بعد ست سنوات كاملة تعمدت فيهم القاهرة التعتيم على نتائج مفاوضات سد النهضة مع أديس أبابا، مكتفية بتصريحات إعلامية وردية في معظمها، تهدف إلى إبعاد الرأي العام عن تفاصيل ما يدار داخل الكواليس، ها هي ولأول مرة تعلن بصورة رسمية وفاة المسار التفاوضي لهذا الملف المعقد.
المتحدث باسم وزارة الموارد المالية والري المصري حسام الإمام، كشف النقاب أخيرًا عن تفاصيل بعض ما دار داخل الغرف المغلقة خلال اجتماعات اللجنة الفنية المعنية بسد النهضة الذي استضافته القاهرة في يومي 11 و12 من نوفمبر الحاليّ، ليؤكد رفض الجانب الإثيوبي التقرير الاستشاري الفني المقدم والإصرار على إكمال مسيرة بناء السد.
الرفض الإثيوبي فسرته الوزارة – وهي المعنية بإدارة الملف – بأنه إعلان رسمي لتعثر عملية التفاوض فيما يتعلق بالجانب الفني، وهو ما دفعها لإحالة القرار إلى مجلس الوزراء للبت فيه والبحث عن بدائل، مما دفع إلى التساؤل عن الأوراق التي تملكها القاهرة للدفاع عن حقوقها المائية في مقابل التعنت الإثيوبي.
مجلس الأمن في الحالات المماثلة يستدعي الأطراف المعنية للتشاور ومن ثم يبحث عن آليات لحل الأزمة من بينها توسيط أطراف أخرى أو الذهاب إلى التحكيم الدولي، إلا أن هذا قد يصطدم باتفاقية إعلان المبادئ 2015
أمر واقع
في بيان أصدره مجلس إدارة الطاقة الكهربائية الإثيوبية، أغسطس الماضي، كشف عن الانتهاء من 60% من أعمال بناء سد النهضة، في الوقت الذي تتواصل فيه المباحثات والجولات المكوكية ما بين القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، مضيفًا أن الأعمال المدنية والميكانيكية الخاصة بتوليد الكهرباء للسد يتم تنفيذها خلال موسم الفيضان الحاليّ دون توقف، على أن يتم إنتاج الكهرباء خلال عامين وفقًا للخطة الموضوعة.
وبحسب مصادر إعلام إثيوبية فإنه بداية من العام المقبل 2018 ستبدأ أديس أبابا في تفعيل المشروعات المرتبطة بانتهاء بناء السد على رأسها توليد الكهرباء، وكما أشارت فإن إثيوبيا وكينيا على وشك الانتهاء من أعمال مد خط نقل 2000 ميجا وات من الكهرباء بين البلدين الذي تنفذه شركة “تشاينا إلكتريك” لتكنولوجيا الطاقة والتكنولوجيا بتكلفة 1.26 مليار دولار بتمويل من مصرف التنمية الإفريقي بقدرة 500 كيلوفولت، وطول 1045 كيلومترًا منها 445 كيلومترًا تقع داخل أراضي إثيوبيا والبقية في كينيا، ومن المقرر أن يبدأ العمل فيها العام القادم.
بالعودة إلى تبرعه المباشر لإنشاء سد النهضة نجد أن مبلغ الـ88 مليون دولار الذي قدمه رجل الأعمال السعودي الإثيوبي ليس رقمًا مؤثرًا على إقامة مشروع ضخم مثل السد
البعض حمّل القاهرة مسؤولية ما وصلت إليه المرحلة المتعثرة الحاليّة من مفاوضات السد، خاصة بعد توقيع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على اتفاقية إعلان المبادئ في مارس 2015 بمشاركة إثيوبيا والسودان وهي الاتفاقية التي أعطت الشرعية القانونية لبناء السد ومن ثم الضوء الأخضر لأديس أبابا للحصول على تمويل البناء من أكثر من دولة كانت تشترط الاتفاق فيما بين الدول أطراف الأزمة للمساهمة في عملية التمويل.
سفير مصر الأسبق في السودان محمد الشاذلي، علق على فشل مباحثات الجولة الأخيرة من المفاوضات بأن “هناك انعدامًا للشفافية من الجانب الإثيوبي في مسألة سد النهضة، ومصر تأخرت كثيرة وعليها الآن احتواء الأضرار”، مؤكدًا أن “مصر سمحت لإثيوبيا بخلق أمر واقع ببناء 60% من سد النهضة”، مطالبًا القاهرة بضرورة “تعديل أسلوبها في التفاوض، وتأخذ موقفًا أكثر تصلبًا، وتشددًا في مفاوضات سد النهضة”.
في أثناء توقيع إعلان المبادئ 2015
هل يتعثر البناء؟
منذ إعلان توقيف رجل الأعمال السعودي الإثيوبي “محمد حسين العمودي”، في إطار حملة الاعتقالات التي شنتها السلطات السعودية ضد عدد من الأمراء ورجال الأعمال، ذهبت بعض الآراء إلى توقف بناء السد عند هذا الحد، خاصة أن العمودي أحد أكبر ممولي السد والداعمين لاستكمال بنائه.
ويُعد العمودي أحد المؤيدين لسد النهضة منذ عهد رئيس الوزراء الراحل مليس زيناوي، ففي سبتمبر 2011، أعلن رسميًا تعهده بدفع 1.5 مليار بِر، نحو (88 مليون دولار) لصالح سد النهضة، وعلّق قائلًا: “السد أُطلق رسميًا في أبريل2011، على النيل الأزرق، وستصل قدرته التوليدية إلى 5250 ميغاواط “تمت زيادتها لاحقًا”، وهي 3 أضعاف إنتاج إثيوبيا من الكهرباء، واصفًا السد بأنه “مشروع بنيوي وطني”.
لكن ما يثار بشأن توقف بناء السد بسبب اعتقال العمودي مسألة تحتاج إلى وقفة بحسب متخصصين، فبالعودة إلى تبرعه المباشر لإنشاء سد النهضة نجد أن مبلغ الـ88 مليون دولار الذي قدمه رجل الأعمال السعودي الإثيوبي ليس رقمًا مؤثرًا على إقامة مشروع ضخم مثل السد، أي أن عبارة “الممول الأكبر لسد النهضة” التي وصفته بها صحف ومواقع عربية لم تكن دقيقة بأي حال من الأحوال، فالرجل ليس سوى مشارك أو مساهم كغيره من المواطنين الإثيوبيين الذين حثتهم الحكومة على الاستثمار في السد والتبرع لصالحه.
البعض حمّل القاهرة مسؤولية ما وصلت إليه المرحلة المتعثرة الحالية من مفاوضات السد، خاصة بعد توقيع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على اتفاقية إعلان المبادئ في مارس 2015
لكن وفي المقابل ستتأثر أعمال البنية التحتية في السد، إذ إنها من الممكن أن تشهد عوائق أخرى جراء توقيفه، كونه يحتكر إنتاج الأسمنت في إثيوبيا عبر شركات المقاولات التي يعمل بعضها في سد النهضة، لذا قد ترتبك مشروعات البنية التحتية رغم إعلان السلطات السعودية استمرار أنشطة شركات المتهمين وعدم شمولها في إجراءات تجميد الحسابات الشخصية.
“نون بوست” في تقرير له كشف النقاب عن بعض السيناريوهات التي من الممكن أن تلجأ إليها الرياض فيما يتعلق بالتعامل مع استثمارات العمودي في إثيوبيا، حيث ذهب إلى إمكانية توجيه السلطات السعودية باستمرار عمل شركاته كما كانت، أو ربما تستغلها من أجل الضغط على أديس أبابا سياسيًا لإجبارها على اتخاذ مواقف مغايرة لحيادها من الأزمة الخليجية ورفضها الانضمام لمعسكر حصار قطر، ورغم أن هذا الاحتمال بعيد لكنه يظل قائمًا.
شكوك بشأن تأثر بناء السد باعتقال العمودي
17 جولة والمحصلة صفر
خلال ما يزيد على ست سنوات تقريبًا منذ 2011 وحتى كتابة هذه السطور دخلت القاهرة ما يقرب من 17 جولة مفاوضات مع الجانب الإثيوبي، لم تسفر جميعها عن أي تقدم ملحوظ في مسار الملف الأكثر تعقيدًا في الوقت الراهن، لما يترتب عليه من كوارث تهدد بالقضاء على ما يزيد على 50% من مساحة الأراضي الزراعية فضلاً عن إدخال مصر مرحلة العطش الحقيقي بحسب خبراء.
البداية كانت عقب ثورة يناير 2011 حين اتفق الدكتور عصام شرف أول رئيس وزراء بعد الثورة، مع نظيره الإثيوبي – آنذاك – ميلس زيناوي، على تشكيل لجنة دولية تدرس آثار بناء السد الإثيوبي بعدما شرعت في إطلاق إشارة البدء في إنشائه.
وفي مايو 2012 تشكلت لجنة من 10 خبراء مصريين وإثيوبيين وسودانيين و4 خبراء دوليين محايدين، وكانت مهمتها فحص ومراجعة الدراسات الإثيوبية الهندسية ومدى مراعاتها للمواصفات العالمية وتأثير السد على دولتي المصب السودان ومصر، لتنتهي بعد عام تقريبًا وبالتحديد في مايو 2013 من عملها وخلصت بعدما رأت بدء بناء السد إلى عدة توصيات مهمة وعاجلة للغاية بإجراء دراسات هندسية ومائية وبيئية.
في أغسطس 2014 اتفق وزيرا الري المصري والإثيوبي على تشكيل “لجنة وطنية” من 12 مفاوضًا من الدولتين بجانب السودان، لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية المشكلة في 2012 من خلال مكتب استشاري عالمي، ليقع الاختيار في أكتوبر من نفس العام على المكتبين الاستشاريين الهولندي “دلتا رس” والمكتب الفرنسي “بي آر إل”، لعمل الدراسات المطلوبة للسد.
تراجع الدبلوماسية المصرية إفريقيًا خلال السنوات الأخيرة يخشى على المصريين دفع ثمنه الفترة القادمة في ظل التعنت الإثيوبي الواضح والإصرار على إكمال بناء السد، وهو ما يضع مستقبل مصر المائي على المحك
في 23 من مارس 2015 وقع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا هايلى ديسالين، في الخرطوم ما سمي بوثيقة “إعلان مبادئ سد النهضة” والتي أعطت الشرعية القانونية لبناء السد وهو ما كانت تطمح إليه أديس أبابا وقتها، وفي ديسمبر 2015 جدد وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا التأكيد على إعلان المبادئ الموقع من رؤساء الدول الثلاثة في مارس من نفس العام عبر وثيقة أطلق عليها “وثيقة الخرطوم”.
وفي مايو 2016 يستيقظ المصريون على تصريح صادم أعلن عنه وزير الإعلام والاتصالات الإثيوبي غيتاشو رضا خلال حوار له مع صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، كشف من خلاله أن حكومة بلاده توشك على إكمال 70% من بناء السد.
وبعد عام تقريبًا وفي مايو 2017 وقع خلاف بين الدول الثلاثة (مصر – إثيوبيا – السودان) بشأن التقرير الاستهلالي لمكتب الاستشاري الفرنسي عن دراسات سد النهضة، لتبدأ مرحلة جديدة من التفاوض تنتهي في 15 من أكتوبر 2017 بموافقة القاهرة على ما ورد في التقرير.
وفي 19 من أكتوبر الماضي يزور وزير الري المصري موقع سد النهضة ليخرج بعدها بتصريح يؤكد من خلاله أن تلك الزيارة “أظهرت الحاجة إلى تحرك عاجل من أجل إنهاء المناقشات” وذلك قبل أن يسدل الستار على المسار التفاوضي لهذا الملف خلال الاجتماع الأخير الذي عقد يومي 11 و12 من نوفمبر الحاليّ.
زيارة وزير الري المصري لموقع السد أكتوبر 2017
أوراق القاهرة
تخلي القاهرة عن سياسة تخدير الرأي العام والغموض الذي كان يحيط بملف سد النهضة والبدء في الإفصاح عن بعض ما يدار داخل الكواليس يجسد صعوبة الموقف الذي باتت فيه مصر وخطورة الوضع الراهن في ظل تعنت الطرف الإثيوبي في إكمال بناء السد دون أي اعتبارات أخرى.
ضعف البدائل وقلة الخيارات تضع القاهرة في موقف حرج جدًا، ومن ثم طفت دعوات تدويل القضية على السطح بعد ست سنوات تقريبًا من الصمت التام، حيث كشف بعض الخبراء عن عدد من البدائل التي يجب أن تتعاطى معها السلطات المصرية خلال الفترة القادمة منها التوجه إلى مجلس الأمن أو طلب وساطة دول كبرى حيال الإجراءات الإثيوبية المهددة والمنذرة بصراعات في منطقة حوض النيل، بحسب وصف البعض.
آخرون يرون أن مجلس الأمن في الحالات المماثلة يستدعى الأطراف المعنية للتشاور ومن ثم يبحث عن آليات لحل الأزمة من بينها توسيط أطراف أخرى أو الذهاب إلى التحكيم الدولي، إلا أن هذا قد يصطدم باتفاقية إعلان المبادئ التي وقعها قادة الدول الثلاثة في مارس 2015، ورغم ربط مصر اعترافها بسد النهضة بالتزام إثيوبيا بالمبادئ والبنود العشرة الواردة بالاتفاقية من بينها: حسن النوايا والالتزام بمبادئ القانون الدولي، فإن هذا سيضعف الملف المصري حال تدويل القضية.
من زاوية أخرى فإن المواثيق الدولية التي تضع المبادئ العامة بشأن إدارة الأنهار، تنص على أنّه ينبغي تقاسم المياه بطريقة منصفة، ويجب ألا تتسبب مشاريع بلد ما حول أي نهر بـ”إلحاق ضرر جسيم” بآخر، إلا أنها في الوقت ذاته تترك للبلدان الواقعة على طول النهر حرية وضع التفاصيل، وقد ألزم اتفاق عام 2015 مصر بحل الخلافات في إطار المفاوضات، وفي حين أنّه يمكن لمصر السعي إلى الوساطة الخارجية، فلا بد على جميع الأطراف الموافقة على هذه الوساطة، وهو نفس السبب الذي يضعف من الخيار العسكري والذي لوح به البعض أكثر من مرة قبل ذلك.
تراجع الدبلوماسية المصرية إفريقيًا خلال السنوات الأخيرة يخشى على المصريين دفع ثمنه الفترة القادمة في ظل التعنت الإثيوبي الواضح والإصرار على إكمال بناء السد، وهو ما يضع مستقبل مصر المائي على المحك، وعلى افتراض نجحت القاهرة في فتح قنوات اتصال وضغط على أديس أبابا للتقليل من المخاطر الناجمة عن دخول سد النهضة حيز التشغيل الحقيقي سيظل العطش وخسارة الأراضي الزراعية شبحًا يطارد المصريين حتى إشعار آخر.