“نشر الأوبئة الفتاكة ضد الفلسطينيين سيكون نتيجة إيجابية وسط الحرب العشوائية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة المحاصر”، دعوة صريحة وجهها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، جيورا آيلاند، لجيش الاحتلال لخلق ظروف تحصد أرواح أكبر عدد ممكن من المدنيين في غزة بسبب أمراض يمكن الوقاية منها.
صاحب هذه الدعوة هو آيلاند الذي ترأس سابقًا مجلس الأمن القومى الإسرائيلي، ويعمل حاليًا مستشارًا رسميًا لوزير الدفاع يوآف غالانت، الذي سبق آيلاند بتصريحاته المتطرفة حين طالب بفرض حصار كامل على القطاع، ووصف بعد يوم واحد من بدء الحرب على غزة الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”.
في مقال افتتاحي نُشر في النسخة العبرية من صحيفة “يديعوت أحرونوت”، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال آيلاند: “تحذيرات المجتمع الدولي بشأن كارثة إنسانية خطيرة وانتشار الأوبئة الشديدة في غزة لا ينبغي أن تردع إسرائيل، فجميع سكان غزة أهداف مشروعة، وفي نهاية المطاف، تفشي الأوبئة الشديدة في جنوب القطاع سوف يجعل النصر أقرب، ويقلل من الخسائر في صفوف الجنود، ويمكن أن يساعد إسرائيل على تحقيق أهدافها الحربية”.
Israeli general Giora Eiland in today’s Yediot Ahronot: “The international community is warning us against a severe humanitarian disaster and severe epidemics. We must not shy away from this. After all, severe epidemics in the south of Gaza will bring victory closer (…)” /1 pic.twitter.com/pUtaTNHzCs
— Hanno Hauenstein (@hahauenstein) November 19, 2023
رغم ما تحمله هذه التصريحات من دعوة صريحة للإبادة الجماعية، فإنها كانت مجرد اقتراح من بين الكثير من المقترحات المثيرة للجدل التي طرحها كبار المسؤولين داخل وخارج حكومة الاحتلال الإسرائيلي كوسيلة لتسريع إنهاء الحرب المتعثرة في غزة، ويأتي بعد أيام من اقتراح آخر أكثر تطرفًا لوزير شؤون القدس والتراث الإسرائيلي، أميهاي إلياهو، الذي دعا أكثر من مرة إلى قصف غزة بسلاح نووي بهدف تهجير الفلسطينيين من القطاع.
ومنذ بدء المنافسة بين بعض الشخصيات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة حول من يمكنه اقتراح التكتيكات الأكثر تطرفًا في العدوان على غزة، يبدو أن حكومة الاحتلال أخذت مقترح إيلاند على محمل الجد، وشرعت في تنفيذه على الأرض، رغم ما بدا ظاهريًا أنه لاقى انتقادات في الأوساط الإسرائيلية باعتباره تكتيكًا رسميًا للحرب، لكن المحللين يقولون إن سياسات “إسرائيل” الحاليّة تتفق مع استخدام المرض كسلاح أكثر فتكًا من الأسلحة والقنابل.
تكتيك قديم
قد تبدو مثل هذه التصريحات الهمجية مجرد هذيان، لكن في الواقع، كان إلحاق الموت والبؤس المتعمد من خلال الأمراض المعدية وإخضاع السكان لظروف بيئية وصحية تسهِّل انتشار العدوى الجماعية عنصرًا حاسمًا في عمليات الإبادة الجماعية التاريخية، بما في ذلك ما حدث في المحرقة أو الهولوكوست، حين انتشرت الأمراض المعدية في معسكرات الاعتقال، وخضع اليهود للتجارب الطبية النازية.
قرار “إسرائيل” بخلق ظروف غير صالحة للعيش في غزة يندرج تحت تعريف الإبادة الجماعية، الذي لا يشمل العنف العسكري المباشر فحسب، بل أيضًا فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى التدمير الجسدي
على مر التاريخ، كانا الحرب والمرض رفيقين مسؤولين عن نسبة كبيرة من المعاناة الإنسانية والموت، حيث تستغل الأمراض المعدية الظروف التي خلقتها الحرب، للتأثير على الجيوش والمدنيين على حد سواء، وبالتالي تصبح هذه الأمراض بمثابة “الجيش الثالث”، كما هو الحال في الحروب التي شُنًّت على السكان الأصليين في الولايات المتحدة وكندا، ففي مثل هذه المواقف، يقتل العسكريون قليلًا، ويرتكبون مذابح صغيرة، لكن بعد ذلك إذا قاموا بتجميع الناس في بؤرة محاصرة، فإن الأمراض ستتولى الباقي.
من ناحية أخرى، تؤدي الأمراض المعدية أثناء الحرب إلى تدمير القوة القتالية للجيوش واستنزاف هائل لمواردها والتأثير على الإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية، كما تتسبب في تعليق وإلغاء العمليات العسكرية وخسارة الحروب، وجلب الفوضى إلى السكان المدنيين في الدول المتحاربة وغير المتحاربة.
ولعب المرض دورًا في المعارك لعدة قرون، فطوال السنوات الـ145 الأولى من الحرب في أمريكا، كان عدد من لقوا حتفهم بسبب الأمراض المعدية من أفراد الجيش في البلاد أكبر بكثير من أولئك الذين لقوا حتفهم نتيجة أعمال عسكرية.
وخلال الحرب الأهلية الأمريكية بين عامي 1861 و1865، كان سبب ثلثي الوفيات بين الجنود الذين يُقدَّر عددهم بـ660 ألف هو الالتهاب الرئوي والتيفوئيد والدوسنتاريا والملاريا، وأدَّى عدد القتلى هذا إلى تمديد الحرب لمدة عامين.
وأثبت المرض في بعض الأحيان أنه حاسم عسكريًا في فترات مختلفة من التاريخ العسكري، فقد خسر جيش أدولف هتلر أمام القوات البريطانية في شمال إفريقيا جزئيًا بسبب المرض، كما أدى مرض الجدري إلى هزيمة جيش الرئيس الأول للولايات المتحدة جورج واشنطن في معركة كيبيك عام 1775.
وخلال الحروب النابليونية، كان عدد الأشخاص الذين ماتوا بسبب المرض في الجيش البريطاني ثمانية أضعاف عدد الذين ماتوا بسبب إصابات المعركة، كما هُزم جيش نابليون بونابرت في روسيا بسبب التيفوس.
بشكل عام، تعزز الحرب العوامل التي تؤدي إلى زيادة الإصابة بالأمراض المعدية بين المدنيين، بما في ذلك النزوح الجماعي للسكان والاكتظاظ وشح المياه النظيفة وسوء الصرف الصحي ونقص المأوى وسوء الحالة التغذوية، بالإضافة إلى ذلك، فإن انهيار البنية التحتية للصحة العامة ونقص الخدمات الصحية يعيق برامج المكافحة مثل التطعيم أو مكافحة ناقلات الأمراض.
يتأثر أكثر من 25 بلدًا بالصراعات التي تحتاج إلى المساعدات الإنسانية، معظمها في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تسبب الأمراض المعدية ما يصل إلى 70% من إجمالي الوفيات في هذه البلدان، إذ تعد التهابات الجهاز التنفسي وأمراض الإسهال والحصبة، وفي المناطق الموبوءة الملاريا، من الأسباب الرئيسية للوفاة والمرض.
ولا يؤثر عبء الوفيات والأمراض التي يمكن الوقاية منها على ما يقدَّر بنحو 40 مليون لاجئ ونازح داخليًا في جميع أنحاء العالم فحسب، بل يؤثر أيضًا على السكان غير النازحين الذين يعيشون في البلدان التي مزقتها الحرب.
ووفقًا لمديرة مركز علوم الصحة العالمية والأمن في جامعة جورج تاون، ريبيكا كاتز، فإن الأمراض المعدية والتحديات الصحية الأخرى تشكل دائمًا مصدر قلق في مناطق النزاع، حيث يمكن للصراع أن يسبب المزيد من الوفيات الناجمة عن الأمراض أو غيرها من الآثار الصحية غير المباشرة مقارنة بالإصابات المرتبطة بالأسلحة، إذ يؤثر الصراع على الوصول العام للأدوية، وغالبًا ما تتعطل خدمات الرعاية للأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة مثل السرطان أو الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.
وفي حالة غزة، وبينما يناقش الخبراء ما إذا كانت هذه إبادة جماعية أم لا، فإن قرار “إسرائيل” بخلق ظروف غير صالحة للعيش في غزة يندرج – وفق خبراء الصحة العامة – تحت تعريف الإبادة الجماعية، الذي لا يشمل العنف العسكري المباشر فحسب، بل أيضًا فرض ظروف معيشية متعمدة تهدف إلى التدمير الجسدي.
سلاح الاحتلال في غزة
سجلت الحرب على غزة العديد من الأرقام القياسية العالمية، فقد تسببت في أكبر خسارة بالأرواح، وشهدت أسوأ عدد إجمالي هجمات على مرافق الرعاية الصحية والعاملين فيها على الإطلاق، كما أنها الأكثر فتكًا بالأطفال، فقد قُتل ما يقرب من 160 طفلًا يوميًا، مقارنة بـ3 في اليوم بالحرب السورية، و2 في اليوم في أفغانستان، و0.7 في اليوم في أوكرانيا، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.
وبينما تحدثت حكومة الاحتلال عن مناطق آمنة للعائلات للفرار إليها، فإن هذه المناطق أبعد ما يكون عن ذلك، فهؤلاء ليس لديهم مياه نظيفة أو صرف صحي ومراحيض صالحة للاستخدام أو ما يكفي من الغذاء أو طواقم طبية مجهزة بالأدوية والمعدات، وهي احتياجات أساسية يحتاجها أي إنسان، خاصة الرُّضع والأطفال، للبقاء بصحة جيدة وعلى قيد الحياة.
وتشير التقديرات إلى أن 85% من سكان غزة نزحوا بالفعل، وفقًا لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا)، ويقدِّر الخبراء في مجلة “لانسيت” العلمية أن معدلات الوفيات (أي الوفيات لكل 1000 شخص) كانت أعلى بأكثر من 60 مرة من المعدلات الأساسية بعد هذا النزوح.
ووفقًا لخبيرة الأمراض المُعدية والأوبئة، يارا عاصي، عندما تقوم بتجميع الناس وتحرمهم من الرعاية الطبية والمياه لا يتطلب الأمر الحصول على درجة علمية في علم الأوبئة لمعرفة ما سيحدث، على الرغم من أن “إسرائيل” لا تُدخل المرض عمدًا إلى غزة، وإذا أردت نشر المرض، فستفعل بالضبط ما تفعله “إسرائيل”.
وكما قالت عاصي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي: “لقد سمعنا بشكل متزايد أن النظام الصحي في غزة قد انهار، لكن في الواقع، كان على وشك الانهيار منذ 16 عامًا. خلال تلك الفترة، أبقت “إسرائيل” غزة تحت حصار محكم، ما أدَّى إلى تقييد الوصول ليس فقط إلى المعدات الطبية والأدوية، ولكن أيضًا إلى الغذاء والماء”.
تظهر الوثائق أنه في مراحل كثيرة من الحروب التي شنتها “إسرائيل” على غزة، قامت بحساب الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للبقاء على قيد الحياة في ظل حصارها للقطاع، وقد أدَّت هذه القيود إلى جعل 63% من سكان غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وتركت 30 ألف طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية الحاد.
وبالمثل، فإن 96% من المياه في غزة كانت غير صالحة للشرب قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، ما تسبب في ربع الأمراض بالقطاع، وكان أكثر من 12% من وفيات الأطفال حتى 4 سنوات مضت مرتبطة باضطرابات الجهاز الهضمي بسبب تلوث المياه، واعتبارًا من عام 2018، كانت الأمراض المنقولة بالمياه هي السبب الرئيسي لوفاة الأطفال في غزة بحسب دراسة أجرتها مؤسسة “راند” المستقلة، ومنذ ذلك الوقت استمرت هذه الأرقام في النمو.
يؤدي الحصار المشدد إلى تفاقم نقاط الضعف هذه، فالاحتلال لا يسمح بدخول آلاف الشاحنات المتكدسة على الجانب المصري، ويتفنن الإسرائيليون في تبرير منعها، فما تصفها “إسرائيل” بـ”المواد المحظورة” تشمل قائمة طويلة من مواد يُمنع دخولها لأنها “ذات استخدام مزدوج” حسب الإسرائيليين، هي في الواقع مواد أساسية ومنقذة للحياة، وأبرزها المقصات الطبية وأدوية التخدير والسرطان وأجهزة التنفس الصناعي وأسطوانات الأكسجين ومستلزمات الأمومة وأقراص تنظيف المياه.
أدَّى هذا التضييق على الإمدادات الإنسانية إلى نقص كارثي في ضروريات الحياة الأساسية، وجعل المرضى يكافحون من أجل التعافي، ومع عرقلة دخول المساعدات، أصبح سوء التغذية خارجًا عن السيطرة، وتضاعفت حالات فقر الدم والجفاف بين الأطفال 3 مرات تقريبًا.
كما وفَّر ذلك دلائل واضحة على أن الاحتلال يقتل عمدًا مرضى القطاع بمنع دخول المساعدات الطبية اللازمة للعلاج، وهو ما دفع منظمة اليونسيف إلى التحذير من أن “نقص الغذاء والماء والدواء يشكل تهديدًا أكبر من القنابل على حياة الآلاف في غزة”، وقد بدأ بالفعل عدد الموتى بسبب الجوع أو الأمراض المرتبطة به يتزايد.
ووفقًا للجنة مراجعة المجاعة المستقلة التي تم تفعيلها بسبب وجود أدلة على سياسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال، تواجه واحدة على الأقل من كل أربع أسر (أكثر من نصف مليون شخص) في قطاع غزة ظروفًا كارثية حادة لانعدام الأمن الغذائي، ووصل 80% من الفلسطينيين في غزة إلى المستويين الأكثر تطرفًا في نظام تصنيف انعدام الأمن الغذائي – الطوارئ والكارثة” – مع تعرُّض نصف السكان لخطر المجاعة.
وما يزيد الوضع الصحي تدهورًا، أن 95% من السكان لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، ومع نقص الوقود الذي يحد بشدة من معالجة مياه الصرف الصحي وإدارة النفايات الصلبة، من المستحيل العثور على مياه الشرب النظيفة.
ومن دون مياه نظيفة، يضطر سكان غزة إلى الشرب أو الطهي بمياه ملوثة تهدد صحة السكان المعرضين للخطر بالفعل، ومن المرجح أن تكون تلك المياه مليئة بالبكتيريا التي يمكن أن تؤدي إلى أمراض معوية عنيفة.
أما شتاء غزة فيمثل فصلًا آخر من العناء، ليس لقساوة طقسه في العراء فحسب، وإنما ما جلبه من أمطار مثلت بيئة خصبة لتفشي الأمراض، فقد أدَّت الأمطار الأخيرة إلى اختلاط مياه الصرف الصحي غير المعالجة بالمياه العذبة المستخدمة للشرب والطهي، والتسبب في تفشي مرض الكوليرا والزحار أو أمراض الإسهال الأخرى، وقد يكون لهذه الأمراض تأثير مدمر على السكان البالغ عمر نصفهم تقريبًا 18 عامًا أو أقل، وفقًا للأمم المتحدة.
هناك أيضًا دلائل على أن أمراضًا أخرى – فيروسات الجهاز التنفسي على وجه التحديد – بدأت في الانتشار منذ بداية الحرب، كما زادت أيضًا حالات التهابات الجهاز التنفسي العلوي والالتهابات الرئوية والتهاب السحايا وجدري الماء والأمراض الجلدية المؤلمة التي يعود سببها إلى استهلاك المياه الملوثة، خاصة مع اضطرار الآلاف إلى النزوح لمناطق ضيقة ومزدحمة في الجزء الجنوبي من القطاع.
تتفاقم أزمة الصرف الصحي أيضًا بسبب القصف الإسرائيلي المستمر، الذي أطلق مواد سامة في الهواء، وأدَّى إلى انتشار الجثث في الشوارع، خصوصًا في محيط المستشفيات المستهدفة، في حين يحفر البعض الآبار للحصول على المياه الملوثة بمياه الصرف الصحي، ويلجأ آخرون إلى شرب مياه البحر، حيث يتم تصريف أكثر من 100 ألف متر مكعب من النفايات يوميًا.
تتراكم هذه النفايات في كل مكان، حول المستشفيات والمدارس والمخيمات، في مشهد يخدش العين، وتتفاقم المأساة على النازحين بسبب تكدسها في أرجاء القطاع، خاصة المناطق المزدحمة بالسكان، بسبب انقطاع الوقود عن موظفي البلدية، ما جعل الشاحنات التي تنقلها إلى المكب لا تبرح مكانها.
إذ كانت تحتاج البلدية يوميًا إلى نحو 7 آلاف لتر من السولار كحد أدنى لجمع المخلفات، وهذا يشي بكارثة صحية وبيئية قد تنتهي بالنازحين إلى معاناة إنسانية لا تُحتمل، إذ تساعد تلال القمامة على انتشار البعوض الناقل لحمى الضنك والملاريا، فضلًا عن التهابات الجهاز التنفسي، والتي تتراوح من نزلات البرد إلى الالتهاب الرئوي، بسبب تلوث البيئة المحيطة في شتى المرافق.
كما تسبب القصف العشوائي وعمليات الإخلاء القسري ودفعهم إلى مناطق أصغر في اكتظاظ هائل بجنوب غزة، وخلقت أرضًا خصبة للأمراض، وزاد تضاعف أعداد النازحين في مراكز الإيواء من الضغط على الخدمات في جنوب الجيب الصغير الذي بات من أكثر البؤر ازدحامًا في العالم، وهذا ما قد يعجِّل بتحويل غزة إلى “مقبرة” بحسب وصف المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية كريستيان لندرمير.
واعتبارًا من الأول من يناير/كانون الثاني الماضي، كان نحو 1.4 مليون من أصل 1.9 مليون نازح فلسطيني في القطاع يقيمون في مدارس تابعة للأونروا، الكثيرون منهم ينامون في العراء، ويتقاسمون مرحاضًا واحدًا لكل 486 شخصًا، وفي رفح يتضاعف هذا العدد، حيث يوجد مرحاض واحد تقريبًا لكل 850 شخصًا، أمَّا بالنسبة لمرافق الاستحمام، فهي أربعة أضعاف هذا الرقم، أي مكان استحمام واحد لكل 3600 شخص.
تأوي أماكن الاحتماء مثل المباني والمدارس والخيام المهجورة أضعاف طاقتها الاستيعابية منذ انهيار الهدنة بين “إسرائيل” وحماس في الأول من ديسمبر/كانون الأول، فمثلًا مدارس الأونروا التي تتسع لـ1500 شخص بها حاليًا أكثر من 6000 شخص، كما يقول مدير الأونروا في غزة توماس وايت، ما جعلها موطنًا لتفشي العدوى، وأخطرها مرض التهاب الكبدي الوبائي.
وفي مثل هذه الأماكن، لم تعد المختبرات تعمل، ولا يمكن إجراء أي فحوصات، ولا يستطيع المرضى في غزة اتباع أوامر الحجر الصحي، ما يؤدي إلى ما وصفه رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس بـ”الظروف المثالية لانتشار المرض”، وحينها يمكن أن يموت عدد أكبر من الأشخاص بسبب الأمراض مقارنة بالقصف.
يستند هذا التخوف إلى أساس تاريخي راسخ، ففي أغلب الحروب، بما في ذلك في العراق وجمهورية الكونغو الديمقراطية واليمن ودارفور، يموت عدد أكبر بكثير من الأشخاص بسبب الآثار الصحية غير المباشرة للصراع (المرض والجوع) مقارنة بالآثار المباشرة للقنابل والرصاص والأسلحة الأخرى.
ووفقًا لعالم الصحة العامة، باري ليفي، مؤلف كتاب “من الرعب إلى الأمل: التعرف على الآثار الصحية للحرب والوقاية منها”، فإن الوفيات غير المباشرة المرتبطة بالصحة – والتي نادرًا ما تتم مناقشتها عند الإبلاغ عن عدد القتلى في الحرب – يمكن أن يفوق عدد الوفيات المباشرة بأكثر من 15 ضعف.
أوبئة برعاية الاحتلال
في 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حذرت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس، من أن الكارثة التي تتكشف في غزة من المرجح أن تصبح أسوأ، وختمت حديثها في مؤتمر صحفي للأمم المتحدة في جنيف بتصريح مشؤوم: “في نهاية المطاف، سنرى عددًا أكبر من الأشخاص يموتون بسبب الأمراض أكثر مما نراه حتى من القصف إذا لم نتمكن من إعادة النظام الصحي إلى طبيعته وتوفير أساسيات الحياة: الغذاء والماء والأدوية والوقود”.
ما كانت هاريس تشير إليه هو جبهة حرب ثانية أكثر هدوءًا، والتي من المتوقع الآن أن تتصاعد بشكل كبير مع استمرار تعنت “إسرائيل” في دخول المساعدات إلى غزة، ما أدَّى إلى خلق ما وُصف بأنه “كارثة إنسانية وخيمة من صنع الإنسان” تتسم بالتجويع الجماعي والعطش والتشرد والافتقار إلى الخدمات الطبية.
ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أدَّى العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة إلى استشهاد ما يقرب من 33 ألف شخص، وإصابة 75 ألف آخرين، ومن المأساوي أن الوفيات والإصابات غير المسبوقة تقريبًا التي شهدناها حتى الآن من المرجح أن تكون البداية فقط.
ومع توالي الأخبار القادمة من غزة وتحديثات حصيلة القصف الوحشي على المدنيين هناك، لا تحظى أعداد المفقودين أو “ضحايا الظل” تحت الأنقاض في العادة بالأهمية التي يحظى بها عدد الشهداء والمصابين، ففي آخر إحصائية لم يتم تحديثها منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت وزارة الصحة في غزة ارتفاع عدد المفقودين إلى نحو 7 آلاف شخص يُفترض أن العديد منهم مدفونون تحت الركام، وأكثر من نصفهم أطفال.
بالطبع هذه الحصيلة مؤقتة، وهي مرشحة للارتفاع في الأسابيع والأشهر التي تلت ذلك، خاصة مع استمرار القصف العشوائي والعجز عن التعامل مع الكم الهائل من البيوت المدمرة بسبب استهداف الاحتلال لطواقم الإنقاذ أو بسبب عدم امتلاكهم ما يكفي من آليات ومعدات يمنع الاحتلال دخولها إلى القطاع لانتشال العالقين من تحت الأنقاض.
وأمام عجز طواقم الدفاع المدني عن الاستجابة لكل نداءات الاستغاثة، حذرت الهيئات والمنظمات الصحية في غزة من كارثة إنسانية وبيئية بسبب دفن البعض على عجل ووجود الجثامين تحت أنقاض المنازل المدمرة وصعوبة انتشال الجثامين الملقاة في الشوارع والطرقات وتحللها بالعراء في أماكن يمنع الاحتلال الوصول إليها، ما يهدد بانتشار الأوبئة والأمراض المعدية.
ومع مرور الأشهر دون أي انفراج ملموس، أنتجت هذه الظروف “العاصفة المثالية للمرض”، على حد تعبير المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة جيمس إلدر، الذي قال إن الظروف في غزة يمكن أن تتسبب في وفاة عدد من الأطفال بسبب الأمراض يماثل عدد الذين استشهدوا في الغارات الجوية الإسرائيلية.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، دقت منظمة الصحة العالمية العالمية ناقوس الخطر بشأن الانتشار السريع للأمراض المعدية في غزة، وأعلنت أن هناك ما يقرب من نصف مليون حالة إصابة بهذه الأمراض، من بينها إصابة 180 ألف شخص بالتهابات الجهاز التنفسي العلوي، و55400 حالة إصابة بالقمل والجرب، و42700 حالة طفح جلدي، وهي زيادة مذهلة عما كانت عليه قبل الحرب.
1.3 million people are currently living in shelters in #Gaza.
Overcrowding and lack of food, water, sanitation and basic hygiene, waste management and access to medication are resulting in a high number of cases of:
– acute respiratory infections: 111,000
– scabies: 12,000
-… pic.twitter.com/ZhiRDodqWL
— Tedros Adhanom Ghebreyesus (@DrTedros) November 29, 2023
بخلاف هذه الأرقام، يصعب تتبع المعلومات الدقيقة مع انهيار النظام الصحي، حيث لا توجد إحصاءات دقيقة عن عدد الأطفال الذين ماتوا بالفعل بسبب الجوع، أو عدد الأشخاص الذين يموتون لأنهم لا يستطيعون الحصول على غسيل الكلى أو العلاج الكيميائي، أو الحصول على أدوية ارتفاع ضغط الدم أو الأنسولين.
كذلك لا يمكن معرفة بشكل كامل عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الأنفلونزا أو الإسهال لأن المستشفيات لا يمكنها استيعابهم أو يموتون بسبب الجروح الملتهبة الناتجة عن ندرة المضادات الحيوية وانعدام الظروف الصحية العامة المتعلقة بمياه الشرب النظيفة ومعالجة والتخلص من الفضلات البشرية والصرف الصحي.
وقد يكون ظهور مثل هذه الأمراض في هذه اللحظة مدمرًا، فالكوليرا، على سبيل المثال، يمكن عادةً علاجها بنجاح، لكن في غياب المياه النظيفة والصرف الصحي، تشير منظمة الصحة العالمية إلى أنها “يمكن أن تقتل في غضون ساعات”.
ومع ذلك، فإن الخطر لا يقتصر على “الأمراض الاستثنائية” لأنه حتى الأمراض الخفيفة – الإسهال الفيروسي أو الأنفلونزا أو التهابات الرئة – ستكون أكثر فتكًا في هذه الظروف، ويمكن أن تشكل تهديدًا لحياة الأطفال وكبار السن وضِعاف المناعة بسبب الظروف المعيشية اللإنسانية.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يعد الإسهال بالفعل السبب الرئيسي الثاني لوفاة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 1 و59 شهرًا على مستوى العالم، وهو أمر يمكن الوقاية منه وعلاجه من خلال توفير مياه الشرب المأمونة والمرافق الصحية والنظافة الصحية الكافية غير المتوافرة في القطاع.
وحتى 2 يناير/كانون الثاني الماضي، تم الإبلاغ عن 136400 حالة إسهال في غزة، نصفها تقريبًا بين الأطفال دون سن الخامسة، وكانت معدلات الإسهال بين الأطفال في المخيمات بغزة، في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني، أكثر 100 مرة من المستويات الطبيعية، وهي ناجمة عن مصادر المياه الملوثة وعدم إمكانية الحصول على محاليل الإماهة الفموية لتعويض السوائل التي يستمر فقدانها، ومع عدم توافر علاجات، يمكن أن يصاب الأطفال بالجفاف ويموتون بسرعة.
ومما زاد الطين بلة أن الحرب عطلت جداول لقاحات الأطفال الذين أصبحوا الآن عرضة للأمراض المعدية التي كان من الممكن تطعيمهم ضدها، وبدلًا من ذلك، اشتد انتشار الأمراض مع تزايد عمليات النزوح الجماعي في جميع أنحاء القطاع.
تثقل حالات الإصابة المتزايدة كاهل نظام الرعاية الصحية المنهار في القطاع المحاصر رغم أنه كان من الممكن علاج العديد منها بالطعام والماء والرعاية الطبية، لكن في خضم الهجوم الإسرائيلي المستمر الذي دمَّر 27 مستشفى من أصل 36 مستشفى (أقل من مستشفيين لكل مئة ألف شخص) في غزة يعمل ما تبقى منها بشكل جزئي، من المرجح أن تؤدي الأوبئة إلى الموت الجماعي.
وبعد 6 أشهر من القصف الإسرائيلي، لا تزال ثلثا مرافق الرعاية الصحية الأولية مغلقة، وتتعرض المستشفيات في غزة لهجوم مكثف، بالإضافة إلى قتل الاحتلال ما لا يقل عن 350 من العاملين في مجال الرعاية الصحية في غزة حتى 7 فبراير/شباط الماضي، وهذا أكثر من العدد الإجمالي للعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين قتلوا في جميع البلدان التي تشهد صراعات في أي عام منذ عام 2016، وفقًا لجمعية العون الطبي للفلسطينيين (ماب).
واستنادًا إلى الوضع الحالي في غزة، حيث كان معدل الوفيات الخام قبل النزاع 3.82 في عام 2021، يمكن أن تصل معدلات الوفيات إلى 229.2 في هذا العام إذا استمر الصراع والنزوح على المستوى الحالي من الشدة، واستمر سكان غزة المحاصرون في عدم الوصول إلى المرافق الصحية والطبية والسكن الدائم.
ومع ذلك، لم تؤد هذه التحذيرات القاتمة إلى إحداث أي تغيير في مسار الحرب، بل أشادت أصوات عدة في اليمين الإسرائيلي المتطرف بانتشار المرض والمجاعة كوسيلة لإضعاف حماس.
وفي أكتوبر/تشرين الأول، قالت النائبة عن حزب الليكود تالي جوتليف، أمام الكنيست إن الجوع والعطش بين سكان غزة من شأنه أن يساعد جهود الحرب الإسرائيلية، وحثت حكومة الاحتلال على عدم كسر الحصار المفروض على غزة، ما يمنحها نفوذًا للرشوة، ويمكِّن من تجنيد اليائسين لأغراض استخباراتية، حسب قولها.
هل ينقلب السحر على الساحر؟
لم يغير احتمال حدوث عواقب صحية سلبية على الإسرائيليين نهج “إسرائيل” في التعامل مع الأزمة الصحية في غزة، وبدلًا من ذلك، واصلت حكومة الاحتلال التعامل مع المرض باعتباره مجرد مشكلة تكتيكية تحتاج إلى التعامل معها من أجل استمرار الحرب.
لكن مع مرور الأيام، قد تورط الأوضاع الإنسانية المتدهورة في قطاع غزة، “إسرائيل” أيضًا في أزمة وبائية، فلا يمكن أن تقتصر الأمراض التي يتعرض لها سكان غزة على الحدود، ويمكن أن يتردد صدى الكارثة الصحية في “إسرائيل” أيضًا.
في عام 2018، حذرت مديرة أبحاث السياسات في مؤسسة “ديان وجيلفورد جليزر” شيرا إيفرون، في تقريرها حول أزمة المياه والصرف الصحي في القطاع، من أن الأمراض المنقولة بالمياه “لن تبقى محصورة على الجانب الآخر من السياج الحدودي مع قطاع غزة”.
ولاحظ المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم خطر تلوث المياه من غزة، واعتبره البعض “تهديدًا لأمن إسرائيل”، ووصفه مراقب دولة الاحتلال، يوسف شابيرا، بأنه ليس أقل من أخطر تهديد بيئي عابر للحدود على “إسرائيل”، حيث تسبب تلوث احتياطيات مياه الشرب ومياه الصرف الصحي من القطاع في تلويث الشواطئ بـ”إسرائيل”، وتفشي أمراض معدية متفرقة مثل التيفوس والكوليرا، مع احتمالات انتشارها على نطاق واسع إلى المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة.
إذا لم يحدث تحول جذري يتضمن إنعاش النظام الصحي، فإن العالم يواجه احتمال وفاة ما يقرب من نصف مليون شخص – ربع سكان غزة – في غضون عام واحد
هذا بالإضافة إلى إغلاق إحدى أكبر محطات تحلية مياه البحر في “إسرائيل” بالقرب من عسقلان، بسبب التعنت الإسرائيلي في توفير الطاقة خصيصًا لمحطة الصرف الصحي غير العاملة في غزة.
تم تسليط الضوء على المخاطر الصحية الناجمة عن عدم تشغيل المحطة في تقرير شديد الخطورة وصف حالة معالجة مياه الصرف الصحي ونقص المياه في قطاع غزة بأنها “مشكلة إستراتيجية وجودية حرجة من الدرجة الأولى بالنسبة لإسرائيل”، وأن “الأوبئة التي تندلع في غزة لن تتوقف عند الحدود، بل ستعرض أيضًا كل إسرائيلي للخطر”.
كما حذَّرت مؤسسة أبحاث علوم المحيطات والبيانات الإسرائيلية من المخاطر الصحية، وأشارت في أحد تقاريرها إلى ارتفاع في عدد الميكروبات بالمياه الضحلة قبالة عسقلان، وهو ما لا يوجد في المياه الإسرائيلية الأخرى، ومن الفرضيات التي طرحها التقرير أن السبب هو مياه الصرف الصحي المتدفقة من قطاع غزة.
كما أدركت سلطة المياه الإسرائيلية في الماضي إمكانية تلوث أجزاء من طبقات المياه الجوفية ومحطات تحلية المياه ومستويات الضباب الدخاني نتيجة تلوث الهواء وتسرب مياه الصرف الصحي من قطاع غزة، التي كانت السبب وراء تفشي حالات شلل الأطفال في “إسرائيل” في وقت سابق من عام 2013، وحذَّر الخبراء من أن المياه الجوفية في غزة لن تكون صالحة للاستخدام البشري بحلول عام 2020.
عادت مثل هذه المخاوف إلى الواجهة مرة أخرى منذ بداية الحرب الأخيرة على غزة، حيث حذَّر تقرير عن الآثار البيئية لحالة غزة على “إسرائيل” من أن انهيار البنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء في قطاع غزة يشكل خطرًا على المياه الجوفية ومياه البحر والشواطئ ومحطات تحلية المياه في “إسرائيل”.
وأشار التقرير الذي أعده خبراء في جامعة بن غوريون وجامعة تل أبيب لصالح المنظمة البيئية إلى أن حرق القمامة، بالإضافة إلى إطلاق البالونات والطائرات الورقية الحارقة من غزة كشكل من أشكال المقاومة ضد الاحتلال، يخلق بالفعل مشكلة تلوث الهواء في الأراضي المحتلة.
وعلى الأرض، يواجه جنود الاحتلال المصابون بالفعل حالات عدوى مقاومة للأدوية في غزة، حيث يسبب ملامسة التربة والطين الملوثين هناك التعرض للجراثيم المقاومة، خاصة في حالات إصابات الأطراف، بما في ذلك السلالات البكتيرية شديدة المقاومة من الكليبسيلا والإشريكية القولونية وفطريات الرشاشيات.
ومؤخرًا، لقى جندي إسرائيلي مصرعه متأثرًا بجراحه بسبب عدوى فطرية مقاومة للعلاج، يُرجح أن مصدرها التربة الأرضية الملوثة بمخلفات الصرف الصحي، وتنتقل العدوى بعد ذلك من خلال الجروح التي أصيب بها جنود الاحتلال في غزة، والتي لا يمكن إبقاؤها معقمة بسبب الظروف على الأرض، ويُعتقد أن نحو 10 جنود أصيبوا بنفس الفطر ويخضعون للعلاج في “إسرائيل”، حسبما قال المدير السابق لوحدة الأمراض المعدية في مركز شيبا الطبي لهيئة الإذاعة الإسرائيلية العامة (كان).
كما أبلغ جيش الاحتلال عن تفشي أمراض الجهاز الهضمي، مع بعض الحالات التي شملت الشيغيلا، ووردت تقارير، في وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول الماضي، عن تفشي الزحار بين الجنود الإسرائيليين في قطاع غزة، مع زيادة حالات الإسهال والأمراض المعوية، في حين تم اقتراح عدم كفاية الصرف الصحي وسوء تخزين المواد الغذائية كمصدر للعدوى.
ويقول الخبراء إنه من المرجح أن يجلب الجنود مثل هذه الأمراض إلى “إسرائيل” بدءًا من المناطق الجنوبية في الأسابيع المقبلة، وكما قال رئيس الجمعية الإسرائيلية للصحة العامة: “في نهاية المطاف، نحن نعرض أنفسنا للخطر عندما لا نأخذ في الاعتبار الجانب الإنساني للمدنيين في غزة”.
أصبح خبراء الصحة العامة الإسرائيليون صريحين بشكل خاص في الرد على دعوة آيلاند لانتشار المرض، حيث كتبوا في مقال افتتاحي لصحيفة “هآرتس” أن الأوبئة “لا تعرف حدودًا”، وأن الأمراض في غزة “سوف تنتشر دون انقطاع وتؤدي إلى تفشي المرض بشكل مستمر بين السكان المدنيين في إسرائيل أيضًا”.
ويبدو أن “إسرائيل” حريصة على منع هذه النتائج العسكرية، حتى إن نتنياهو أعرب عن معارضته لمقترح آيلاند، وحذَّر من أن الأزمة الإنسانية في قطاع غزة ستكون مشكلة لـ”إسرائيل” ويتحتم معالجتها، وأوضح أن منع إصابة الجنود بالمرض أمر مهم لأن “أي انهيار، من المرض إلى تلوث المياه، يمكن أن يوقف القتال”، وأضاف غالانت: “نحن مطالبون بالسماح بالحد الأدنى الإنساني للسماح باستمرار الضغط العسكري”.
اعتراف نتنياهو وغالانت أمام الكاميرات بأن “إسرائيل” تتعمد افتعال أزمة إنسانية في غزة وصفته منظمة “بتسيلم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان بأنه “نهج ساخر وملتوٍ” في حياة أكثر من مليوني شخص يضطرون هذه الأيام إلى حشد ما تبقى لديهم من قوة للعثور على الماء والغذاء والمأوى لأنفسهم ولأسرهم من أجل البقاء على قيد الحياة، في ظل الضربات الإسرائيلية المتواصلة.
لا توجد نهاية في الأفق للكارثة الإنسانية التي صنعتها “إسرائيل” في غزة، وتتجرع بعضًا من مرارتها، وإذا لم يحدث تحول جذري يتضمن إنعاش النظام الصحي، فإن العالم يواجه احتمال وفاة ما يقرب من نصف مليون شخص – ربع سكان غزة – في غضون عام واحد، وستكون هذه الوفيات غير المباشرة ناجمة إلى حد كبير عن أسباب صحية يمكن الوقاية منها في الظروف العادية، ومن المرجح أن تستمر في التزايد حتى لو كان هناك وقف لإطلاق النار.