من قبلة للباحثين عن التعافي والمتشبثين بالحياة، والمحتمين بكيانه المقدس المحمي بالقانون الدولي والإنساني، إلى لوحة مشوهة، سواد حالك يخيم على المشهد، قتل ودمار ودماء تخضب الجدران والتراب، وأشلاء تتعثر بالأقدام، ورائحة الموت تفوح من كل مكان.
مجمع الشفاء الطبي، ذلك الصرح العظيم الضارب في جذور غزة لأكثر من 7 عقود وعامين، هاهو يتحول بين غمضة عين وانتباهتها إلى أشلاء مبنى، جدران سُويت بالأرض، ركام يحتضن العشرات من الضحايا، في مشهد يعين الذاكرة سريعًا إلى ما قبل 79 عامًا، حين قصفت الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية في أغسطس/آب 1945.
جريمة جديدة ضد الإنسانية تضاف إلى سجل الاحتلال المشين، حصار مطبق على المشفى دام قرابة أسبوعين، استخدم فيه المحتل كل أنواع الجرائم، المعروفة وغير المعروفة، ما حوتها كتب الإجرام وما غفلتها، مخلفًا وراءه رصيدًا هائلًا من الوحشية والعنصرية والغوغائية التي تسقط كل أقنعة التمدن والتحضر التي كان يتشدق بها الكيان وأعوانه في الداخل والخارج.
بعد عملية استمرت نحو أسبوعين.. جيش الاحتلال ينسحب بشكل كامل من داخل مجمع #الشفاء الطبي ومحيطه غربي #غزة. pic.twitter.com/c5NQanhJU0
— نون بوست (@NoonPost) April 1, 2024
14 يومًا يمارس فيها الاحتلال جرائمه بحق المشفى والمحتمين بداخله والمحيطين به من سكان وأطباء ومرضى ونازحين، على مرأى ومسمع من العالم الذي اكتفى بالجلوس في مقاعد المتفرجين يتابع هذه الحلقة الدامية من مسلسل حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال بحق سكان غزة منذ 6 أشهر كاملة، خلفت ورائها أكثر من 32 ألف شهيد ووضعت حياة ما يزيد على مليون ونصف إنسان على مقصلة الجوع والخوف والقصف.
وبعد حصار مطبق لأسبوعين، أسفر عن استشهاد وإصابة المئات من الفلسطينيين، انسحب جيش الاحتلال من المجمع بشكل مفاجئ فجر الإثنين 1 أبريل/نيسان 2024 متجهًا جنوبًا حيث المنطقة الواقعة بين حيي الشيخ عجلين وتل الهوى، هذا الانسحاب الذي أزاح الستار عن كارثة إنسانية جديدة، حيث مئات الجثث الملقاة بالشوارع، وعشرات المنازل المتفحمة، والدمار الذي حل بمحيط المجمع.
رائحة الموت تفوح من كل مكان
غطى حصار الاحتلال للمشفى على مدار الـ14 يومًا الماضية، على الكثير من المسكوت عنه بشأن حجم الدمار والخراب الذي حل بالمجمع ومحيطه، حيث لا صوت يعلو على صوت الرصاص والقصف وتبادل المواجهات بين جيش الاحتلال وعناصر المقاومة.
لكن ما إن انسحب المحتل حتى تكشفت الصورة كاملة، غابت كل ملامح المشفى، المشهد أكثر قسوة مما كان يتوقعه البعض، فالعائدون من الفلسطينيين لم يدر بخلدهم أن يصل الأمر إلى ما وصل إليه، إذ كان الخراب هو العنوان الأبرز لتلك اللوحة التي شوهها الاحتلال كما شوه بقية لوحات غزة الجميلة.
ومع الساعات الأولى للانسحاب تدفق الفلسطينيون النازحون من محيط المشفى للعودة إلى بيوتهم، حيث سلك القادمون من شرق المجمع شارعي “الوحدة” و”عمر المختار” أما القادمون من الشمال فسلكوا شارعي “عز الدين القسام” و”النصر” لكن كانت المفاجأة.
"صبرًا يا أهل الشفاء فإن فرجكم قريب" .. عبارات على جدران مجمع الشفاء خطّها المحاصرون فيه مواساة وتصبيرًا لأنفسهم. pic.twitter.com/uWTwmgRMnh
— نون بوست (@NoonPost) April 1, 2024
لم يتوقع النازحون أن روائح الجثث المتحللة الملقاة في الشوارع الجانبية للمستشفى هي ما ستكون باستقبالهم في أثناء عودتهم، حتى وصل الأمر إلى وضع بعضهم أقمشة مبللة بالمياه على أنوفهم تجنبًا لروائح الجثث والأشلاء التي تعثرت بها أقدام العائدين، فيما سقط آخرون بفعل الغثيان الناتج عن الصدمة وهول المشهد.
وكسى اللون الأسود المشفى، ما تهدم منها وما بقي، إما بسبب الحرائق وما فعلته بها، وإما بسبب دماء مئات الضحايا التي جفت وتحولت إلى اللون الداكن، حتى الحجر والشجر خضبته الدماء فتحول إلى اللون القاني، لتفوح روائح الموت من بين ثنايا كل شيء زاكمة معها أنوف كل من يقترب منها.
ويحاول الاحتلال الذي فشل في تحقيق أهدافه ميدانيًا في مواجهة المقاومة بعد أكثر من 6 أشهر من الحرب، أن يتسول انتصارًا مخزيًا على حساب المرضى والنازحين وعبر حروب المجاعات والمشافي، مستأسدًا على العزل من النساء والأطفال والشيوخ، فيما يتساقط جنوده وضباطه في ميدان المعركة على أيدي المناضلين واحدًا تلو الآخر.
الآثار التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي النازي في مستشفى الشفاء تُبكي القلب، دمر المستشفى الأكبر في #فلسطين، حفر قبور الموتى، قتل المئات من الأطفال والنساء والأبرياء داخل المستشفى وفي محيطه، ترك اكثر من 170 مريضاً وطبيباً لأكثر من أسبوعين بلا طعام أو شراب حتى تعفنت جروح المصابين..… pic.twitter.com/h8XL1KVg9m
— أدهم أبو سلمية 🇵🇸 Adham Abu Selmiya (@adham922) April 1, 2024
قتل وحرق ودمار.. كارثة وحشية
بحسب إذاعة جيش الاحتلال فإن القوات الإسرائيلية قتلت خلال حصار المجمع نحو 200 فلسطيني، واعتقلت 500 آخرين، وأخضعت أكثر من 900 شخص للتحقيق على مدار أسبوعين، لكن بعيدًا عن تلك الأرقام فما خفي أعظم.
البداية مع بوابة المستشفى الرئيسية، تلك البوابة السوداء العملاقة التي كانت تُميز المجمع، حيث دمر الاحتلال أجزاءً كبيرة منها، ولم يكتفِ بذلك، بل حفر حولها لإغراقها بمياه الصرف الصحي، ليتحول محيطها إلى بركة مياه ملوثة وبيئة خصبة للنفايات والحشرات.
ثم انتقلت آلة التدمير إلى الحديقة الواقعة بين البوابة ومباني المشفى، التي كانت مركزًا مؤقتًا للصحفيين من مختلف وسائل الإعلام العالمية، فضلًا عن كونها منطقة إيواء لآلاف النازحين ممن فقدوا منازلهم جراء القصف، حيث شوه الاحتلال الحديقة واقتلع منها الحجر والشجر، ليحولها إلى لوحة سوداء من شدة الاحتراق.
وما إن انتهى النازي المحتل من تدمير الحديقة حتى بدأ مهمته الجديدة بحق قسم الجراحة يمين البوابة الرئيسية، وهو القسم الأكبر والأجمل بالمجمع، ثم مبنى الطوارئ في مقابل البوابة، ومن بعدها أقسام الولادة والإدارة والكلى والسرطان والحروق، حيث دمرها الاحتلال بالكامل، وتم تفجير الطابقين الأول والثاني، حيث تطايرت الأشلاء مع الحجر جنبًا إلى جنب جراء القصف الإجرامي.
"نحن ثابتون في هذه البلد".. رسالة ثبات من سيدة فلسطينية فقدت زوجها وابنها ودُمّر منزلها وسط الدمار في مجمع الشفاء pic.twitter.com/sOOv0CvFzX
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) April 1, 2024
وبلغت النازية الصهيونية حد الاعتداء على المقابر وإخراج الجثث وإلقائها داخل المشفى، كما حدث مع المقبرة المؤقتة التي دشنها الأطباء داخل المجمع لدفن الشهداء، حيث تم تفجيرها وإخراج الجثامين وإلقائها في مختلف مناطق المشفى، فيما ظهر على بعضها علامات سحق بجنازير الجرافات العملاقة والآليات العسكرية، بحسب مراسل “الأناضول”.
وبعد الإجهاز على المشفى بالكامل وإخراجه عن الخدمة بشكل علني وصريح، استهدفت قوات الاحتلال المنازل المحيطة بالمجمع، حيث قصفتها على مدار أسبوعين كاملين، دمرت خلالها منازل عائلات بأكملها، مثل قنيطة وحسونة وأبو شمالة وأبو حصيرة وحبوش وعجور فيما ألقت بجثث الشهداء في الشوارع المحيطة، لتطوق المشفى بالأشلاء وتظلها رائحة الجثامين المحللة.
وفي غضون أيام قليلة طمس الاحتلال هوية ومعالم المجمع الطبي الأكبر في القطاع، ذي الرمزيات الـ3 الخالدة، السياسية والتاريخية واللوجستية، ناسفًا معه ذكريات من عاشوا بداخله وفي محيطه، ومدشنًا لمرحلة جديدة من العنصرية والإجرام تجاوزت في قبحها سنوات النازية والفاشية البالية.
صمت فاضح كالعادة
حتى الساعة لا يمكن حصر عدد الشهداء بشكل دقيق بحسب صحة غزة، فالمشهد أكثر كارثية مما كان يظنه البعض، ومئات المنازل المدمرة يتوقع أن يعثر تحت أنقاضها على جثث وأشلاء، خاصة أنها كانت تأوى عشرات الآلاف من النازحين، الأمر الذي ينذر بكارثة إنسانية من العيار الثقيل.
وأمام هذا المشهد المأساوي والفاضح إنسانيًا يقف المجتمع الدولي صامتًا، كالعادة، عاجزًا حتى عن الإدانة والشجب، مكتفيًا ببيانات صماء تكشف ازدواجيته وعنصريته الفجة، وتفضح سياسة الكيل المتعدد التي يتعامل بها مع مثل تلك الكوارث.
وفي الوقت الذي تدعي فيها الولايات المتحدة وتزعم تحفظها على الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدنيين، ويهلل إعلامها لطائرات الإغاثة والمساعدات التي تلقيها لسكان غزة جوًا وبحرًا، إذ بها على الجانب الآخر تواصل جسورها التي لا تتوقف لدعم جيش الاحتلال بالقذائف والصواريخ والأسلحة، يد تقدم الغذاء وأخرى تقدم أسلحة الدمار والقتل، في تناقض ليس بغريب على السياسة الأمريكية العمياء والداعمة على المطلق للكيان المحتل، أيًا كانت الإدارات الحاكمة وهويتها السياسية.
"ارتكبوا أبشع طرق القتـ،ـل" .. شهادات جرحى فلسطينيين من مجمع الشفاء حول الجرائـ،ـم التي ارتكبها الاحتلال داخل المستشفى. pic.twitter.com/E6aPysX68U
— نون بوست (@NoonPost) April 1, 2024
وعلى الجانب الآخر تقف الحكومات العربية والإسلامية على سلالم الانبطاح، مقدمة كل قرابين الانهزامية والخذلان لغزة وأهلها خشية إغضاب سيدها الغربي الذي تسترضي مباركته لحكمها السلطوي بحق شعوبها المقهورة، وحماية لكراسيها من رياح التغيير الشعبي المحتملة.
ورغم قسوة المشهد وصعوبة تفاصيله، ونقله على الهواء مباشرة على مرأى ومسمع من الجميع، وهو الذي يرتقي إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية التي تستوجب المحاكمة الدولية الرادعة، إلا أن أحدًا لم ولن يتحرك، لتُصلب الإنسانية مجددًا على رؤوس الأشهاد.
وبين هذا وذاك يقف سكان غزة صامدين، مستمسكين بحلم التحرر، متشبثين بحقهم في الحياة، باذلين الروح والدماء والمال لنصرة قضيتهم الخالدة، حتى وإن خذلهم الجميع، ليقدموا ملحمة بطولية، حتمًا سيتحاكى بها الأحرار مستقبلًا، ويتناقلها جيل بعد جيل، فيما يسجل التاريخ أسماء المنبطحين والمتخاذلين بأحرف مجوفة من كل كرامة، وعارية من كل معاني الإباء والعزة.