أبطال منسيون: مسلمون قاتلوا في الحرب العالمية الأولى

ترجمة حفصة جودة
وسط الرياح العاتية التي تعبر الحقول لتخترق الحشد المجتمع على جانب التل المطلّ على “نوتردام دي لوريتي” مقبرة الحرب الوطنية في فرنسا، ووسط ما تبقى من 440 ميلاً من الخنادق التي كانت محفورة على الجبهة الغربية، ترتعد الحشود من الصدمة والمفاجأة أكثر من الصقيع في أثناء استماعهم لقصص الرجال الذين عاشوا أهوال الحرب العالمية الأولى.
سقطت أكثر من 1.5 مليار قذيفة مدفعية على هذا الجزء من شمال فرنسا بالقرب من مدينة أراس، مما دفع الجنود إلى تسمية هذه الأرض الزراعية التي قاتلوا فيها باسم “جحيم الشمال” أو “المقبرة”، لكن تجارب الجنود المسلمين كانت أكثر ما أثار خيال الحشد، فهي ترسم صورة لجحود التاريخ الذي لم يتحدث عنهم من قبل.
سافر هؤلاء الجنود آلاف الأميال من بلادهم الحارة ليدخلوا تلك الخنادق الباردة مع الأئمة، هؤلاء الأئمة قد جاءوا لإمامة المصلين وتلقين الشهادة للموتى وتعليم الجنود كيفية الصلاة في الحرب، فعندما تشتد الحرب يستطيع الجنود الصلاة بتحريك رأسهم فقط وعندما تهدأ الأوضاع يمكنهم حينها إتمام صلاتهم كاملة.
لم تتميز شواهد قبور المسلمين بنقوشها الإسلامية فقط لكنها كانت تتجه أيضًا شرقًا نحو مكة
جاء برفقة هؤلاء الرجال طباخون لإعداد الطعام الحلال، وعندما كانت تنفذ الإمدادات الطبية، كان بعض هؤلاء الجنود يستخدمون الأعشاب الطبية التقليدية التي جاءوا بها من بلادهم لمعالجة رفاقهم أيًا كان دينهم، وهناك آخرون علموا رفاقهم الأغاني الشعبية لبلادهم – رغم اختلاق اللغات – وسط الهجوم الوحشي على خنادق الحرب.
تظهر أدلة تضحياتهم في مقبرة نوتردام التي تحتوي على قبور 40 ألف جندي فرنسي سقطوا على الجبهة الغربية، لم تتميز شواهد قبور المسلمين بنقوشها الإسلامية فقط لكنها كانت تتجه أيضًا شرقًا نحو مكة، صمم هذه الشواهد الرسام الفرنسي إيتين دينت الذي أعلن إسلامه عام 1908.
أنهى الحشد المكون من بريطانيين مسلمين – جاءوا إلى المقبرة قبل عطلة ذكرى يوم الهدنة – زيارتهم للمقبرة بالصلاة على قبور الجنود المسلمين الذين جاءوا من شمال إفريقيا، تشكل زيارتهم تلك جزءًا من المشروع المميز لمنظمة تسمى “الأبطال المنسيون 14-19” والتي وثقت لأول مرة مساهمات المسلمين في القتال بجانب قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، يشير رقم 14 إلى السنة التي بدأت فيها الحرب، أما رقم 19 فيشير إلى الصراع الذي تسبب فيه الوجود العسكري الفرنسي في سوريا عام 1919 بعد انتهاء الحرب.
أول جولة من الزوار يصلون على قبور الأبطال المسلمين في مقبرة نوتردام
أمضى الباحثون 6 سنوات في التنقيب في السجلات العسكرية والدبلوماسية والخاصة ومن ضمنها مذكرات يومية ورسائل عبر 19 دولة، وتمكنوا من الوصول إلى 850 ألف وثيقة باللغات الفرنسية والإنجليزية والفارسية والأردية والروسية والألمانية والعربية، بالإضافة إلى مئات الصور، قدر الباحثون أن نحو 2.5 مليون مسلم شاركوا مع الحلفاء سواء كجنود أو عمال، ويعتبر هذا الرقم أول رقم يتم توثيقه وتأكيده في هذا الشأن.
أنشأ هذه المؤسسة البلجيكي لوك فيرير – 53 عامًا – بعد أن عثر على مذكرات جده الأكبر عن الحرب العالمية الأولى، حيث كتب جده بشكل مكثف عن المحمديين الذين التقى بهم في الخنادق، كان الأمر ساحرًا فاتجه فيرير نحو كتب التاريخ ليحصل على مزيد من المعلومات لكنه لم يجد سوى القليل من المعلومات المتاحة.
بدأ فيرير أبحاثه الخاصة من خلال سجلات الحرب الفرنسية والبلجيكية وأدرك أن هناك قصة أكبر، في الحقيقة أصبح فيرير مسحورًا بالقصة حتى إنه تخلى عن عمله في صناعة الطيران لإنشاء المؤسسة عام 2012 وكرس حياته لتوثيق دور جميع المسلمين الذين شاركوا في الحرب.
كان الضباط الفرنسيون والبلجيكيون والكنديون يعربون عن دهشتهم من معاملة المسلمين الإنسانية للأسرى الألمان
جاء هؤلاء الجنود من إفريقيا والهند ومن الشرق الأوسط والأقصى ومن روسيا وحتى من أمريكا، لكن قصصهم التي تمس القلب عن حياتهم وموتهم بجوار رفاقهم الأوروبيين المسيحيين واليهود تركت أثرًا كبيرًا في فيرير وفريقه، ويرى فيرير أن معرفة هذا التاريح قد يساعد على التغلب على بعض المشكلات في أوروبا اليوم.
أظهرت الوثائق كيف كان الأئمة والقساوسة والحاخامات يعلمون بعضهم البعض كيف يدفنون الموتى في ساحة الحرب والصلاة عليهم، كما أشارت التقارير أيضًا أن الجنود المسلمين كانوا يشاركون الطعام مع المدنيين الجوعى، وكان الضباط الفرنسيون والبلجيكيون والكنديون يعربون عن دهشتهم من معاملة المسلمين الإنسانية للأسرى الألمان، وعند سؤالهم عن سبب تصرفاتهم تلك أجاب الجنود أن القرآن والنبي محمد علموهم كيف يتعاملون مع الأسرى في الحرب.
يقول فيرير – وهو ليس مسلمًا -: “ينتشر اليمين المتطرف والإسلاموفوبيا في أوروبا بشكل كبير، وهذا المشروع من أجل أن يعلم الناس في أنحاء القارة أننا نملك تاريخًا مشتركًا، الأمر لا علاقة له بالسياسة أو الاستعمار لكنه ببساطة يقدم مجموعة من الحقائق وهذه القصة يجب أن يعرفها جميع الأوروبيين”.
نستطيع أن ننشر عن تضحياتهم بحياتهم من أجل أوروبا الحرة وكيف أنها ساعدت فيما هي عليه الآن
وأضاف فيرير: “يتم تصوير المسلمين على أنهم العدو في الداخل وأنهم وافدون جدد لم يقدموا أي إسهامات من أجل أوروبا، لكننا نستطيع أن ننشر تضحياتهم بحياتهم من أجل أوروبا الحرة وكيف أنها ساعدت فيما هي عليه الآن، وعليه فلهم الحق في أن يكونوا هنا”.
تهدف المؤسسة في جوهرها إلى نشر المعرفة التي وصلت إليها بين الشباب البريطاني والأوروبي على وجه الخصوص بهدف مساعدة الأجيال القادمة على فهم أفضل للمجتمعات الإسلامية التي تعيش بينهم، كما تنظم المؤسسة جولات في أرض المعركة تحت عنوان “التجربة الإسلامية في الحرب العالمية الأولى” بالتعاون مع شركة “أنجيلا تورز” المتخصصة في زيارة تلاميذ المدارس البريطانية لساحة المعركة.
بالإضافة إلى زيارة الخنادق والنصب التذكارية والقبور وسماع القصص الإنسانية عن تلك المقابر، تتضمن الجولة زيارة لمسجد البدر في مدينة أميان لحضور عرض عن أبحاث المؤسسة ويليه وجبة تقليدية من شمال إفريقيا، ويستطيع الزوار غير المسلمين مشاهدة الصلوات في المسجد.
يقول يوسف شامبرز والذي يعمل مع المؤسسة في بريطانيا: “نحن نحاول بناء جسور التواصل وليس هناك طريقة أفضل من مشاركة الطعام والتواصل الاجتماعي، يركز عملنا على جميع المجتمعات والأعمار لكنه موجه للشباب بصفة خاصة، نحن نرغب في أن يعلم الجميع هذا التاريخ حتى يقول الأطفال في بريطانيا وأوروبا إن المسلمين كانوا أبطالاً أيضًا في الحرب العالمية الأولى”.
عندما تسمع الشهادات الشخصية لهؤلاء الناس تفهم حقًا ما الذي مر به هؤلاء الرجال
كان عمل المؤسسة قد جذب أعين خبراء الحرب العالمية الأولى، وفي الشهر الماضي تواصل فيرير مع المؤرخين في جامعة هارفرد كما قدم ورقة للأمم المتحدة، ومن المخطط إصدار كتاب في العام القادم يحتوي على مقتطفات من الوثائق والصور التي عُثر عليها، وإقامة معرض يطوف أنحاء أوروبا، ومع تواصل البحث يعتقد فيرير أن الرقم الحاليّ 2.5 مليون مسلم قابل للزيادة.
بالنسبة لهؤلاء الذين حضروا الجولة الافتتاحية الأسبوع الماضي، ما أثر بهم بشكل كبير كان سماع رسائل الجنود المسلمين لعائلاتهم حيث شاركوهم خوفهم وإيمانهم، من ضمن هذه الرسائل رسالة لجندي جزائري حارب في خنادق نوتردام 1916 ويقول فيها: “أقسم بالله وبكتابه المقدس أنني لن أتوقف أبدًا عن أداء صلواتي، لن أتخلى أبدًا عن إيماني حتى لو تعرضت لظروف بشعة أقسى مما أعانيه الآن”.
تقول طيبة شوكت – 25 عامًا – من غرب لندن: “عندما تسمع الشهادات الشخصية لهؤلاء الناس تفهم حقًا ما الذي مر به هؤلاء الرجال، لقد تم توثيق تجربة الجنود الأوروبيين في الحرب العالمية الأولى بشكل جيد من الشعراء والكتاب، لكننا لا نعلم أي شيء عن حياة الجنود المسلمين وغيرهم من جنود المستعمرات، لذا يجب أن يتغير الوضع”.
ينقسم المسلمون الذين شاركوا في الحرب إلى جنود وعمال، يبلغ عدد الجنود الذين شاركوا في الجيش البريطاني الهندي 400 ألف هندي، وشارك في الجيش الفرنسي 200 ألف جزائري و100 ألف تونسي و40 ألف مغربي و100 ألف من غرب إفريقيا و5 آلاف صومالي وليبي، شارك أيضا في التحالف 5 آلاف مسلم أمريكي و1.3 مليون مسلم روسي، أما بالنسبة للعمال فقد شارك 100 ألف مصري و35 ألف مسلم صيني و130 ألف من شمال إفريقيا و200 ألف من إفريقيا السوادء (جنوب الصحراء الكبرى) و40 ألف هندي.
المصدر: الغارديان