يُحكى أن جواز السفر السوداني كان يتمتع بمكانة رفيعة على مستوى دول الجوار وفي أنحاء العالم المختلفة، فقد كان حامله يجد الاحترام والتقدير أينما حلّ، وترتبط قيمة جواز السفر عمومًا لأي بلد بالوضع الاقتصادي ومستوى الثقة والأمان الذي تشهده الدولة المعنية.
إذ كان السودان يعيش وضعًا اقتصاديًا مزدهرًا حتى ثمانينيات القرن الماضي، ليس بسبب البترول أو الذهب، بل بفضل عائد الصادرات الزراعية مثل القطن والسمسم والصمغ العربي وغيرها، ولم تكن البلاد بحاجة إلى منحٍ أو مساعدات كما اليوم.
ولذلك، اعتذر العديد من السودانيين الذين تم انتدابهم للعمل في دول الخليج سابقًا عن أخذ جوازات تلك الدول عندما عرضت عليهم ذلك، فقد كان للإنسان السوداني اعتزازًا بأصله والثقة في جواز السفر الذي يحمله، إذ كان الجنيه السوداني يعادل 3 دولارات أمريكية في تلك الأيام! وكانت الخرطوم تعج بأفخم المنتجات والسلع الفاخرة والمؤسسات التجارية العريقة والبنوك العالمية، وكانت العاصمة السودانية كذلك، قبلة لكثير من الاستثمارات ورؤوس الأموال من مختلف دول العالم.
حتى في قطاع الصحة زار بعض الأشقاء العرب الخرطوم طلبًا للاستشفاء، فثاني عملية زراعة كلى في الشرق الأوسط أجراها البروفيسور عمر بليل لمريض سعودي جاء السودان خصيصًا للعلاج في بداية السبعينيات.
تدنّت مكانة السودان ككل، فاليوم يُحجم زعماء الدول الكبرى وحتى العديد من الأشقاء عن زيارة البلاد، لكن في عهد الرئيسين السابقين عبود ونميري زار الخرطوم غالبية رؤساء الدول الكبرى وزعماء منظومة دول عدم الانحياز حتى ملكة بريطانيا، أما رؤساء السودان فقد كانوا يجدون كل الترحيب في بلدان العالم المختلفة عندما تحط الطائرة الرئاسية التي تحمل شعار الخطوط الجوية السودانية “سودانير” في أصقاع أوروبا وآسيا وإفريقيا وغيرها.
لا يمكن لحامل الجواز السوداني غير دخول 36 دولة فقط دون تأشيرة مسبقة
واليوم أيضًا تبدّل الحال وانقلب 180 درجة كما يقولون، حيث أصبح حلم الهجرة والاغتراب يراود مَن تبقّى من الشباب السوداني، إذ بلغ عدد من هاجر منهم بصورة شرعية خلال الفترة الأخيرة حسب إحصاءات جهاز تنظيم شؤون العاملين بالخارج “حكومي” أكثر من 6 ملايين مواطن، من بينهم عدة آلاف هاجروا إلى “إسرائيل”، فيما قدّر مراقبون عدد من هاجروا بصورة غير شرعية بضعف ما هو معلن من أرقام، وربما يرتبط انحدار مكانة جواز السفر السوداني بهذه الأعداد الهائلة من المغتربين خصوصًا أن الكثير منهم يهاجر بطريقة غير شرعية رغم أنهم من حملة الشهادات العلمية.
أبرز دليل على تدني قيمة الجواز السوداني أنه نال الترتيب السابع ضمن قائمة أسوأ جوازات السفر على مستوى العالم حسب مؤشرPassport Index للعام الحاليّ، وللمفارقة فإن جواز جمهورية جنوب السودان التي انفصلت عن السودان الأم تقدم بـ11 مرتبة عن جواز السفر السوداني الذي يتربع في ذيل القائمة بجوار دول غير مستقرة تشهد حروبًا منذ سنوات مثل سوريا واليمن والعراق.
وتقيس المؤشرات العالمية قوة جواز السفر بعدد الدول التي يتمكن حامله من دخولها دون تأشيرة مسبقة أو بتأشيرة عند الوصول “On arrival“، والآن لا يمكن لحامل الجواز السوداني غير دخول 36 دولة فقط دون تأشيرة مسبقة.
إذا تتبعنا مسيرة الجواز السوداني نجد أنه يسير في انحدار مستمر نحو الهاوية، فقد كان حتى العام 2014 يتفوق قليلًا على جوازات دول الجوار مثل إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، لكنه تعادل معها العام الماضي ثم تفوقت عليه في العام الحاليّ 2017 حسب مؤشر باسبورت إندكس.
مما يؤكد صحة التلاعب في منح الجواز السوداني، التعميم الذي أصدرته السفارة الصينية بالخرطوم والذي اشترطت بموجبه إحضار جواز السفر الأخضر “القديم” لمن يريد أخذ تأشيرة دخول لجمهورية الصين الشعبية من السودانيين
يعتقد كثير من المراقبين أن سهولة الحصول على الجواز السوداني للرعايا الأجانب أحد أسباب تدهور مكانته، وهو سبب مقنع وحقيقي رغم الاشتراطات الصعبة التي تضعها وزارة الداخلية السودانية “نظريًا” لتجنيس الأجنبي، والتي يمكن تجاوزها بسهولة في ظل انتشار ثقافة الفساد والرشاوى التي عمّت الأجهزة الحكومية في السودان على الرغم من النفي المتكرر، حيث أوردت صحيفة الأنباء الكويتية بتاريخ 1 من يونيو/حزيران 2017 أن “السلطات السودانية قالت إنها توقفت عن إصدار شهادات الجنسية السودانية وجوازات السفر إلى السوريين الذين حصلوا عليها من خلال “التحايل المشبوه” على القانون”، وأضافت الصحيفة “وزارة الداخلية الكويتية اطلعت على القرار وطلبت من وكالاتها عدم تعديل وضع أي مواطن سوري يقدم جواز سفر سوداني”.
وحسب الصحيفة فإن “عدد السوريين الذين سعوا إلى اكتساب الجنسية السودانية في الكويت كان 10 أشخاص فقط، لكنه أعلى بكثير في دول الخليج الأخرى”، بالطبع لسنا في حاجة إلى أن نحذر من خطورة منح جواز السفر دون الشروط المتبعة وأحكام القانون لما يشكله من خطر على أمن الدول.
ومما يؤكد صحة التلاعب في منح الجواز السوداني، التعميم الذي أصدرته السفارة الصينية بالخرطوم والذي اشترطت بموجبه إحضار جواز السفر الأخضر “القديم” لمن يريد أخذ تأشيرة دخول لجمهورية الصين الشعبية من السودانيين.
المضحك المبكي أن بعض الناشطين كانوا يتحدثون عن حصول أعداد من مواطني دول الجوار مثل تشاد وإثيوبيا وإريتريا على جواز السفر السوداني، ولكن النتائج الأخيرة أكدت بجلاء أن جوازات دول الجوار المذكورة تقدمت كثيرًا على الجواز السوداني في الترتيب لهذا العام خصوصًا الجواز التشادي الذي يفوق نظيره السوداني بـ27 مرتبة! بل إن كثيرًا من المواطنين السودانيين “مزدوي الجنسية” لم يتمكنوا من دخول بعض الدول الخليجية إلا بواسطة جوازات الدول المجاورة التي حصلوا عليها نسبة للتداخل الأسري والقبائل المشتركة بين السودان وتلك الدول.
السبب الآخر لتدهور مكانة الجواز السوداني في تقديري يعود إلى أن السودان تبوأ مقعدًا متقدمًا ضمن قائمة الدول سيئة السمعة “Notorious countries“، فما إن يذكر اسم السودان إلا ويذكر الفساد والفقر والنزاعات، وأنه البلد الذي يسعى دومًا إلى تلقي المعونات والمنح والهبات رغم الموارد الهائلة التي يتمتع بها والتي تكفي بسهولة لوضعه في قائمة الدول الغنية بكل ارتياح، وما ذلك إلا بسبب الحكومة الحاليّة التي انتهجت سياسات أدت إلى إفقار البلد وتدمير بنيته التحتية ومشروعاته الزراعية الضخمة مثل مشروع الجزيرة الأكبر من نوعه في إفريقيا.
سياسات الحكومة الحالية تسببت في خلق عداوات مع دول الجوار مصر وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا وأدت إلى فرض العقوبات الأمريكية ووضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ تسعينيات القرن الماضي
ومن مساوئ الحكومة السودانية في هذا الصدد، أنها أفرغت وزارة الخارجية والمحطات الخارجية من الكوادر والكفاءات الدبلوماسية التي كان يتميز بها السودان، واستبدلتهم بأصحاب الولاء والمقربين من الحزب الحاكم دون النظر إلى مؤهلاتهم أو سلوكياتهم، مما أدى إلى حدوث العديد من الفضائح التي شوهت صورة الدبلوماسية السودانية والشعب السوداني مثل حادثة تحرش عضو البعثة الدائمة السودانية في الأمم المتحدة بفتاة أمريكية تبلغ من العمر 23 عامًا، وقبلها تحرش دبلوماسي آخر بامرأة في القطار رقم 4 في محطة “غراند سنترال” بنيويورك!
ونسأل هنا سؤالًا شبيهًا بذلك السؤال المحزن الذي طرحه الأديب الراحل الطيب صالح، قبل وفاته بسنوات: من أين أتت قيادة هذه الدبلوماسية التي أفقدت السودان إرثه الدبلوماسيّ المقدّر؟
وسياسات الحكومة الحالية كذلك، لعبت دورًا كبيرًا في تشويه صورة السودان والإنسان السوداني، فقد تبنّت حكومة الإنقاذ “الانقلابية” التي جاءت في يونيو/حزيران 1989 أيدلوجية مثيرة وفريدة من نوعها، تسببت في خلق عداوات مع دول الجوار مصر وإثيوبيا وإريتريا وأوغندا وأدت إلى فرض العقوبات الأمريكية ووضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب منذ تسعينيات القرن الماضي، ذهبت العقوبات بعد عقدين من فرضها وبقيت قائمة الإرهاب تلاحق مواطني السودان حتى الآن خاصة في دول أوروبا وأمريكا.
لا تبدو الحكومة السودانية مهتمة بمواطنيها وتخفيف القيود عليهم، فهي لم تعلق على تدهور مكانة جواز السفر السوداني ولم تقل إنها ستسعى لتحسين صورة السودان وخلق علاقات إيجابية مع دول العالم المختلفة، في حين تتسابق وزارات الخارجية في معظم الدول إلى توقيع اتفاقات مع نظيراتها من أجل إعفاء مواطنيها من تأشيرات الدخول وبالتالي رفع مكانة جواز السفر وتحسين سمعة الدولة، ولم نسمع في القريب بأن الخارجية السودانية وقعّت اتفاقية مع دولة ما للإعفاء المتبادل أو تقديم تسهيلات مثل التأشيرة الإلكترونية على سبيل المثال.
وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور بذل جهودًا جيّدة من أجل رفع العقوبات عن السودان وهو جهد يشكر عليه، لكن ما زال يُنتظر منه الكثير على صعيد تحسين العلاقات مع دول العالم، ولذلك نأمل من إدارات الوزارة وبعثاتها الدبلوماسية مساعدته بالبدء في اتصالات لتطوير العلاقات وإعفاء الجواز السوداني من تأشيرات الدخول أو على الأقل تخفيف شروطها.
المشكلة أن الدبلوماسية لا تكفي وحدها لتجميل صورة البلد ورفع تقييم جواز السفر التابع لها، فهناك العديد من المحددات والمطلوبات التي تساهم في ذلك مثل السياسات العامة للدولة وسجل حقوق الإنسان فيها، بالإضافة إلى المنهج الذي يدار به اقتصاد البلد ومدى قدرته على محاربة الفساد وتحقيق الاستقرار والرفاهية للشعب، وتلك محددات يتدنى فيها السودان كثيرًا في العهد الحاليّ ولا توجد مؤشرات على تغيير محتمل.