ربّما لا يكون منظر العائلات اليهودية الأرثوذكسية المتجولة، والنساء ذوات التنانير والجوارب الطويلة، والرجال ذوي المعاطف السوداء الطويلة والقبعات غريبًا عليك، فقد تكون شاهدته على شاشات التلفاز أو حتى قابلته وجهًا لوجه.
تُعتبر جماعة الحسيدية إحدى الجماعات اليهودية التي تتوزع في أنحاء كثيرة من العالم، وتُعد نيويورك وبروكلين بالتحديد الموطن الأكبر لسكان العالم من الجماعة خارج الكيان الإسرائيلي. ولهذا السبب جاء “واحد منا”، الوثائقي الذي يتعمّق في الحياة المنغلقة لتلك الجماعة وسط المجتمع الأمريكي الكبير.
نظرة عن قرب: ثلاث حكايات عن الهرب والاختلاف
يبدأ الفيلم بمكالمة إيتي، المرأة الثلاثينية، للرقم 911 حيث تشرح للطرف المقابل أنّ “أقارب زوجها” يطرقون بقوة على الباب، “هناك رجال في الخارج وأنا وحيدة مع أطفالي، إنها عائلة زوجي، لقد غادرت الشرطة قبل بضع دقائق مصطحبةً زوجي الذي دعا عائلته وأصدقاءه للانفجار على الباب”.
تفقد إيتي بعد عامين من المكالمة حضانة أطفالها السبعة، الذين تتراوح أعمارهم بين 4 و 12 سنة، بعد أن حصلت بأمرٍ من المحكمة على وعدٍ بالحماية من زوجها السابق الذي كان يضربها وأطفالها، بشرط تخليها عنهم وتزويعهم على عدة عائلات قريبة بحجة أنها غير مؤهلة لرعايتهم.
لعلّ “إيتي” هي أكثر شخصيات الفيلم إقناعًا، إذ بدأ الوثائقيّ معها في خطواتها الأولى بعيدًا عن حياة الجماعة التي سلبت منها حريّتها وزجّت بها في زواجٍ مسيء ومنهك خرجت منه بسبعة أطفال وشخصية مكسورة مقيّدة، فقررت الطلاق والانضمام لواحدة من مجموعات دعم الحسيديين السابقين أو ما يُعرف بمصطلح “Footsteps“، لتتمكن من السير قُدمًا في قراراتها بالرغم من التكلفة الكبيرة التي ستواجهها من فقدان عائلتها والابتعاد عن أطفالها.
يُلقي الوثائقي نظرة قريبة ومتحرّكة على شخصين آخرين اختارا مغادرة العالم المقدّس لليهودية الحسيدية على مدار ثلاث سنوات. لوزر الذي ترك الجماعة في وقت سابق قبل ثماني سنوات ويعيش في موقف للسيارات في لوس أنجلس بينما يحاول أن يصبح ممثلًا، الأمر الذي ترفضه جماعته جملةً وتفصيلًا، لدرجة أنه كان يشاهد الأفلام سرًّا في سيارته بعيدًا عن زوجته وعائلته. وآري الذي لا يزال مراهقًا فوجد نفسه غارقًا بالأسئلة الجادة حول دينه ومجتمعه، نتيجةَ الفضول البشريّ الطبيعي بالإضافة إلى تجربته الصادمة من الاعتداء الجنسي على يد رجل أكبر منه سنًّا.
هناك خطوطًا صارمة مرسومة حول أن تكون “نحن”، وأن تكون ضمن “الآخر”، وأنّ عابر هذا الخط سيواجه عواقب وخيمة ومشكلات كبيرة بسبب قراره بالخروج من “المجموعة” أو “المجتمع”
وعلى الرغم من أنّ الفيلم ركّز على الشخصيات الثلاث، إلا أنه يعكس بشكلٍ فعال وكبير صورة ذلك المجتمع الغريب، المنغلق على نفسه منذ عقود في وسط واحدة من أكثر المدن انفتاحًا وتعدّدًا للثقافات في العالم. وما هو واضح وضمنيٌّ في عنوان الفيلم، هو أنّ هناك خطوطًا صارمة مرسومة حول أن تكون “نحن”، وأن تكون ضمن “الآخر”، وأنّ عابر هذا الخط سيواجه عواقب وخيمة ومشكلات كبيرة بسبب قراره بالخروج من “المجموعة” أو “المجتمع”.
قد لا يكون “واحد منا” الفيلم الوحيد عن اليهود الحسيديك، إلا أنه الفيلم الأول الذي يستعرض مجموعةً من القضايا التي يواجهها أولئك الذين يقررون مغادرة الجماعة، من خلال استعراض العواقب أو التبعيات التي وجدت الشخصيات الثلاث أنفسها فيها بعد صراعها مع الاختلاف وقرار الابتعاد عن الجماعة، والأثر الناتج من فقدان الهدف أو المعنى الذي قد يحمله الإنسان لسنواتٍ طويلة ثم يجد نفسه فجأة غريبًا عنه لا يعترف به، آري يكافح مع إدمان الكوكايين، ولوزر يتحدث عن محاولاته الانتحار، وإيتي تبكي في مجموعات الدعم النفسي. جميع تلك الشخصيات تبحث عن عزاءٍ في الأماكن والأفكار التي يشعرون أنّها مألوفةً لهم، بعدما اكتشفوا أنّ التجارب الدينيّة في حياتهم لم تعد كافية للاستمرار.
يهود الحسيديم: نظرة تاريخية
ظهرت الحركة الحسيدية، وهي كلمة عبرية تعني التقيّ أو الورع، في جنوب بولندا وقرى أوكرانيا في القرن الثامن عشر برئاسة وزعامة بعل شيم طوف، وقد وردت كلمة “حسيد” في العهد القديم وتشير إلى “الرجل التقي الثابت على إخلاصه للإله وإيمانه به”، واستُخدمت بعد ذلك للإشارة إلى جماعات من مؤيدي التمرد الحشموني كانت تتسم بالحماس الديني والتقوى في القرن الثاني قبل الميلاد، ثمّ أصبحت تشير إلى أتباع الحركة الحسيدية، وهي الصوفية الشعبية الحلولية اليهودية.
تمتاز مؤسسة الزواج بالكثير من السمات الغريبة، فلا يرى الزوج زوجته إلا مرة واحدة قبل الزفاف، وربما لا يراها، وتحلق المرأة شعر رأسها كاملًا قبل العرس
ترجع الأسباب الرئيسية لنشأة الحركة كردة فعل للجفاف الروحي والإيماني والأخلاقي الذي انتشر تحت سلطة التلمود والحاخامات في تلك الحقبة، فجاءت الحركة مدعية أنها تهدف لإعادة النفوس والنية الصافية والأخلاق والتعبد الصحيح في حياة اليهود، لذلك يُنظر لها على أنها حركة تصوف يهودي. منا ساهمت أسباب أخرى في نشوئها مثل اضطهاد الفقراء وعامة الناس من قبل زعامة الحاخامات والتفرقة الطبقية التي سادت بين اليهود والتشدد والمغالاة التي يلقاها اليهودي الذي يخالف تعاليم الحاخامات فيعرض نفسه للطرد من الدين كليًّا.
عانت الحركة أنواعًا من الاضطهاد على يد الربانية التقليدية أو الفقهاء الذين شعروا أنّها جذبت عامة اليهود وصرفتهم عن سلطة الحاخامات، فعارضوها بشدة ووصل بهم الأمر إلى تكفيرهم واتهامهم بالردة والخروج عن اليهودية. إلا أنّ هذا لم يمنع اكتسابهم شعبية واسعة في جميع طبقات المجتمع، خاصة بين الأفراد الأقل تعليمًا، إذ كان من السهل استمالتهم عن طريق النداء العاطفي والروحي للرسالة، والتي شددت على الفرح والإيمان والصلوات التي ترافقها النشوة والأغنيات والرقصات.
جاءت الحركة مدعية أنها تهدف لإعادة النفوس والنية الصافية والأخلاق والتعبد الصحيح في حياة اليهود، لذلك يُنظر لها على أنها حركة تصوف يهودي
يسكن الحسيديم عادة في أماكن خاصة بهم خوفًا من تلوثهم بالآخرين كما يقولون، ويتكلمون لغة اليديش فيما بينهم دون غيرها من اللغات، وهي خليط من اللغة العبرية والألمانية القديمة المحرفة التي تكتب بحروف عبرية ولا يتكملها إلا أفراد هذه الجماعة. كما أنهم يلتزمون بعادات وتقاليد لا يحيدون عنها، فالمرأة لا بد أن تلبس لباسًا محتشمًا طويلًا، وتضع غطاء رأس قد يكون شعرًا اصطناعيًا أو قماشًا أو قبعة، ولا تصادق غريبًا أو تكلمه أو تمشي معه أو تجلس معه على مقعد واحد.
كما تمتاز مؤسسة الزواج بالكثير من السمات الغريبة، فلا يرى الزوج زوجته إلا مرة واحدة قبل الزفاف، وربما لا يراها، وتحلق المرأة شعر رأسها كاملًا قبل العرس. فيما يتم عزلها عن زوجها فترة أسبوعين في كل شهر أثناء الدورة الشهرية، حيث ينظرون إليها على أنها نجسة وتنجس كل من أو ما تلامسه، إلى حد أن زوجها لا يناولها الإناء وإنما يضعه على الأرض لتأخذه. وبعد الأسبوعين تذهب إلى الحمام الشرعي لتتطهر، وعملية التحضير لذلك وأداء الغسل وشعائره فيها كثير من التفاصيل.