الأكلات التاريخية بين دلع الأمراء وجوع الفقراء؟

main_sultanfeast

حكاية الإنسان مع المطبخ حكاية أزلية منذ قرر إضافة أنواع جديدة من الطعام تختلف عن الشكل الأوليّ لما يقتات عليه من مزروعات أو فرائس في الطبيعة منذ بداية وجوده على البطحاء، هذا التغير يفسر غالبًا بالصدفة التي أنتجت لنا أول رغيف خبز بلا خميرة من الشعير الذي كان يزرع في بدايات التجمعات البشرية في قرى صغيرة على ضفاف دجلة والفرات والنيل، وبطرق الشعير بالحجر وتقريبه من النار، تحول دقيق الشعير لخبر قابل للأكل، فالحبوب غير المعدلة لا تعتبر طعامًا صالحًا للجهاز الهضمي البشري.

تطور المطبخ البشري بشكل متنوع ومتسارع وخلق لنا أطباقًا متعددة ومختلفة أصبحت جزءًا من حضارات وتاريخ البلدان، فأثر طعام الإنسان على طريقة عيشه الأولية، فحولته من صياد متنقل وقاطف للثمار البرية، لمتمدن وفلاح وزرع ويسكن ضفاف الأنهار، وطوال هذه السنوات كانت الأحداث المختلفة تصنع لنا أطباقًا جديدة بحكايات تنقل من جيل إلى آخر.

الحرب والطعام 

كما ذكرنا، فإن لكل طبق حكاية، والحروب أكثر الفترات في تاريخ البشرية التي تضم مخزنًا كبيرًا من القصص والحكايات، فبين الأبطال والجبناء وبين النصر والهزيمة خرجت لنا مجموعة متميزة من الأطباق ارتبطت بتراث البلدان المحاربة واستمر عدد منها إلى يومنا هذا.

في حصار نادرشاه لمدينة الموصل عام 1743، خرج لنا طبق مميز وهو أكلة “البرمة” المكونة من عدد من أنواع البقوليات التي تطبخ مجتمعة على نار هادئة داخل قدر فخاري يسمى البرمة وإليه نسبت تسمية الأكلة الشتوية ذات السعرات الغذائية العالية، وقصة الأكلة تعود لأيام الحصار التي بذل فيها الناس مجهودًا مضاعفًا للصمود، فكان الأهالي يجمعون بقايا الحبوب والبقوليات المخزنة ويطبخونها مجتمعة ومن هنا خرجت لنا هذه الأكلة المميزة.

فيما أخرجت الحرب العالمية الأولى أحد أبرز الأطباق المصرية الشعبية وهي أكلة “الكشري” التي نقلها جنود الهنود في الجيش الإنجليزي بشكلها البدائي البسيط من الأرز والعدس، وأضاف لها بعض سكان القاهرة الإيطاليين المعكرونة وختمها المصريون باللمسة الخاصة، فأدخلوا عليها الدُقّة والثوم والصلصة الحارّة، ومن ثم البصل المقلي والحمّص الشامي في مرحلة لاحقة لتصبح أكلة الكشري الشعبية المعروفة.

طبق الكشري المصري التقليدي

من منا لا يعرف البيتزا الإيطالية التي تعتبر طبقًا عالميًا اليوم، لم تخرج إلا من رحم الحصار والحرب، حيث كانت مدينة نابولي الإيطالية تقبع تحت الاحتلال اليوناني في القرن الـ6 قبل الميلاد وكانت المدينة ميناءً بحريًا كبيرًا يعج بالفقراء، وبحثًا عن طريقة سهلة لإطعام هذا العدد من الفقراء، كانت أقراص البيتزا من العجين بزيت الزيتون والجبنة والطماطم، وتطورت عبر الزمن لتصبح على الشكل الذي وصلت إليه اليوم.

مطبخ القصر

كما الحرب والفقر يمكن أن يصنعا لنا حكايات للأطباق، فالترف ووفرة المال والأدوات قد تنتج لنا أطباقًا مميزة، ففي القصور الملكية يحرص الطباخون على تقديم ما هو مميز وجديد أمام موائد الملوك والأمراء كسبًا للود والرضا، ومن هنا خرجت لنا عدد من الأطباق المميزة التي ما زالت تقدم إلى يومنا هذا.

في عام 1539م أراد طباخ القصر العثماني تقديم طبقًا مميز بمناسبة ختان ولدي السلطان سليمان الأول، محاولاً صناعة طبق يجمع اللحوم والفواكه فخرج بوصفة لطبق “Kavun Dolması” وهو البطيخ الأصفر المحشو باللحم والمكسرات وهذا الطبق ما زال يقدم في عدد من مطاعم إسطنبول الفخمة إلى يومنا هذا.

طبق “Kavun Dolması” البطيخ الأصفر المحشو باللحم والمكسرات

فيما تعتبر أشهر أنواع الحلويات العراقية “الكليچة” وهي العجين بمهروس التمر، منحدرة من مطابخ القصور العباسية في بغداد، حيث صنع الطباخون التمر مهروسًا بالعجين كحلوى تقدم لأمراء بني العباس الصغار ومنها انتشرت لتصبح حلوى شعبية واسعة الانتشار في العراق.

وصُنعت أكلات خاصة لخلافاء العباسيين كما ذكرها ابن الوراق في كتابه “كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب” والذي يؤرخ المطبخ العباسي في بغداد، ويذكر فيه عددًا من الأكلات الخاصة التي صنعت خصيصًا للبلاط وشارك في بعض وصفاتها الخلفاء والأمراء فسميت بأكلات “الهارونيات” و”المأمونيات” و”البورانيات” نسبة لهارون الرشيد والمأمون وزوجته، ويحتوي الكتاب على الكثير من الوصفات الخاصة.

كما أن الولاة لهم قصص مع المطبخ، فالكفتة التركية دخلت مصر وذاع سيطها بسبب شغف الوالي العثماني على مصر داوود باشا بها، حتى اشتهرت الكفتة باسمه، وتختلف عن الكفتة التركية بإضافة طفيفة مميزة وهي إضافة القليل من الأرز المطحون والنعناع الذي يجعل من كفتة داوود باشا طبقًا خاصًا عثمانيًا – مصريًا.

حلويات الكليجة العراقية

يستمر المطبخ موثقًا لجانب من جوانب الحضارة البشرية ونوعًا من أنواع الحفاظ على التاريخ والأحداث ومؤرخًا لها بطريقة خاصة ولذيذة تجعل التاريخ أكثر جمالاً والحاضر أكثر ارتباطًا بما سبق.