في التوقيت الذي أجرى فيه مدير وكالة الطاقة الذرية، رافايل غروسي، زيارة لدمشق، تعدّ الأولى لموظفي الوكالة الدولية التي تتخذ من فيينا مقرًّا لها منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وقّع النظام السوري مذكرة تفاهم مع شركة “روساتوم” الحكومية الروسية للطاقة النووية، بخصوص تطوير التعاون في مجال “التطبيقات غير المتعلقة بالطاقة للتكنولوجيات النووية للأغراض السلمية”، ليبدو أن زيارة مدير الوكالة كانت بدفع روسي.
وأعلن غروسي بعد الاجتماع برئيس النظام السوري بشار الأسد، الاستعداد لبدء العمل على استئناف الحوار الرفيع المستوى بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وسوريا، مع التركيز على بناء الثقة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية في سوريا.
وتهدف الزيارة إلى استئناف تحقيق متوقف كانت الوكالة تجريه بنشاط في أحد المواقع (موقع الكبر) في ريف دير الزور لإنتاج البلوتونيوم للأسلحة النووية، قبل أن تقصفه “إسرائيل” عام 2007، حيث طلبت الوكالة معلومات عن مواقع أخرى ربما تكون مرتبطة بالمنشأة.
وبعد الزيارة بيومَين، أعلنت شركة “روساتوم” الحكومية الروسية للطاقة النووية، عن توقيع مذكرة تفاهم لتطوير التعاون في مجال “التطبيقات غير المتعلقة بالطاقة للتكنولوجيات النووية للأغراض السلمية”.
وقال مدير هيئة الطاقة الذرية التابعة للنظام، إبراهيم عثمان: “بناءً على اتفاقية التعاون في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية الموقّعة بين سوريا وروسيا، وعلى مذكرة التفاهم حول التطبيقات السلمية في المجالات غير الطاقوية، تمّ وضع خطة تنفيذية لهذا الاتفاق، تشمل توريد بعض النظائر المشعّة ذات الاستخدامات الطبية إلى سوريا، وبعض النظائر المستخدمة في الاختبارات اللاإتلافية التي يتم إجراؤها لأنابيب النفط وخزانات الوقود والطائرات”.
ما مصلحة روسيا؟
يبدو من خلال تركيز المذكرة على توريد النظائر المشعّة التي تستخدم في صيانة أنابيب النفط، أن الخطوة تخدم توجُّه روسيا نحو الاستحواذ على قطاع النفط في سوريا، حيث تمهّد روسيا الأرضية في سوريا لشركاتها النفطية.
وفي هذا الإطار، يؤكد الكاتب المختص بالشأن الروسي طه عبد الواحد لـ”نون بوست”، أن المذكرة تخلو من خلفيات سياسية، ويقلّل من التأثيرات الاقتصادية لها، على اعتبار أن ليس لدى النظام السوري القدرة المالية التي تمكّنه من إنشاء مشاريع نووية في هذا التوقيت.
وبهذا المعنى، يرى أن المذكرة من شأنها تعزيز المجالات للشركات الروسية العاملة في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، مثل مجال الطب والنفط، وقال: “المذكرة تمنح الإطار القانوني للشركات الروسية في سوريا في الوقت الراهن”.
واستدرك عبد الواحد بقوله: “لكن المذكرة تمنح روسيا المفاتيح لدخول السوق السورية مستقبلًا، في حال تمّ تطوير قطاع الطاقة النووية في سوريا للأغراض السلمية”.
وبحسب تفسيره، تمهّد المذكرة لزيادة التعاون بين روسيا والنظام السوري، ما يعني أن مصلحة روسيا واضحة، بحيث تخطط موسكو لتحقيق المكاسب المادية الآنية والمستقبلية بسوريا في هذا القطاع.
وطالبت روسيا أكثر من مرة بإغلاق ملف سوريا النووي، لكن الدول الغربية رفضته على اعتبار أن “الملف النووي السوري لم يغلق بعد، لحين إكمال مفتشي الوكالة أعمال الرصد والتحقق بشأن المنشآت النووية السورية والمرافق التابعة لها”.
ويبدو أن روسيا تدفع نحو إغلاق ملف سوريا النووي في إطار توجُّهها نحو تسوية أوضاع النظام السوري مع الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، خدمةً لإعادة تعويم النظام السوري دوليًّا وإقليميًّا.
تزامنًا، كشفت وكالات أمريكية أن “الأسد قد يكون مستعدًّا لحلّ الأسئلة حول موقع الكبر النووي الذي دمّرته إسرائيل قبل نحو 20 عامًا”، مؤكدة أن “اللقاء بين الأسد وغروسي من شأنه تجديد التحقيق المتوقف منذ سنوات حول المفاعل”.
تحرُّش بالولايات المتحدة
لا يمكن بحسب الكاتب والمحلل السياسي باسل المعراوي، فصل المذكرة عمّا يجري من مشاحنات روسية أمريكية في المنطقة، موضحًا لـ”نون بوست” أنه “بعد الغزو الروسي لأوكرانيا انقطعت كل الاتصالات بين موسكو وواشنطن، وسقطت كل التفاهمات، وقد حاولت قاعدة حميميم التحرُّش بالقواعد الأمريكية في سوريا والطيران فوقها، وذلك للضغط على واشنطن لفتح قنوات اتصال، ولم تنجح في ذلك”.
وأضاف أنه بالتالي المذكرة لا تخرج عن إطار المناكفة الروسية للولايات المتحدة، أي تحريك ورقة النووي، بحيث تريد موسكو القول إنها تفكر في نقل التقنية النووية إلى سوريا، وأنها مستعدة للتفاوض، مستدركًا: “لكن روسيا والولايات المتحدة تدركان تمامًا أن الوضع الأمني والاقتصادي والعسكري لا يسمح بنقل هذه التقنية، خاصة في ظل تعدد الأطراف والميليشيات”.
ووفق المعراوي، لا نية لموسكو أبدًا في أي تعامل نووي مع النظام الذي لا يؤتمن على هكذا تقنيات، معتبرًا أن “روسيا حريصة على المواضيع الكبرى وتتصرف بمسؤولية في هذا الجانب، حيث لم تسهم من قبل في تطوير قدرات إيران النووية، ولن تفعل ذلك في سوريا”.
حماية الأنشطة النووية في سوريا
في المقابل، يشير الباحث الاقتصادي يونس الكريم إلى اشتراط وكالة الطاقة الذرية استمرار التحقيقات في ملف الكبر النووي، وزيارة مواقع أخرى في سوريا، قبل تطوير التعاون النووي لأغراض سلمية مع النظام، ويقول لـ”نون بوست”: “يتزامن كل ذلك مع أنباء تشير إلى وجود أنشطة نووية في الساحل السوري وحمص، وهي مناطق تنتشر فيها ميليشيات إيرانية”.
وبذلك، يعتقد الباحث أن هناك رغبة من الطاقة الذرية بمتابعة مكان الأنشطة، ومعرفة ما إن كان هناك أنشطة نووية إيرانية، ما يعني من وجهة نظره أن “المذكرة تأتي لحماية هذه الأنشطة من قبل روسيا، حيث تريد موسكو أن تتواجد بشكل قانوني في هذه المناطق، منعًا لقصفها من قبل الاحتلال الإسرائيلي”.
بجانب ذلك، تريد روسيا إرسال رسائل إلى السعودية وغيرها من الدول الطامحة بامتلاك برنامج نووي، مفادها أن الانضمام إلى الحلف الروسي في المنطقة يساعدها على تحقيق طموحها.
هل تسهم المذكرة في تحسين الخدمات الطبية؟
وبخصوص مساعدة المذكرة على تحسين الوضع الطبي، يقول باسل المعراوي، وهو طبيب سوري، إن المنظومة الطبية في مناطق سيطرة النظام منهارة بالكامل، وهي في حاجة إلى مستلزمات عديدة وأساسية تمسّ حياة الناس، قبل تزويده بالنظائر النووية المستخدمة في عمليات غسيل الكلى لمرضى القصور الكلوي والأورام.
لكن يونس الكريم يؤكد أن “المذكرة تساعد النظام السوري على إنشاء منظومة طبية متطورة، خاصة أن النظام يخطط لتحويل دمشق إلى ملاذ ضريبي آمن، أي ساحة لجذب الاستثمارات الطبية وغيرها”.
وخلاصة كل ذلك أن روسيا تريد إضافة سوريا إلى شركتها “روساتوم” الرائدة في مجال الطاقة النووية، لأهداف متعلقة بحساباتها الاقتصادية التي قد لا تتقاطع مع المصلحة السورية في هذا الجانب.