الإجراءات البلدوزرية للأمير محمد بن سلمان التي ما انفك غبارها يحجب الرؤية في حق أعمامه وبني عمومته وبعض دهاقنة المال والأعمال، تذكرنا بتصرفات أمير كوريا الشمالية كيم جونغ أون، فكلا الأميرين في مطلع الثلاثينيات من العمر، وكلاهما لا يعرف أباه في الكرسي، ولا يقيم اعتبارًا يذكر للصلات العائلية عندما تتضارب مع صلات الْمُلْك والحكم المطلق.
فالأمير الكوري الشمالي لم يتردد في استعمال المدافع المضادة للطائرات للقضاء على منافسيه من أبناء عائلته، والأمير السعودي هز العالم هزة صحفية وهو يلقي بشخصيات صاحبة سمو وسعادة تكاد توصف بأنصاف آلهة، من مجتمع الصفوة ونخبة أثرياء وأباطرة الإعلام العرب إلى فندق ريتز كارلتون، وهو إن بدا فعله أكثر إنسانية من فعل كيم، فإننا لا نعلم ما إذا كان الأمير قد تعدى خط “الروبيكون” الذي قد يدفعه إلى القيام بسلسلة من الاغتيالات الموجهة إلى أصحاب الرؤوس الساخنة في العائلة الحاكمة.
ألا يثير مصرع الأمير منصور بن مقرن في ظروف غامضة وهو على متن هيلكوبتر، وبالتزامن مع الحملة التطهيرية التي وجهت أساسًا إلى الجناح المعارض لحكم ابن سلمان، علامات استفهام حادة كعقفة الخنجر؟ ألم يعبر الأمير عبد العزيز بن فهد عن مخاوفه من أن يتم اغتياله في تغريدة على تويتر لحظات قبل اختفائه؟
الاضطرابات في المملكة السعودية ينبغي أن تحظى بحذر شديد من الأطراف خارج المملكة ومن ضمنهم الولايات المتحدة، وعليهم أن يتأملوا جيدًا من يؤيدون عندما يؤيدون رجلاً متهورًا وخفيفًا مثل ابن سلمان، وما عليهم إلا أن ينظروا إلى العدوة الأخرى من الخليج ليروا ما جنوه من قبل عندما أيدوا شاه إيران، كانت النتيجة ثورة خمينية متطرفة انتهت بحكم الملالي الثيوقراطي الذي ساهم في تكريس الطائفية والعنف في المنطقة.
جاء في بعض وثائق ويكيليكس، أن مدخول مليون برميل من النفط يوميًا تتوزع بين خمسة من كبار الأمراء، كما أن أحد أهم الميكانيزمات التي تستنزف ميزانية الدولة نظام رواتب الأمراء الذي يغطي جميع مظاهر الإنفاق
فكثير من السعوديين دوغمائيون عقائديون إلى أبعد مدى (معظم المتعاطفين مع داعش على تويتر سعوديين، ويبلغ عدد السعوديين المقاتلين في صفوف التنظيمات المتطرفة في سوريا أكثر من2000 وفِي طريقهم للعودة)، لم يعرف المجتمع السعودي طيلة قرون أي لون من المذاهب والأفكار غير تلك التي أنتجتها البيئة القبلية المحافظة في جزيرة العرب، وأدى اكتشاف النفط إلى نوع من التعالي والاكتفاء الذاتي في الأفكار والآراء، وسرى بين الناس اعتقاد مفاده أن سبب تلك الثروة النفطية والثراء الذي نزل عليهم بغتة أو بالأحرى صعد من تحت أقدامهم، وأخرجهم من سكنى الخيام وحدو الإبل في الصحراء، إلى قصور ألف ليلة وليلة وقيادة سيارات الفراري والرولز رويس، وامتلاك ما لا يحصى من الشركات الكبرى في العالم والأندية الكروية والعقارات والشقراوات أيضًا، كل ذلك، يعود بالأساس إلى التزامهم بالشريعة كما يفسرها المذهب الوهابي، وأن الله منحهم الذهب الأسود لأنهم عضوا بنواجذهم على تعاليم وطقوس ابن عبد الوهاب.
الآن وشمس النفط تغيب تدريجيًا بين تلال الصحراء، وبدأ يلوح في الأفق ألوان بنفسجية وأقحوانية تخالط ذلك النور الذهبي الآخذ في الانحسار، أدرك الأمريكيون أن الأسلوب التقليدي في الحكم الذي يطلق أيادي الأمراء في خزينة الدولة بالشكل الذي يتعامل به أفراد القبيلة مع بئر الماء أو بتعبير دونالد ترامب “الحلب”، كلما عطشوا حملوا دلاءهم وصوبوها نحو القاع، حتى جاء يوم غدت فيه الدلاء تصطك بالأرض الطينية الصلبة بعد غياض المياه.
هذا الأسلوب لم يعد ممكنًا اليوم، ولقد جاء في بعض وثائق ويكيليكس، أن مدخول مليون برميل من النفط يوميًا تتوزع بين خمسة من كبار الأمراء، كما أن أحد أهم الميكانيزمات التي تستنزف ميزانية الدولة نظام رواتب الأمراء الذي يغطي جميع مظاهر الإنفاق المتعدد الوجوه من تذاكر السفر وحجوزات الفنادق الفخمة، إلى تكاليف الأعراس والمناسبات الخاصة.
سوف يؤدي هذا إلى إفلاس عام لخزينة الدولة وتبخر احتياطها من العملة الصعبة في غضون سنوات معدودة مع تدني أسعار النفط، وعندما تفلس الدولة تمامًا وتمد يدها للبنك الدولي، وتصبح عاجزة حتى عن دفع رواتب الموظفين وتوفير الحاجيات الأساسية لمواطنين تعودوا على نمط عيش مريح نسبيًا، وفواتير ماء وكهرباء تكاد تكون رمزية، وشباب يقدر بـ70% من مجموع السكان، كان يقضي وقته بين “التفحيط” ومقاهي ستار باكس ومطاعم الوجبات السريعة، عندما لا يجدون بعد ذلك إلا رمال الصحراء وعطش الأرض وتهالك الموارد والبُنى التحتية، فإنهم جميعًا سوف يصبون غضبهم ويأسهم على من يحكمهم.
قد يجد الأمير تأييدًا من شبيبة الليبراليين والمرأة والجيل الجديد المبحر في عوالم الإترنت والمتصل بثقافات متعددة، لكن هؤلاء ليسوا إلا غثاء أمام طوفان الأصوليين حملة الإيديولوجيا، والمحافظين حماة التراث والتقاليد
فكان لا بد أن يتدارك الأمريكيون الوضع قبل أن يأخذ الحنق الشعبي شكل ثورة تعيد التجربة الإيرانية، فرأوا أن يعينوا أميرًا شابًا له من شهوة الْمُلْك ما يجعل قلبه ميتًا لقطع كل عضو معارض في عائلته إذا لزم الأمر، إرضاءً لأمريكا أولاً وإنقاذًا للعائلة ثانيًا، لأن العائلة لو تركت على سجيتها دون تغيير جذري لطريقة تصرفها بالثروة والمال العام، فإنها لن تكف عن تبديد ما تبقى من مداخيل النفط لإنقاذ الاقتصاد السعودي، ولن تبقي في الخزينة قلامة ظفر، فكان لا بد من الفطام المر مهما كانت التحديات والاعتراضات، وكان محمد بن سلمان أكثر الأمراء من الجيل الثاني استعدادًا واستجابة للمعايير الأمريكية، بتوصية وتزكية من الحاكم الفعلي للإمارات ولي العهد محمد بن زايد وسفيره في واشنطن.
صحيح أن مجرد إلقاء القبض على أمير فاسد أو وزير مرتش أو رجل أعمال غاسل للأموال قد يجعل ابن سلمان في نظر الشباب المحبط بطلاً قوميًا وزعيمًا وطنيًا، حتى وإن كان ذلك في آخر المطاف يَصب في مصلحة العائلة، ويشبه عملية جراحية لاستئصال عضو متعفن حماية لسائر الجسد، على قول الشاعر العربي: نحمي حقيقتنا وبعض*** القوم يسقط بين بينا.
لكن هل سيحتمل المجتمع السعودي الذي يدين في عمومه بالوهابية، إجراءات حداثية راديكالية مباغتة، تروم سلخه من معتقده وعاداته وأسلوب حياته؟ ترى كيف سيكون رد الفعل بعد أن يستوعب الناس حقيقة الوضع؟ ما انعكاس ذلك على المتدينين المعتدلين والأصوليين المتزمتين على حد سواء؟ إلى أي مدى سوف يحافظ النظام على دعم طبقة الشيوخ والفقهاء والدعاة وطلبة العلم الشرعي في الجامعات الإسلامية الذين ما زالوا إلى ساعتهم يدرسون موادًا في الحاكمية وكفر من لم يحكم بما أنزل الله ويجادلون في دوران الأرض؟
قد يجد الأمير تأييدًا من شبيبة الليبراليين والمرأة والجيل الجديد المبحر في عوالم الإنترنت والمتصل بثقافات متعددة، لكن هؤلاء ليسوا إلا غثاء أمام طوفان الأصوليين حملة الإيديولوجيا، والمحافظين حماة التراث والتقاليد.
هناك مستويات متعددة للحروب بالوكالة، فأمريكا وروسيا تستخدمان السعودية وإيران في حرب النفوذ، وهاتان الأخيرتان تستخدمان الكيانات والتنظيمات الدائرة في فلكهما في اليمن ولبنان لخدمة نفوذهما في المنطقة
هنا فقط يبرز دور تصدير الأزمة ورمي الجُلّة الثقيلة إلى الخارج، سياسة صرف الانتباه وفك الاحتقان والتدافع الداخلي بخلق بؤر توتر في مناطق مجاورة، وهذا ليس أمرًا جديدًا، فالسعودية اعتادت على استغلال الصراعات الخارجية لتقوية عروة الحكم في الداخل، وكسب التعاطف الشعبي عن طريق خلق قنوات فرعية تلفت الانتباه وتشتت التركيز عن المشاكل الداخلية وفساد العائلة، مستدعية المشاعر الوطنية والطائفية، وبهذا الاعتبار توفر إيران نموذجًا مثاليًا لهذا النوع من الفهلوة والاستغلال، ويكون العداء المحموم بين الدولتين القروسطيتين، الوهابية والاثني عشرية، ورقة يشهرها كل من النظامين الثيوقراطيين لمواجهة التحديات الداخلية.
وفي هذا السياق يمكننا قراءة أزمة قطر وحرب اليمن التي بدأت بخلاف قبائل مع الحكومة، لتتطور مع التدخل السعودي إلى كارثة إنسانية بكل المقاييس، والآن هناك مساعٍ حثيثة لزعزعة استقرار لبنان بعد استقالة مثيرة لرئيس حكومتها سعد الحريري من الرياض، ورغبة شديدة في مواجهة عسكرية مع إيران، والسعي وراء موقف عدائي لطهران يكاد ينتزع انتزاعًا، وسوف تزداد لهجة التصعيد حدة كلما اقتربت لحظة تنازل الملك سلمان عن العرش لابنه.
اللحظة التي ستعرف غياب جناح عريض من العائلة الحاكمة الذين كانوا سيمتنعون عن البيعة لو بقوا خارج الاعتقال، والحاصل أن هناك مستويات متعددة للحروب بالوكالة، فأمريكا وروسيا تستخدمان السعودية وإيران في حرب النفوذ، وهاتان الأخيرتان تستخدمان الكيانات والتنظيمات الدائرة في فلكهما في اليمن ولبنان لخدمة نفوذهما في المنطقة، الذي بدوره يَصب في الأخير في مصلحة أمريكا وروسيا.