدة أسابيع على نشر خبر زيارة ابن سلمان لـ”إسرائيل”، نفى مصدر مسؤول بوزارة الخارجية السعودية الخبر يوم 22 من أكتوبر/تشرين الأول2017، مؤكدًا أن هذا الخبر عارٍ عن الصحة ولا يمت للحقيقة بصلة، وأضاف المصدر بأن المملكة كانت دائمًا واضحة في تحركاتها واتصالاتها وليس لديها ما تخفيه في هذا الشأن، مطالبًا وسائل الإعلام بتحري الدقة والحقيقة فيما تتداوله، لأنه لن يتم الالتفات إلى مثل هذه الشائعات والأخبار المعروف أهدافها ومن ورائها، ولن يتم التعليق عليها مستقبلًا ولا على ما يروجه الإعلام الكاذب المعادي تجاه المملكة العربية السعودية ومسؤوليها في هذا الخصوص.
والغريب في هذا أن النفي السعودي جاء بعد مرور أكثر من شهر على نشر الخبر، الأمر الذي جعل عددًا من المحللين يربطون التغاضي وعدم نفي خبر الزيارة بوجود مصالح مشتركة بين تل أبيب والرياض وذلك لمواجهة العدو المشترك بينهم (إيران وتنظيم داعش)، كما أنه قبل نفي الرياض للخبر، استبعد بعض المراقبين والدبلوماسيين في المنطقة، فكرة أن يكون ولي العهد السعودي شخصيًا هو من قام بالزيارة، لكنهم في الوقت نفسه توقفوا مطولاً عند عدم اكتراث المملكة للخبر طوال هذه الفترة وهو ما أثار الشكوك مجددًا بشأن التقارب السعودي ـ الإسرائيلي، مما يؤكد صحة هذه الأخبار.
ليس هذا فقط، بل ظهرت بوضوح ملامح التقارب، عندما شارك رئيس أركان الجيش الاسرائيلي غادي أيزنكوت، مع رؤساء أركان جيوش كل من (السعودية والإمارات والأردن ومصر)، وقادة هيئة الأركان في دول غربية ومن حلف شمال الأطلسي، وغيرها في اجتماع لقادة هيئة الأركان المشتركة الأمريكية المستضيفة للمؤتمر الثاني لدول التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش”، وذلك جاء بهدف تمكين “إسرائيل” من المشاركة في إدخال تعديلات على هيكلة المؤتمر للمشاركة فيه، رغم عدم مساهمة تل أبيب بشكل رسمي في هذا التحالف، بل إنها لم تتلق دعوة لحضور المؤتمر الأول لقادة التحالف، ليس هذا فقط ما يؤكد مشاركة “إسرائيل” في التحالف، بل إن وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون أعلن مشاركة دولته في التحالف، قائلًا: “من المحرج للدول العربية إعلان مشاركتنا في العلن”.
ليس هذا فقط، ففي السادس من سبتمبر/أيلول2017، أي قبل توارد الأنباء عن زيارة ابن سلمان لـ”إسرائيل” بيوم واحد، وصف نتنياهو خلال مشاركته في احتفال رفع الكؤوس احتفالاً بالسنة العبرية الجديدة في مبنى وزارة الخارجية في القدس الغربية، العلاقات مع الدول العربية بأنها الأفضل وتسجل رقمًا قياسيًا غير مسبوق في تاريخ هذه العلاقات، قائلًا: “التعاون مع الدول العربية أكبر من أي فترة كانت منذ إقامة “إسرائيل” وما يحدث اليوم مع كتلة الدول العربية لم يحدث مثله في تاريخنا، وعمليًا التعاون قائم بقوة وبمختلف الأشكال والطرق والأساليب رغم أنه لم يصل حتى الآن للحظة العلنية، لكن ما يجري تحت الطاولة يفوق كل ما حدث وجرى في التاريخ”.
الوقت حان لبعض الدول العربية التي تربطها علاقات سرية بـ”إسرائيل” للاعتراف علنًا بتلك العلاقات
رئيس الوزارء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
هذه الجملة أشار إليها “نتنياهو” في كلمته أمام مؤتمر رؤساء كبرى المنظمات اليهودية الأمريكية يوم 14 من فبراير/شباط 2016، مؤكدًا أن الدول العربية الأكثر اعتدالاً ترى “إسرائيل” كحليف وليست عدوًا، في الوقت الذي يجمعهم صراع مشترك ضد إيران وتنظيم داعش، ونظرة الدول العربية الرئيسية تغيرت تجاه “إسرائيل”.
“عشقي”.. مهندس التقارب السعودي ـ الإسرائيلي
لم يكن ابن سلمان من قام بزيارة لـ”إسرائيل” إذا صح ذلك، بل هناك بعض المسؤولين المقربيين من دوائر العائلة الحاكمة بالمملكة، وعلى رأسهم اللواء السابق في الجيش السعودي ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط أنور عشقي الذي التقي بعدد من المسؤولين الإسرائيليين، ليس ذلك فقط بل إنه من كشف نوايا التطبيع السعودي مع “إسرائيل“، وذلك خلال مقابلة مع موقع هيئة الإذاعة الألمانية “دويتشيه فيله”، موضحًا أن السعودية ستبدأ التعامل مع “إسرائيل” بعد أن ضمت جزيرتي “تيران وصنافير”، فالجزيرتان تُجبران السعودية و”إسرائيل” على التنسيق، باعتبار مضيق “تيران” مياهًا دولية ستعبر فيه سفن من وإلى الأراضي المحتلة.
مضيفًا أن التطبيع السعودي الإسرائيلي يعتبر ضامنًا للسلام، قائلاً: “أهم الأوراق التي تملكها المملكة هي التطبيع مع “إسرائيل”، لأن هذه أكبر ضمانة الآن لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، لأنه إذا طبّعت المملكة مع “إسرائيل” سوف تطبع الدول الإسلامية كلها معها”.
لم يكن هذا هو التصريح الوحيد لعشقي عن التطبيع مع “إسرائيل”، بل أجرى عددًا من المقابلات مع بعض القنوات الإسرائيلية، مؤكدًا ذلك بشكل ضمني، ومن الغريب أن عشقي يصدر العديد من التصريحات عن السلام مع “إسرائيل” ثم يعود مرة أخرى إلى المملكة دون أن يصدر ضده أي عقوبات أو حتى نفي، الأمر الذي يوضح إقرار النظام السعودي بهذه التصريحات، حتى وإن خرجت أقاويل تشير إلى أن عشقي لا يمثل الحكومة السعودية، لأنه من أكثر الشخصيات المقربة للنظام السعودي.
أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أن خبراء أمريكيين يرون أن محمد بن سلمان، يؤمن بضرورة تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” في المستقبل
لم يقتصر الأمر على عشقي، بل إن مدير الاستخبارات السعودية السابق تركي الفيصل أجرى أيضًا لقاءً مع صحيفة “هارتس الإسرائيلية” في سبتمبر 2015، وكالعادة الموقف السعودي الرسمي كان غائبًا ولم ينف شيئًا، إضافة إلى ذلك يمكن القول إن السعودية و”إسرائيل” تربطهم عدد من الملفات المشترك، أهمها الملف الإيراني، حيث تعتبر طهران العدو المشترك بالنسبة للجانيين، وأيضًا وجود الحليف المشترك بينهم وهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أشار ذات مرة خلال زيارته لتل أبيب، أنه لمس “شعورًا إيجابيًا” لدى السعوديين تجاه “إسرائيل”.
هل ستعترف السعودية علنًا بعلاقتها بتل أبيب؟
هذا السؤال يتبادر في أذهان الكثيرين، محاولين وضع إجابة واضحة له، لذلك لا بد من الإشارة إلى أنه في الوقت الحاليّ لم تستطع المملكة أن تعلن علاقتها مع الكيان الصهيوني بشكل رسمي، نظرًا لما تمثله المملكة من مكانة روحية ومعنوية لدي العرب والمسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها، ولأسباب تتعلق بشكل النظام السعودي أمام الدول الأخرى، وفي المقابل لا يستطيع الطرف الآخر (إسرائيل) إخفاء هذه العلاقات طويلًا، لذلك تحاول “إسرائيل” في هذه الفترة إعلان أن القضية الفلسطينية لم تعد مهمة بالنسبة للدول العربية، بل إيران والإخوان ضمن أجندات هذه الدول.
وأخيرًا لا بد من الإشارة إلى ولي العهد السعودي ابن سلمان الذي يعمل على إدخال عدد من التغيرات على سياسية المملكة، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيتجه ابن سلمان لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني عندما يصبح حاكمًا للمملكة؟ حيث أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، أن خبراء أمريكيين يرون أن محمد بن سلمان، يؤمن بضرورة تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” في المستقبل، لكنهم رغم ذلك يشككون بأن يأخذ دورًا مركزيًا في المفاوضات بين “إسرائيل” والفلسطينيين، الأمر الذي يجعلنا نتوقع يومًا ما قيام ولي العهد السعودي بإعلان سياسة المملكة الجديدة مع “إسرائيل” قريبًا أم بعيدًا.