لم تعد الحروب وحدها، والتناحر والبغضاء وإثارة النعرات بمستوياتها بين الأجناس والأمم المختلفة، من تصنع ملايين اللاجئين، ولكنها الطبيعة أيضًا التي كشرت عن أنيابها خلال السنوات الماضية وخلفت كوارث إنسانية واقتصادية، والأسوأ بحسابات الأمم المتقدمة ووفق تقديرات شديدة الدقة سيكون خلال السنوات الـ20 القادمة، إلا إذا قدم البشر طلب استتابةً، واستخدموا أقل الفرص التي ما زالت متاحة حتى الآن، وأهمها مآلات مؤتمر المناخ العالمي المنعقد حاليًا في ألمانيا، والإجراءات التي ستتفق عليها 196 دولة من أجل المضي قدمًا في تطبيق اتفاقية باريس الدولية لحماية المناخ.
كيف استعد العالم لقمة المناخ في ألمانيا؟
انطلق المؤتمر يوم الإثنين الماضي في مدينة بون الألمانية، ويستمر حتى الـ17 من الشهر الحاليّ، بمشاركة ممثلين عن 196 دولة، بلغ عددهم نحو 25 ألف شخص، وبحضور رؤساء دول وحكومات من مختلف أنحاء العالم.
ليست الأزمة السورية وحدها التي تلفت انتباه العالم، حيث سبقتها أمريكا التي حاصرتها تغيرات مناخية التفت كالحية حول ولايتها هذا العام، وخلفت دمارًا كارثيًا بسبب إعصار إيرما الذي ضرب “فلوريدا”، وأجبرها على إجلاء نحو 6.3 مليون شخص
كانت مؤسسة العدالة البيئية الأمريكية “EJF” أول من عبر بوضوح عن سر حالة الاستعداد القصوي في بلدان العالم، وأنتجت تقريرًا استندت فيه على مقابلات مع أهم الخبراء العسكريين في الولايات المتحدة الذين حذروا بدورهم من خطورة التغير المناخي، وما قد ينتج عنه من موجة لجوء أكبر من مثيلتها السورية، وهي الأسوأ بالعالم حاليًا.
تقرير المؤسسة أشار بوضوح إلى تشريد الملايين من البشر، إذا لم يتبن العالم من الآن خطة تأمين استباقية مناسبة لحماية اللاجئين المحتملين، وخصوصًا القادمين منهم من مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا، والغريب أن سوريا التي تعاني من حرب مدمرة، هي أكثر الدول التي تشهد حاليًّا أسوأ موجة جفاف لها منذ 900 عام، مما انعكس على خسارة كارثية للأراضي الزراعية، وبالتبعية خسارة الفلاحين لمصادر رزقهم وسبل عيشهم.
كما نتج عن هذه الأزمة حالة تهجير مناخي بشكل قسري، إذ بلغ عدد الذين أجبروا على ترك أراضيهم والرحيل عنها بسبب الجفاف، نحو مليون سوري حتى الآن، بحسب تقديرات خبراء استضافتهم إذاعة دويتش فيلة الألمانية.
ليست الأزمة السورية وحدها التي تلفت انتباه العالم، حيث سبقتها أمريكا التي حاصرتها تغيرات مناخية التفت كالحية حول ولايتها هذا العام، وخلفت دمارًا كارثيًا بسبب إعصار إيرما الذي ضرب “فلوريدا”، وأجبرها على إجلاء نحو 6.3 مليون شخص، وكانت لهجة الرعب التي تفوه بها حاكم الولاية وهو يوجه نداءً حاسمًا للسكان قائلاً: “لن تتمكنوا من النجاة إذا أمُرتم بالمغادرة ولم تغادروا الآن” تعبيرًا واقعيًا عن فداحة أزمة تسببت في إزهاق أرواح نحو 21 شخصًا، بجانب تكلفة اقتصادية بلغت ما يقرب 290 مليار دولار، بنسبة 1.5% من إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة.
بدء دخول إعصار إيرما فلوريدا في أمريكا
ربما هدفت دويتش فيله من لجوئها إلى خبراء عسكريين أمريكيين في قضية كهذه، إلى معرفة التقديرات الأمنية شبه الدقيقة لأعداد اللاجئين من اضطرابات التغيرات المناخية، وما قد ينتج عنها من توترات سياسية واجتماعية واقتصادية، بما يشكل تهديدًا مباشرًا ووجوديًا للحضارة الغربية على وجه التحديد على المدى البعيد، وهو ما أكده العميد ستيفان تشيني، وأشار إلى أن أوروبا تعاني من مشكلة الهجرة حاليًّا، ولكنها لا تساوي شيئًا إذا ما قورنت بالأعداد الضخمة المتوقع نزوحها من إفريقيا وخصوصًا المناطق المحاذية للصحراء الكبرى في القارة السوداء.
ما كشفت عنه دويتش فيله، كان حاضرًا أيضًا في تقرير لمنظمة أوكسفام الخيرية بالمملكة المتحدة، الذي صدر هذا الأسبوع، وقبل انتهاء فعاليات مؤتمر المناخ العالمي في مدينة بون الألمانية، ورصد التقرير الأعداد التي تضررت من المناخ بين عامي 2008 و2016، لافتًا إلى نزوح نحو 21.8 مليون إنسان بسبب الكوارث المناخية المفاجئة، أهمها كان إعصار وينستون الذي ضرب جزر جنوب المحيط الهادي، فيجي وتونغا وفانواتو وشمال أستراليا، عام 2016، وتسبب في تهجير أكثر من 55 ألف إنسان.
آثار إعصار ونستون المدمر في فيجي
وإثر الإعصار، خسرت فيجي على وجه التحديد، وهي التي ترأس مؤتمر المناخ المنعقد حاليًّا في ألمانيا، ما يقرب من خُمس ناتجها المحلي الإجمالي، مما يجعل أزمة المناخ من أخطر القضايا صاحبة الأولوية في الاهتمام العالمي، لا سيما أنها ليست محكومة بحسابات جغرافية في نطاقات محددة، ولكنها أزمة عالمية تهدد كوكب الأرض بأكمله، بسبب تأخر الحلول والتردد في توقيع الاتفاقيات، على الرغم من أن تهديد المناخ لأكثر البلدان تقدمًا وعلمًا وثراءً ونفوذًا في العالم، لا يقارن بالبلدان الأكثر فقرًا، وكأن الطبيعة تقدم لنا فلسفة وجودية من نوع جديد، كانت تنتظر اللحظة الفارقة للإعلان عن نفسها ولعلها الآن حانت.
لماذا ألمانيا؟
يحسب لألمانيا تحديدًا، أنها كانت على رأس الدول التي استثمرت في حماية المناخ العالمي، وبلغت ادخارتها في هذه القضية خلال العام الماضي فقط ما يقارب 2.8 مليار يورو، للتكيف مع التغيرات المناخية، كما تدفع حاليًا باتجاه عقد شراكة عالمية للتأمين ضد آثار التغير المناخي، ولا سيما في ظل التوقعات المتزايدة عن تأثيره على حركة الطيران، بالإضافة إلى السلبيات الناتجة عن الجفاف والأعاصير والفيضانات، التي ستجبر دون محالة ملايين البشر على البحث عن أماكن أخرى للعيش فيها.
لم يبرز العرب في رؤيتهم للأزمة إلا المطالبة بالتمويل الكافي من الغرب لمواجهتها في بلدانهم، وكأنهم يتعاملون مع الكارثة بمنطق الصفقة السياسية لا التقنية، فما يهم العرب حاليًّا تعبيد الطريق للاستفادة من غضب الطبيعة بشتى الطرق
هذه التوقعات التي تأخذها ألمانيا على محمل الجد، جعلتها تتخذ بعض التدابير الاحترازية للتصدي لمخاطر التغير المناخي بما يحول دون حدوث موجات لجوء كبرى، منذ قمة المناخ التي عقدت في جنوب ألمانيا عام 2015، ووقتها أطلقت مجموعة الدول الصناعية السبعة مبادرة لتأمين ما يقرب من 400 مليون إنسان في الدول النامية، ضد مخاطر التغير المناخي.
يأتي ذلك في الوقت الذي تعمل فيه أيضًا الجمعية الألمانية للتعاون الدولي “GIZ” على تدبير خطة تأمين ذاتية تشمل مساعدات عاجلة وعمليات إعادة بناء، وذلك لمساعدة المتضررين في إعادة بناء حيواتهم وثرواتهم حال تعرضهم لكوارث مناخية، حتى لا يتحولوا إلى لاجئين مناخيين.
العرب ومؤتمر المناخ.. الحضور المشرف يكفي
رغم مشاركة المجموعة العربية بوفد مميز في مؤتمر المناخ العالمي، إلا أنها وخلال أسبوع كامل على بدء الفاعلية المهمة لم تجد أي دعم لوثيقة مطالبها والتي تقدمت بها، وتركزت في ضرورة تقديم دعم كافٍ للدول العربية، خصوصًا في مشاريع التكيف التي نجمت من ظاهرة التغير المناخي، وهو الأمر الذي وصفه رئيس شبكة الشباب العربي للتنمية المستدامة طارق حسان بـ”اللا رؤية”، باعتباره نتاج منطقي لعدم تأهيل الوفود المشاركة، ومنحها الخبرة الكافية في التفاوض قبل حضورها إلى مثل هذا المؤتمر.
تم عقد اتفاق “نصف مبدئي” للحصول على المطالب العربية، لكن لا يمكن معه وضع استنتاجات عن سير المفاوضات
ما قاله حسان ردده أيمن الشاذلي رئيس المجموعة العربية الممثلة في المؤتمر بصورة أخرى، وأشار الى عدم وضوح المعالم حتى الآن بشأن المفاوضات والتي لا يمكن معها التنبؤ إن كان هنالك تجاوب مع مطالب المجموعة العربية أم لا، مكتفيًا بالقول إنه تم عقد اتفاق “نصف مبدئي” للحصول على المطالب العربية، لكن لا يمكن معه وضع استنتاجات عن سير المفاوضات.
ورغم تبني الدول العربية موقفًا موحدًا في المفاوضات، كان واضحًا سيطرة وهيمنة المملكة العربية السعودية على القرار العربي، وهو الأمر الذي تنبه له العديد من الخبراء في مختلف وسائل الإعلام الغربية، وبعضهم حذر في العموم من خطر تبني الدول العربية بمختلف ظروفها وطبيعة المناخ لديها لوثيقة موحدة، مما قد يوقع ظلمًا على بعضها بسبب التضامن مع رأي دولة أخرى تختلف كليًا عنها، وربما كان هذا السبب الأوضح لوضع الدول الكبرى عراقيل وعقبات أمام إقرار مثل هذه الوثيقة الموحدة للدول العربية.
لم يبرز العرب في رؤيتهم للأزمة إلا المطالبة بالتمويل الكافي من الغرب لمواجهتها في بلدانهم، وكأنهم يتعاملون مع الكارثة بمنطق الصفقة السياسية لا التقنية، فما يهم العرب حاليًا تعبيد الطريق للاستفادة من غضب الطبيعة بشتى الطرق، وبانتهازية يحسدون عليها، فلا هم يريدون المشاركة في الحل، ولا نية لديهم لإلقاء مواعظهم على الجادين في الحياة، فهذا يبدو أنه لم ولن يكون لهم فيه نصيب.