خلال الإدلاء بصوته في الانتخابات البلدية التركية، بصحبة عقيلته أمينة، في إحدى مدارس منطقة أوسكدار بإسطنبول، لم يكن الرئيس رجب طيب أردوغان يتوقع النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات، خاصة مع قوله: “ستصدر نتيجة تعود بالخير على بلدنا وشعبنا. الانتخابات ستكون بداية لحقبة جديدة في تركيا”، لكن الحياة لا تسير دائمًا وفق الرغبات.
قبل 24 ساعة فقط من الانتخابات البلدية، كانت حالة الثقة داخل حزب العدالة والتنمية وتحالف الشعب الحاكم عمومًا في منسوبها الأعلى، خاصة مع عقد أردوغان 3 مؤتمرات انتخابية حاشدة في إسطنبول فقط، التي كان رئيس بلديتها الكبرى في تسعينيات القرن الماضي، قبل أن تقوده إلى رئاسة الحكومة والدولة، ثم جمعه بين المنصبَين عبر الرئاسة التنفيذية للبلاد.
لذلك، تعامل على أن إسطنبول “معركته الشخصية” وليست معركة مرشحه البرلماني مراد كوروم، قبل ظهور النتائج التي لم تكن على هوى تحالف الشعب الحاكم وأردوغان نفسه.
يعرف المرشحون والناخبون في تركيا أن الانتخابات البلدية معركة “الفرصة الواحدة”، حيث تُجرى من مرحلة واحدة فقط، يفوز فيها الحاصل على أعلى الأصوات من دون نسبة مئوية محددة، خلال عملية التصويت التي تتم داخل البلاد لاختيار رؤساء بلديات 81 ولاية و973 قضاء و390 بلدة و50 ألفًا و336 مختارًا للأحياء والقرى، فضلًا عن أعضاء مجالس البلديات.
وبالتالي لا يحقّ للجاليات التركية في الخارج التصويت خارج الحدود التركية، الذي يقتصر على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية -الجمعية الوطنية الكبرى-، وإعلان النتائج بصورة أسرع من الانتخابات العامة، بعد فرز أصوات المشاركين من بين من لهم حقّ التصويت في الانتخابات المحلية، الذين يتجاوز عددهم الـ 61 مليون ناخب.
ماذا حدث؟
مجرد إلقاء نظرة أولية على النتائج الإجمالية في عموم الولايات الـ 81 التركية، تكشف عن فوز حزب الشعب الجمهوري المعارض بـ 37.4% من مقاعد البلديات، مقابل فوز حزب العدالة والتنمية الحاكم بـ 35.7%، وفاز حزب الشعوب الديمقراطي بنسبة 5.6%، وحزب الحركة القومية، حليف أردوغان، بـ 4.9%، وحزب الجيد بـ 3.7%.
بلُغة الأرقام نفسها، حصل أكرم إمام أوغلو على 50.9% من الأصوات في بلدية إسطنبول الكبرى، ومراد قوروم على 40%، وفي أنقرة فاز المرشح المعارض منصور يافاش بـ 59.7%.
أظهرت نتائج أولية أن حزب المعارضة الرئيسي في تركيا احتفظ بالسيطرة على المدن الرئيسية وحقق مكاسب ضخمة في أماكن أخرى، حيث تقدم حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات بصورة واضحة، وإلى جانب احتفاظه ببلديات بعض المدن الكبرى، أضاف إليها مدنًا ومحافظات جديدة، بعدما حصل على نسبة 37.5% من الأصوات، ترجمها إلى رئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة، وأغلبية المجلس البلدي في أنقرة وإسطنبول.
وأعلن أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري المعارض، فوزه بولاية ثانية في رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، التي تفوق ميزانيها السنوية عدة وزارات تركية مجتمعة، مؤكدًا أن الفارق بينه وبين منافسه، مرشح الحزب الحاكم مراد قوروم، حوالي مليون صوت.
فيما فاز مرشح الحزب، منصور يافاش، ببلدية أنقرة، واحتفظ رئيس بلدية إزمير بمنصبة، واستلهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل خبراته السياسية ورباطة جأشه وهو يستقبل رسالة الناخبين، خلال حديث للأتراك من شرفة المقر الرئيسي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في إسطنبول.
ملاحظات رئيسية
– تعود أهمية الانتخابات البلدية التركية، التي تتم كل 5 سنوات، من كونها المؤشر المهم على قوة الأحزاب المتنافسة، ومدى اصطفاف الكتل التصويتية خلفها، وفي هذه النسخة التي تتزامن مع بدء المئوية الثانية من عمر الجمهورية التركية، تبدو البلاد أمام مفترق طرق، كونها الولاية الأخيرة دستوريًّا للرئيس رجب طيب أردوغان، وعدم وضوح ما إذا كانت هناك خطط لاستمراره أو وجود مرشح بديل للرئاسة في الانتخابات التي ستجرى عام 2028، خاصة مع تأثير نتائج الانتخابات على ملف التعديلات الدستورية المرتقبة.
– حصول حزب العدالة والتنمية الحاكم على حوالي 37% من الأصوات في الانتخابات البلدية الحالية، يعود إلى جملة أسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية، ألمحت إلى وجود تصويت عقابي مرتبط بالملفات التي تهمّ الناخبون بصورة مباشرة كالاقتصاد، وعزوف البعض عن المشاركة للأسباب نفسها.
لكنه يؤكد أن الحملة الدعائية للحزب لم تكن ناجحة بالنسبة المأمولة، على الأقل في توضيح القضايا والملفات التي كان يفترض أن تحتل الأولوية، بدلًا من إغراق الحملة نفسها بنقد الخطاب الإعلامي والسياسي لحزب الشعب الجمهوري المعارض، وهو أمر كان له تأثير سلبي على المعارضة نفسها في الانتخابات العامة في مايو/ أيار الماضي، عندما خصّصت معظم حملتها لنقد سياسات التحالف الحاكم، على حساب طرح خططها القابلة للتنفيذ لحلّ المشكلات والأزمات.
– تعترف البيانات الرسمية التركية بوصول معدل التضخم في البلاد إلى 67% على أساس سنوي، فيما تتحدث معلومات غير رسمية عن “معدل أعلى” للتضخم ينعكس على أسعار المواد الغذائية، ورغم جهود الحكومة التركية لتجاوز الأزمة عبر برنامج اقتصادي يتم العمل به منذ 8 أشهر تقريبًا، وزيادات متتابعة في الأجور والمعاشات، إلا أن الوضع الاقتصادي كان له تأثير مباشر على نتائج الانتخابات البلدية، خاصة في ظل عدم وضوح مردود السياسات الاقتصادية الجديدة حتى الآن.
– وتواجه المجموعة الاقتصادية الجديدة، في تركيا، مشكلات هيكلية وعدة تحديات، ترتبط بالسياسات غير التقليدية التي كانت تتبنّاها الحكومة، كخفض سعر الفائدة، والصدمات الخارجية، وجائحة كورونا وتداعياتها، ونتائج الحرب الروسية الأوكرانية، ثم صدمة زلزال 6 فبراير/ شباط وخسائره التي تقدَّر بحوالي 34.2 مليار دولار ما ألقى بتداعياته على الليرة التركية، وارتفاع معدلات التضخم، وتأثر الإنتاج المحلي، ورغم محاولات حكومية سابقة للتصدي لهذه الإشكالات قبل إجراءات التشديد النقدي، عبر رفع أسعار الفائدة لتقليل الطلب على النقود، وكبح معدلات التضخم المرتفعة.
– الملفات الخارجية، كالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كانت أحد الأسباب المؤثرة على اتجاهات الناخبين، وأحد عوامل الاستقطاب في صفوف التيار المحافظ، ولم تنجح عملية الفصل بين الخطاب والممارسة فيما يتعلق بالعلاقات التركية الإسرائيلية في إقناع شريحة من الناخبين الأتراك، لا سيما التيار المحافظ.
حيث إن اللهجة الصارمة لأردوغان تجاه “إسرائيل”، وتقديم نفسه للعالم الإسلامي كـ”نصير للمضطهدين”، رفعا سقف الرهانات على موقف تركي حاسم بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة خلال الشهور الـ 6 الماضية، لكنه تدرّج من الحياد النسبي إلى التصعيد الكبير، ثم الهجوم الحاد على “إسرائيل“، لكن ظلت العلاقات التجارية بين البلدَين أحد الملفات الشائكة التي وظفها خصوم أردوغان في المعركة الانتخابية.
– النتائج المعلنة للانتخابات تشكل متغيرًا مهمًّا فيما يتعلق بالأحزاب المتنافسة في المشهد السياسي، لا سيما أحزاب تحالف الشعب الحاكم التي تحظى بمكانة كبيرة في دولاب العمل الرسمي تنفيذيًّا وتشريعيًّا، وكذلك أحزاب المعارضة، لا سيما حزب الشعب الجمهوري الأقدم والأكبر في صفوف المعارضة الذي يقدم نفسه كبديل، وإلى أي مدى سيصل التنافس بين هذه الكيانات خلال السنوات الخمسة المقبلة.
– تدرك الأطراف المتنافسة أن نتائج الانتخابات البلدية ستنعكس على مستقبل البلاد، من خلال وعي الناخبين بأهمية الممارسة السياسية، ودورها في حسم المعارك السياسية، حتى وإن كانت الانتخابات البلدية لها خصوصية في الحسم، من خلال الاعتماد على شخصية المرشح، ومدى قدرته على تقدم الخدمات العامة، على النحو الذي ظهر في انحياز الكتلة التصويتية الأكبر في 11 ولاية ضربها زلزال 6 فبراير/ شباط 2023 جنوب شرق تركيا.
وكيف أن سرعة الاستجابة النسبية للحكوم عززت ثقة قاطنيها، من خلال انحياز من لهم حق التصويت إلى تحالف الشعب الحاكم، وبصورة مصغّرة إلى مرشح حزب الشعب الجمهوري في أنقرة منصور يافاش، الذي أحدث تغييرات واضحة في مناطق بلدية العاصمة، وتعزيز الخدمات المقدمة للمواطنين، وهو الحال نفسه في بلدية إزمير، ثالث كبرى المعارك الانتخابية في البلاد، ونجاح رئيسها عن حزب الشعب الجمهوري منذ 20 عامًا، تونج سويار، في الاحتفاظ بمقعده.
– أكدت الانتخابات حجم التعقيد في معركة إسطنبول، ليس فقط لأن معظم الأحزاب قدمت مرشحين لرئاسة بلديتها الكبرى، أو لأنه رغم عدم اتفاق أحزاب المعارضة على مرشح حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلو، كما حدث في انتخابات 2019، نجح في حسم الاستحقاقَين، لكن لأن نتائج انتخابات إسطنبول تعدّ مقياسًا واضحًا لاتجاهات الناخبين، كونها المدينة الأكبر ديموغرافيًّا واقتصاديًّا، وأحد أهم المؤشرات على توقع معركة أكثر سخونة في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، سواء قرر أردوغان خوضها أو تم ترشيح خليفة له بعد 5 سنوات.
– أحادية الرؤية في إدارة العملية الانتخابية، من خلال تركيز المجهود الرئيسي للحملة الدعائية لحزب العدالة والتنمية، وتحالف الشعب الحاكم، على المدن الكبرى (إسطنبول أنقرة وإزمير)، اعتمادًا على “الثقة المفرطة” التي خاضت بها أحزاب التحالف الانتخابات البلدية، وهي على ثقة كاملة بحسمها بعد النجاح قبل 10 أشهر فقط في حسم الانتخابات الرئاسية، وحصول التحالف على الأغلبية البرلمانية، والاعتقاد الداخلي في التحالف بأن النتيجة الطبيعية ستكون الفوز بالانتخابات البلدية في عدد كبير من الولايات التي تبلغ إجمالًا 81 ولاية.
– رغم التماسُك السياسي لتحالف الشعب الحاكم، وتنسيقه الانتخابي الكبير خلال الانتخابات البلدية الحالية، إلا أن المعركة الجانبية بين التحالف وأحد مكوناته السابقة، حزب الرفاه من جديد، وتبادل الاتهامات بين أردوغان وحليفه السابق فاتح أربكان رئيس الحزب، كان لها دور سلبي على مسار الانتخابات ونتائجها، في ظل التنافس الحادّ بين الجانبَين، رغم وحدة المرجعية الفكرية، لكنها لم تمنع التبايُن السياسي والاقتصادي بينهما، وبالتالي تبدّى حجم تأثير حزب الرفاه من جديد على نتائج انتخابات إسطنبول.
– رغم فوز أكرم إمام أوغلو في إسطنبول، ومنصور يافاش في أنقرة، وتونج سويار في إزمير، إلا أن البعض لم يلتفت إلى فائز سياسي من خارج المرشحين، هو الرئيس الجديد لحزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، حيث كانت الانتخابات البلدية تمثل تحديًا حقيقيًّا له، وأن النتائج التي تحققت فيها ستنعكس على مواجهته للضغوط والانقسامات الداخلية في الحزب، وقد تمكّنه من تشكيل تحالف حزب معارض يعالج فشل تحالف “الطاولة السداسية” بقيادة رئيس الحزب السابق كمال كليجدار أوغلو في حسم الانتخابات العامة، والتي أُجريت في الصيف الماضي.
– أعادت نتائج الانتخابات البلدية، خاصة في إسطنبول، المصداقية النسبية إلى نتائج استطلاعات الرأي، وتوقعاتها بتفوق أكرم إمام أوغلو على مراد كوروم، وأن 46.3% من ناخبي حزب المساواة الشعبية والديمقراطية الكردي، و64% من ناخبي حزب الجيد القومي في إسطنبول، يميلون إلى التصويت لصالح إمام أوغلو، رغم تفكُّك تحالف المعارضة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار 2023، وهو حال استطلاعات أخرى توقعت فوز رئيس بلدية أنقرة منصور يافاش، على مرشح العدالة والتنمية تورغوت ألتينوك.
مراجعة ضرورية
ويبقى أن نتائج الانتخابات البلدية التركية تأثرت بعدة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية، بل خارجية، وسيكون لها مردود واضح على المشهد السياسي المحلي خلال السنوات المقبلة، ما يتطلب مراجعة سريعة لأسباب الإخفاق، وهو أمر تفهّمه الرئيس رجب طيب أردوغان جيدًا: “للأسف لم نحصل على النتائج المرجوة والمأمولة في اختبار الانتخابات البلدية. الشعب بعث رسائله إلى السياسيين عبر صناديق الاقتراع. سنناقش أسباب هذا التراجع على المستوى المحلي. وأينما خسرنا أو تراجعنا، سنُحدد الأسباب بشكل جيد جدًّا وسنقوم بالتدخلات المناسبة”، ولعلّ على رأسها الموقف من العدوان الإسرائيلي على غزة.
فرغم التصعيد في لهجة الخطاب السياسي التركي، وتأثُّر حركة التجارة البينية، لم ينعكس ذلك على التعاون التقليدي في مجال الطاقة، المحرك الرئيسي للأنشطة المدنية والعسكرية في “إسرائيل”، التي تستورد يوميًّا حوالي 220 ألف برميل نفط خام من أذربيجان وكازاخستان والهند ونيجيريا والبرازيل وغيرها، معظمها يتقاطع مع ميناء جيهان التركي.
وتظهر أهمية قطاع الطاقة من واقع التحديات القديمة والمستجدّة التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية، والتعقيدات المرتبطة بأنشطتها كمستورد للنفط، ومصدّر نسبي للغاز الطبيعي، وأهمية ميناء جيهان التركي، سواء فيما يتعلق بنسبة الـ 60% من واردات “إسرائيل” النفطية، القادمة من دولتَي أذربيجان وكازاخستان، أو إمدادات النفط الآتية من إقليم كردستان العراق، المعطلة مؤقتًا منذ مارس/ آذار الماضي.
لكن بسبب الأزمة الإنسانية في قطاع غزة نتيجة العدوان الإسرائيلي، “تراجعت التجارة بين تركيا وإسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة إلى أكثر من 50% مقارنة بالعام الماضي” بحسب وزير التجارة التركي عمر بولات، بعد أن وصل حجم التبادل التجاري بين البلدَين إلى 10 مليارات دولار قبل العدوان الإسرائيلي على غزة، فيما يتواصل التساؤل حول حرص تركيا التقليدي على الفصل بين اقتصادها وأي أزمات دبلوماسية، وهل ينطبق ذلك على العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة.