في مارس/آذار 2015، تعاضدت الجهود التركية القطرية السعودية لتوحيد فصائل المعارضة السورية المسلحة، ناتجًا عنها تأسيس “جيش الفتح” ـ كان على رأسه حركة أحرار الشام وجبهة النصرة ـ الذي تمكن من بسط سيطرته بالكامل على مدينة إدلب.
في حينها، تُرجم الأمر على أنه تعاون إقليمي وطيد سيُسهم في رفع رصيد النفوذ التركي ـ القطري ـ السعودي المشترك في سوريا، وسيؤدي، في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام الأسد الذي كان يُسيطر وقتئذ على ما نسبته 18% فقط من الأراضي السورية.
غير أن التدخل الروسي المباشر في سوريا في 30 من سبتمبر/أيلول 2015، ومن ثم نشوب الأزمة التركية ـ الروسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، على إثر إسقاط تركيا لطائرة روسية، وتزامن هذا التعاضد مع الحرب اليمنية التي أنهكت السعودية، وتمادي وحدات الحماية الكردية “ي ب ج” واضطرار تركيا للمصالحة مع روسيا وإجراء عملية عسكرية عُرفت باسم “درع الفرات” للحيلولة دون تأسيس حزام حدودي على طول الحدود التركية ـ السورية، ومن ثم اهتزاز العلاقات الأمريكية السعودية على إثر الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية.
وقد انعكس هذا الاهتزاز عبر نشر الإدارة الأمريكية تقريرًا “تقرير جاستا” يتهم السعودية بالضلوع في تنفيذ تفجيرات 11 من سبتمبر/أيلول، وغيرها، عوامل أسهمت جميعها في إحباط التعاون الإقليمي المذكور في تحقيق ما يصبو إليه.
بعد ظهور وزير الدولة السعودية للشؤون الخليجية ثامر السبهان، في الرقة، منتصف الشهر المنصرم أكتوبر/تشرين الأول، فُسر الأمر على أنه محاولة سعودية أخيرة للإبقاء على نفوذها في سوريا، عبر التقارب من الوحدات الكردية
اليوم، ومع مباشرة تركيا سيطرتها على مدينة إدلب كدولة ضامنة تتقاسم النفوذ والقرار مع روسيا وإيران، بعيدًا عن أي دور للسعودية، ومع اتفاق الولايات المتحدة وروسيا على هامش قمة مجموعة العشرين في يناير/كانون الثاني المنصرم، بخصوص إيقاف إطلاق النار في جنوب سوريا، وشروع الأردن بخطوات تُعيد تعاونه الاقتصادي مع النظام، وأخيرًا مع التقاء قوات النظام مع قوات الحشد الشعبي في محيط مدينة البوكمال الواقعة على الحدود السورية ـ العراقية، تُمسي السعودية من جديد، وبوجه الخصوص، خاسرة أمام إيران التي بذلك استطاعت تأمين النقطة الجغرافية الأخيرة من أجل مد خطها الناقل لغازها الطبيعي من أراضيها حتى لبنان، ومن ثم الدول الأوروبية في المستقبل.
لقد انحصر الدور السعودي، بل يمكن القول إنه انتهى بشكل شبه كامل في مسار الأزمة السورية، فلقد جنحت السعودية، بحسب مصادر مُطلعة، قبل تحرك قوات النظام نحو مدينة دير الزور، إلى التعاون مع العشائر العربية، كالعكيدات، من أجل التعاون مع الولايات المتحدة، وسبق قوات النظام نحو مدينة دير الزور، إلا أن فشلها في تنسيق ذلك مع تركيا والولايات المتحدة على وجه السرعة، حال دون تحقيقها ما ترنو إليه.
أيضًا لعب ميل عدد من عشائر دير الزور لمساندة النظام في تقدمه نحو المحافظة تحت اسم “مقاتلي العشائر” الذين يبلغ تعدادهم نحو 5000 مقاتل، وتُشكل عشيرة الشعيطات ذات النفوذ الأبرز في المحافظة ركنهم الأساسي، دورًا أساسيًا في إفشال المسعى السعودي، وأدى ذلك إلى تعطيل أي تحرك عشائري محسوب على السعودية، مما أدى إلى رجوح كفة الميزان لصالح قوات النظام وإيران.
بعد ظهور وزير الدولة السعودية للشؤون الخليجية ثامر السبهان، في الرقة، منتصف الشهر المنصرم أكتوبر/تشرين الأول، فُسر الأمر على أنه محاولة سعودية أخيرة للإبقاء على نفوذها في سوريا، عبر التقارب من الوحدات الكردية، وطرح مساهمات لإعادة إعمار الرقة وبعض المدن الأخرى، مما يحفظ لها نفوذ في مناطق سيطرة القوات الكردية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن للسعودية تحقيق مآربها في ظل الغموض العارم الذي يُحيط بمستقبل تلك المناطق؟ وكيف لها الركون إلى الولايات المتحدة، والعلاقات بينهما يشوبها التوتر نتيجة جنوحها لعقد اتفاق استيراد منظومة الدفاع الروسية “إس 400” من روسيا، وإصرارها على التمادي في الأزمة مع قطر رغم رفض وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين لذلك؟
لم تعد منصة الرياض المحسوبة على السعودية والمعروفة باسم الهيئة العليا للمفاوضات، المفاوض الأول باسم المعارضة السورية، بعد تجاوز روسيا لعملية المفاوضات الدولية”عملية جنيف” بمسارات إقليمية، كمسار آستانة الذي يضمها وتركيا وإيران
فإلى الآن، لم تبيّن الولايات المتحدة استراتيجيتها حيال سوريا بشكلٍ عام، والظاهر هو توافق أمريكي ـ روسي يُبقي، ربما، على حكم ذاتي محدود للأكراد في شمال سوريا، يختلف عن ذلك الموجود في شمال العراق، من حيث الهيكلية، إذ يُشير السيناريو المُرجح تأسيس حكم ذاتي للوحدات الكردية في إطار اتحادي أو فيدرالي يُبقي على السيطرة الإدارية والعسكرية لدمشق على المواقع السيادية كالمطارات والحدود في تلك المناطق، لا سيما في ظل رفض تركيا ـ إحدى الدول الضامنة ـ الاعتراف بالإدارة الذاتية حتى الآن.
فكيف للسعودية أن تلعب دورًا ملموسًا في ظل رفض روسيا وتركيا وإيران لحكم ذاتي كردي مستقل؟ هل تعتقد أن الولايات المتحدة تستطيع تحقيق لها ذلك، في حال ساهمت في إعادة إعمار تلك المنطقة؟ أيمكن وضع ذلك في دائرة المنطق والعقلانية، في ظل وجود رفض دولي وشعبي عارم لسيطرة الوحدات الكردية؟
أيضًا كيف للسعودية الاتجاه نحو إحراز ذلك وهي لا تملك أي نفوذ سياسي في المؤتمرات الجارية لعملية الحل كأستانة وجنيف؟ ترمي هذه المؤتمرات إلى إنجاز تسوية للأزمة، بما يكفل تحقيق الرؤية الروسية الرامية إلى الإبقاء على وحدة الأراضي السورية، والمتقدمة نوعًا ما على الرؤية الأمريكية التي لم توضح حتى الآن أنها تعارض، قطعًا، هذه الرؤية في حال كفلت حفاظ ورقة اتفاق الجنوب الذي يكفل أمن “إسرائيل”، وتأسيس حكم إداري أو فيدرالي للمناطق الكردية، بصلاحيات إدارية حتى لو كانت محدودة.
سياسًا، لم تعد منصة الرياض المحسوبة على السعودية والمعروفة باسم الهيئة العليا للمفاوضات، المفاوض الأول باسم المعارضة السورية، بعد تجاوز روسيا لعملية المفاوضات الدولية “عملية جنيف” بمسارات إقليمية، كمسار أستانة الذي يضمها وتركيا وإيران ومسار اتفاقها مع الولايات المتحدة والأردن و”إسرائيل” في الجنوب السوري، ونتج عن التجاوز الروسي انتهاء دور المعارضة بشكل شبه كامل، وبزوغ هيمنة الدول الإقليمية التي فضلت مصالحها على حساب مطالب المعارضة.
روسيا استطاعت، على هامش قمة بوتين ـ سلمان الأخيرة، إقناع السعودية بترك هذا الدور أصلًا، مقابل صفقات سلاح تشكل بديل للحماية الأمريكية المُطلقة
أيضًا، بقبول روسيا تنسيق منصة القاهرة التي تضم على رأسها تيار الغد ذي العلاقات الاستراتيجية مع الإمارات التي تتميز بليونة واقعية أقرب لرؤية الحل الروسي مقارنة بمنصة الرياض، عمليات المصالحة في ريف دمشق والريف الشمالي للحمص، يُصبح الدور السياسي للسعودية مُنتهيًا لصالح الإمارات التي نأت بذاتها عن التدخل المباشر في الأزمة، حتى نضوجها وبدء الاتجاه نحو عملية التسوية السياسية التي تكفل لها، في حال روضت عدد من فصائل المعارضة، لصالح التفاوض مع روسيا، على صيغة حل تُنهي الأزمة، تقارب سياسي جيد من روسيا، يأخذ بها نحو نفوذ دبلوماسي ملموس.
ولعل اقتناع جيش الإسلام الرابض في ريف دمشق، والمحسوب على السعودية، بعملية المصالحة من دون اعتراض نتيجة اشتداد الحصار على مناطق سيطرته، وتداول أنباء عن فشل عقد مؤتمر “الرياض 2” الذي كان يُتوقع أن يوحد المعارضة على برنامج واحد، وتداول أنباء أيضًا عن تنسيق إماراتي ـ روسي واضح يؤهل المستشار الأمني لدى الإمارات محمد دحلان، للقيام بدور ملحوظ في التنسيق مع المعارضة، لا سيما منصة القاهرة ووحدات الحماية الكردية، لصالح روسيا، وغيرها، عوامل عدة توضح أن السعودية فقدت قيمتها السياسية في سوريا لصالح الإمارات، تمامًا كما هو حادث في اليمن، وتؤكد أن روسيا استطاعت، على هامش قمة بوتين ـ سلمان الأخيرة، إقناع السعودية بترك هذا الدور أصلًا، مقابل صفقات سلاح تشكل بديلاً للحماية الأمريكية المُطلقة.
في المحصلة، اتباع إيران سياسة مؤسسية واقعية استراتيجية حيال الأزمة السورية، تصنع بقدر الممكن نبذة أو نبذات من المسار المستقبلي لهذه الأزمة، بما يكفل لها إعادة التموضع التكتيكي من دون خسائر كبيرة، كان أفضل، بلا أدنى شك، من السياسة السعودية التي جافت المؤسسية والخطط الاستراتيجية، واتسمت بسياسة المسار المؤقت، كما اتصفت بالمراقبة والانتظار والتوقع، الأمر الذي جعل النتيجة تصب في صالح إيران، وتكاد سيطرة قوات النظام على البوكمال مؤخرًا تعلن انتهاء توقعات أي دور بارز محتمل للسعودية في سوريا بعد اليوم.