تعدّ عاطفة الطفل وصحته النفسية أساسًا لما سيكون عليه في السنوات العمرية اللاحقة، أي في مراهقته وبلوغه. وقد يغيب عن بال الكثيرين أنّ كلّ ما يحدث في الطفولة يمكن أنْ ينعكس على الفرد بطريقة أو بأخرى لاحقًا، سواء وعي هو بذلك أم لم يعِ، فالكثير من المشكلات النفسية أو الأزمات العاطفية ترجع لتجربةٍ سابقة أو موقف غابر. ولذلك ليس من الصعب القول بأنّ الوالدين يُعدّان الأساس لما سينتج عنه طفلهم، تفكيره ومشاعره وانفعالاته وتفاعلاته مع العالم المحيط، وهما المرجع الأول لصحته النفسية والعاطفية.
ليس من الصعب أبدًا تقييم الصحة النفسية والعاطفية للطفل، إذ يعتمد ذلك على مجموعة من العوامل الداخلية أو الخارجية التي يمكن لأيّ أبٍ أو أم ملاحظتها، بما في ذلك طريقة نومه وأحلامه وأكله وتفاعله معهما ومع الآخرين والأشياء من حوله، والانفعالات التي يصدرها بناءً على المواقف المختلفة.
التواصل الجيد: اللبنة الأولى لتقدير الذات والثقة بالنفس
يبدأ الأطفال بشكلٍ أساسيّ بمعرفة من هم وما هي هويّاتهم وكيف يعرّفون احتياجاتهم ومشاعرهم وقيمهم عن طريق التواصل والتفاعل مع والديهم. لذلك فإنّ التواصل مع الأطفال يعدّ أمرًا بالغ الأهمية لتشكيل هويّتهم وتحديد مدى تقديرهم بذواتهم واحترامهم لأنفسهم. وتمتاز عملية التواصل الصحية بين الأبويْن والطفل بعدة سماتٍ مثل حرية التعبير عن المشاعر والأفكار والتصورات، ودعم ذلك التعبير ووضع القواعد المنطقية في أسلوب التنشئة والتربية.
ينبغي على الوالديْن إظهار احترامهما للطفل، يعني أن تستمع ولما يقوله وما يشعر أو يفكّر به أو ما يفعله وتأخذه على محمل الجد، حتى وإن كنتَ لا تتفق مع ما يقوله، فتفهّمك له وإظهار احترامك يجعله يكوّن صورة جيدة عن ذاته ويرفع من مقدار تقديره لها. وعلى العكس تمامًا فإن النقد أو السخرية أو عدم إعطاء الانتباه الكافي تؤثر في كثير من الأحيان بشكلٍ سلبيّ على احترام الذات وتقديرها عند الطفل، لدرجة تدميرها ببطء كلّما تكرر الأمر، ما ينتج طفلًا يفتقد الثقة بذاتها ويرى نفسه بصورة سيئة.
مشاعر طفلك لا تحتاج منك أن تزنها بعقلانيتك أو منطقيتك، وليس مطلوبًا منك إصلاحها أو تغيير مسارها أبدًا، كلّ ما عليك فعله هو مراقبتها لئلا تتطوّر إلى انفعالات سلبية مثل الضرب والعنف وما يتبعه من تصرفات
كما تنعكس معاملتك لطفلك باحترامٍ تامّ وإعطائه الجدية اللازمة على تعامله هو مع الآخرين، سواء في مرحلة الطفولة المبكرة أو المراحل العمرية اللاحقة، فيتعلّم منك كيف يحترم الآخرين بأفكارهم ومشاعرهم وعواطفهم المختلفة، كما يكون قادرًا على تقبّل اختلافهم عنه واختلافه عنهم.
يميل الكثير من الآباء، سواء بحسن نية أو سوئها، إلى قمع مشاعر أطفالهم ومنعهم من التعبير عنها، كأن يمنعوهم من التعبير عن الغضب أو الحزن أو الشكوى أو الصراخ، إلا أنّ الأمر يقود لاحقًا لمشاكل نفسية كبيرة إحداها هي غياب قدرة الطفل، حتى عندما يكبر، عن التعبير عن نفسه، فتتكون لديه فكرة داخلية أنّ أي تعبير عن الذات سيتم تلقيها بالقمع والرفض.
مشاعر طفلك لا تحتاج منك أن تزنها بعقلانيتك أو منطقيتك، وليس مطلوبًا منك إصلاحها أو تغيير مسارها أبدًا، كلّ ما عليك فعله هو مراقبتها لئلا تتطوّر إلى انفعالات سلبية مثل الضرب والعنف وما يتبعه من تصرفات. فعلى سبيل المثال، أنْ تسمح لطفلك بالغضب من أخته والتعبير عن ذلك يُعدّ أمرًا إيجابيًّا، لكن ينبغي عليك في هذه الحالة مراقبة تبعيات ذلك الشعور، ومنع أيّ تصرف سلبي قد يصدر عنه كأن يضرب أخته أو يحاول ذلك.
كيف تؤدّب طفلك وتعاقبه؟
قد يجد الآباء أنفسهم أمام سؤال صعب أثناء تربيتهم حيال الطريقة التي ينبغي عليهم اتباعها في عقابهم لأطفالهم وتعنيفهم على أخطائهم وسوء تصرفاتهم، فكثيرًا ما يتساؤلون عن الحد المسموح للعقاب وجدواه وهل هناك أساليب أكثر نجاعة والكثير من الأسئلة من هذا القبيل. ومما لا شكّ فيه فيرتبط موضوع العقاب بالصحة النفسية والعاطفية للطفل، وينعكس عليه طوال حياته.
يستخدم علم النفس مصطلح “التهذيب Discipline” للإشارة إلى عملية تعليم الطفل وتوعيته حول السلوكيات المقبولة وغير المقبولة. وبتعريفٍ آخر، هو العملية التي يتمّ من خلالها تعليم الطفل كيفية الالتزام بالقواعد، وتتضمن هذه العملية العديد من الأساليب المختلفة مثل التعزيز الإيجابي والقدوة والتقليد والعقاب الذي يستلزم اتباعه في كثيرٍ من الأحيان، أي أنه ليس الطريقة الوحيدة للتهذيب، وإنما قد يكون من وقتٍ لآخر آخر الحلول التي يلجأ إليها الوالدين.
تقع المسؤولية الأولى للتهذيب على عائق الوالدين، لكنها تسير جنبًا إلى جنب مع المدرسة والبيئة والمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل، ووفقًا للجمعية الأمريكية للصحة النفسية، فهناك ثلاثة أنواع أو أنماط لطريقة تربية الطفل التي يتبعها الأبوين؛ أكثرها فعالية هي التربية الموثوقة، أي أنْ يكون الوالدان مرنين في التعامل مع الطفل، يسمحان له بحل مشكلاته واتخاذ قراراته والتعامل مع التحديات السلوكية بنفسه.
ما تختاره من أساليب التربية يعتمد نوع السلوك الذي يقوم به طفلك، ومزاجه، والمرحلة العمرية، ومراعاة العديد من الظروف المحيطة. وبكلماتٍ أخرى، قد لا تستطيع اتّباع الأسلوب ذاته كافة الأوقات
في “التربية الاستبدادية” يكون الأبوان أو أحدهما صارمًا وحازمًا في كلّ ما يتعلق بطفله، فتكثر فيه عبارات من قبيل “لأنني أمك” أو “لأنك صغير” أو “لأنني أريد ذلك”، ونادرًا ما يتم السماح للطفل باتخاذ قراراته أو التفكير بحلّ مشكلاته، كما يمتاز هذا النوع بإظهار القليل من العاطفة الإيجابية والمودة للطفل. أما النمط الأقل فعالية في أساليب التربية الثلاثة فهو “التربية المتساهلة” حيث يظهر الوالدان الكثير من العاطفة والمودة لأطفالهم لكنهم في الوقت نفسه يوفرون قليلًا من الانضباط أو حتى لا يعبئون به، فيسمحون لأطفالهم بالتصرف كما يشاؤون دون مساءلة أو مراقبة.
ما تختاره من أساليب التربية يعتمد نوع السلوك الذي يقوم به طفلك، ومزاجه، والمرحلة العمرية، ومراعاة العديد من الظروف المحيطة. وبكلماتٍ أخرى، قد لا تستطيع اتّباع الأسلوب ذاته كافة الأوقات وإنما يعتمد الأمر على العديد من العوامل المختلفة ويختلف من فردٍ لآخر، إلا أن هذا لا يمنع من أنّ ثمة قواعد أساسية في التربية الصحيحة يجب على الوالدين الإحاطة بها.
فالاعتراف بالسلوك الجيد هو أفضل طريقة لتشجيع طفلك على مواصلة ذلك السلوك وتكراره، كما يُعدّ فهمك لمبدأ العواقب الطبيعية عاملًا أساسيًّا في التربية الصحية، أي أنّ الكثير من الأخطاء التي يقوم بها الطفل تنبع من باب الفضول الطبيعي والتجربة التي يعتمد عليها كلّ طفلٍ لاستكشاف الأشياء والحياة من حوله، وبالتالي فإنّ وقوعه في تلك الأخطاء يعد أمرًا طبيعيًّا لا مفرّ منه، وهنا يأتي دور الأبوين في طريقة التعامل مع تلك الأخطاء. هل ستستغلها لتعلّمه درسًا مهمًّا أم لتلقي عليه محاضرة في اللوم والانتقاد والسخرية التي قد تؤدي لتدمير الذات وثقة النفس عنده؟
تقنيات التهذيب والانضباط غير الفيزيائية تعمل بشكلٍ فعال أكثر مما يعمل عليه العقاب الجسدي، لما له من عواقب سلبية كأن يجعل الأطفال أكثر عدوانية وعنفًا، فيصبح العنف وسيلةً ليتعاملوا بها
يمكن للوالدين استغلال تلك الأخطاء من خلال وصف العواقب التي ستترتب على السلوكيات غير المقبولة أو التحذير منها بطريقة عقلانية بعيدًا عن العنف والكلام السلبي. وتعدّ هذه القاعدة ناجحة في الحدّ من الأخطاء قبل وقوعها، كأنْ تقول لطفلك أنّك ستأخذ ألعابه منه لمدة يومين في حال لم يُرجعها لمكانها بعد الانتهاء من اللعب، أو تخبره أنه في حال لم ينهِ واجباته المدرسية فإنه لن يشاهد التلفاز، فأنت بذلك تكون قد سحبت امتيازًا من طفلة نتيجة لتصرف غير مرغوب.
يعمل ذلك الأسلوب أكثر ما يكون في حال كان العقاب ذي صلةٍ مباشرة بالسلوك، أو في حال كان الطفل يُعطي قيمة كبيرة له مثل ألعابه أو وقت مشاهدته للتلفاز أو خروجه في نزهة مثلًا. كما يلعب الوقت دورًا مهمًّا في ذلك، خاصة لدى الأطفال صغار السن، فإذا تأجل العقاب عن وقت القيام بالسلوك، قلت قيمته.
ووفقًا للعديد من الأبحاث والدراسات، فإنّ تقنيات التهذيب والانضباط غير الفيزيائية تعمل بشكلٍ فعال أكثر مما يعمل عليه العقاب الجسدي، لما له من عواقب سلبية كأن يجعل الأطفال أكثر عدوانية وعنفًا، فيصبح العنف وسيلةً ليتعاملوا بها. كما لا يُظهر الضرب أو العقاب الجسدي نتائج إيجابية في معظم الحالات، وإنما قد يجعل الطفل يصرّ على أخطائه ويكررها.