أعلنت مليشيا الدعم السريع في السودان، تكوين إدارة مدنية في ولاية الجزيرة، جنوبي العاصمة الخرطوم، “بغرض استعادة النظام الإداري وحماية المدنيين وتوفير الخدمات الإنسانية”.
ويطرح الإعلان الأخير تساؤلات مهمة عن صلة الكيان الجديد بالدعم السريع، ومدى قدرته على تحقيق أهدافه المعلنة، وليس نهاية برمزية الخطوة التي يعتقد البعض أنها تمهد لتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ وسيطرة، أسوةً بالنموذج الليبي.
مأساة الجزيرة
أُعلن عن الإدارة المدنية في وقتٍ تتزايد التهم بحق منسوبي الدعم السريع بارتكاب انتهاكات وفظائع في ولاية الجزيرة، وسط السودان، ترقى عند كثيرين إلى درجة جرائم الحرب والإبادة والتهجير القسري.
وأعلنت مبادرة “نداء الجزيرة” المستقلة، سقوط عشرات القتلى، وتهجير آلاف من سكان قرى الجزيرة بصورة قسرية – فقط – خلال أيام شهر رمضان الحاليّ.
وكانت الدعم السريع، قد ضمت ولاية الجزيرة لسلطاتها في 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عقب انسحاب الجيش السوداني بصورة مفاجئة من حاضرة الولاية، مدينة مدني، ما استدعى القوات المسلحة لتكوين لجنة للتحقيق في أمر انسحاب عناصر الفرقة الأولى من مواقعهم دون قتال.
وتقترب معركة كسر العظم بين الجيش والدعم السريع من دخول عامها الأول، وفي محصلتها منذ أبريل/نيسان 2023 وحتى يناير/كانون الثاني 2024، سقوط ما يزيد على 13.9 ألف قتيل، وتسجيل 27.7 ألف إصابة، مع فرار 8.1 مليون سوداني من منازلهم، في ظل تدمير غير مسبوق للبنى التحتية.
أصل الفكرة
جرى النص على إقامة إدارة مدنية في مناطق الحرب لأول مرة، ضمن بنود إعلان المبادئ الموقع في أديس أبابا، بدايات العام الحاليّ، بين المليشيا وتنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم)، حيث نص البند 5 على “تشكيل إدارات مدنية بتوافق أهل المناطق المتأثرة بالحرب، تتولى مهمة ضمان عودة الحياة لطبيعتها، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين”.
وعليه حظي تشكيل الإدارة ابتداءً بترحيب قادة التنسيقية، فأرسل القيادي في صفوفها، سليمان صندل، التهاني لمواطني الجزيرة بمناسبة انتخاب ممثلين لهم، ووصف في تغريدة على منصة أكس الخطوة بـ”الموفقة”.
ومن ثم وبعد أيام فقط، اتهمت التنسيقية، في بيان، مليشيا الدعم السريع بخرق إعلان أديس أبابا، والتنصل من مسؤولياتها في حماية المدنيين من الانتهاكات الواسعة التي تتم على يد عناصر الدعم السريع.
استقلالية
تزعم الإدارة المدنية المتكونة من 31 قيادي أهلي على رأسهم كادر حزب الأمة، صديق عثمان، أن تكوينها تم وفقًا لأسس ديمقراطية، مشددةً على استقلاليتها الكاملة وعملها بمعزل عن قوات الدعم السريع.
ومما قاله عثمان في عدة تصريحات أعقبت تسميته رئيسًا للإدارة: “لا نمتلك أي تبعية سياسية للدعم السريع”، وأعرب عن نيتهم الوقوف بقوة ضد أي انتهاكات تمارس ضد مواطني الولاية، من دون إعطاء توضيحات عن كيفية حدوث ذلك.
وتحظى الإدارة المدنية بمباركة قادة الدعم السريع باعتبارها مُعبرًا عن صوت الأهالي، مع دأب مستمر على إنكار أي وشيجة بين الطرفين بخلاف التنسيق الضروري فيما يخص مصلحة سكان الولاية.
ضرورة
يرى المحلل السياسي، إبراهيم سعد، أنَّ قيام الإدارة المدنية في الجزيرة أمر استدعته ضرورات مُلِحة، على رأسها إيجاد قنوات تواصل مع قادة الدعم السريع، لإعادة بعض مظاهر الدولة المفقودة، ووقف الانتهاكات ضد المدنيين العُزل، وتوصيل المساعدات الإنسانية للمستحقين.
وفي سياق مبرراته الأخرى لتكوين إدارة مدنية بالجزيرة، أكد سعد لـ”نون بوست” أنّ الدعم السريع وإن كانت تعمّدت عدم الإعلان عن حكوماتها الخاصة خلال الفترة الفائتة خشية إحداث انقسامات في أوساط السودانيين، تبدو اليوم مدفوعة لهذا الاتجاه، نتيجة ما يصفه بإصرار قائد الجيش على الحرب، ومضيه قدمًا في تشكيل سلطة أمر واقع من منفاه في بورتسودان.
رفض واسع
حظي إعلان الدعم السريع بتشكيل إدارة مدنية في الجزيرة برفض واسع من كيانات سياسية ومدنية، كما رفضت وزارة الخارجية السودانية التفريق بين الدعم السريع والإدارة المدنية، وقالت في بيان “عناصر الدعم السريع الذين قدمتهم بولاية الجزيرة على أنهم إدارة مدنية تبنوا خطاب المليشيا الدعائي بوصفهم للحرب التي شنتها في أبريل على أنها ثورة”.
وفي الصدد، وصفت لجان مقاومة مدني (كيان شعبي داعم للحكم المدني والانتقال الديمقراطي) في بيان الإدارة المدنية بأنها داعمة لما تنعته بـ”حوكمة القتلة”، وقالت اللجنة: “نرفض رفضًا قاطعًا التمثيل المباشر وغير المباشر العسكري والمدني، وكل أشكال معاونة الدعم السريع”.
وفي ذات القضبان سار الصحفي عامر مهدي، بتوصيفه إعلان الدعم السريع تشكيل إدارة مدنية في الجزيرة بأنه محاولة لتجميل صورة المليشيا المملوءة بالندوب والتشوهات، على حد تعبيره، وقال مهدي لـ”نون بوست” إن الدعم السريع تحاول تخليق واجهة سياسية ومشجب لتعلق عليه أخطاءها وجرائمها، وقد وجدت ضالتها فيما يسمى بالإدارة المدنية المُعلن عنها أخيرًا.
وزاد: “ما أدّل على ذلك من تنامي وتيرة الانتهاكات ضد المدنيين في الجزيرة منذ الإعلان عن ميلاد الكيان الجديد”، وشدد على أن “الدعم السريع عبارة عن مليشيا عسكرية، عقيدتها هي المغنم من المواطن الأعزل، ولا صلة لها بالحكم وإدارة شؤون الدولة”.
وبين مؤيدٍ ورافضٍ للإدارة المدنية في الجزيرة، يبقى المحك في التجربة ذاتها، فنجاحها سيغري الدعم السريع لإعلان حكومتها الخاصة مستقبلًا وتحقيق حلم الدولة، بينما فشلها سيكون دليلًا على صوابية الشعار الشهير الذي يرفعه المحتجون المطالبون بالحكم المدني “ما في مليشيا بتحكم دولة”.