يزدهر حديث المصالحات السياسية في تونس هذه الأيام وتتخلل الأحاديث جمل كثيرة تجعل المتلقي يشعر أن السياسيين قد أكلوا حبوب الأخوة فأفاقوا أنصاف ملائكة، مع جرعات زائدة من حب الوطن والتغني بفضائل الشعب ومباهج الديمقراطية.
لكن بعد النجاة من التأثيرات المباشرة لخطاب الأخوة الفجائي يعنّ سؤال، بل أسئلة: هل المصالحات السياسية التي يود الجميع السعي فيها تتجه إلى التصالح مع الشعب (عموم الناس) أم هي في عمقها وفي نواياها الخفية توافقات سياسية للمرحلة القادمة يتم فيها وضع ترتيبات لمواصلة الاعتداء على الديمقراطية باسم السلم الأهلي وإنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي؟
سننظر من هذه الزاوية لخطاب النخبة التونسية المستعاد وأفعالها في كل أزمة والتي صنعت الأزمات دومًا وكانت سبب الوضع البائس الذي تعيشه تونس الآن.
شعور قوي بوجود أزمة
يتقاسم الجميع في مقدمات الرسائل السياسية الحديث عن أزمة عميقة يمر بها البلد، أزمة اقتصادية واجتماعية ناتجة عن حالة انسداد سياسي فاقمه انقلاب 25 يوليو/تموز، وفيه تنويعات يطول ضبطها في مقال، غير أن الجميع يتفق (بعد الخراب) على دور الانقلاب في مفاقمة الأزمة، ومن هنا نكتشف فخاخ الخطاب السائد، وهذه ليست مجرد نقطة خلافية عارضة بل هي عقدة المشهد برمته.
بعض المتحدثين عن مصالحات سياسية لم يُقِروا بعد أن الانقلاب كان جريمة في حق الديمقراطية وأنهم كانوا جزءًا من هذه الجريمة، وهم إذ يعيدون اكتشاف الأزمة ينكرون دورهم فيها ويريدون القفز فوقها نحو أفق يصيرون فيه فاعلين مركزيين يقودون البلد، متنصلين من دورهم في الاعتداء على الديمقراطية.
من هنا نبدأ في اكتشاف فخاخ خطاب المصالحات وإعلانات التوبة، فهناك اتجاه إلى التنصل من الجريمة ثم الذهاب إلى مستقبل دون اعتذار أو محاسبة أو على الأقل حتى اعتراف بالخطأ وبناء خطاب مسؤول يعلن التوقف عن الغدر بالديمقراطية، خطاب وممارسة تذكر بهروب اللصوص من مكان الجريمة دون الاعتراف بها.
مصالحات مغشوشة
في معارك الضرائر السياسية تقف أطراف تصف نفسها بالتقدمية وتحتكر لنفسها صفة الديمقراطية، منتظرة أن يأتيها حزب النهضة الإسلامي يتمسح بأعتابها ويطلب منها الصفح لأنه متورط في تخريب البلد وهو سبب أزماتها، وفوق الاعتذار عليه أن يتوقف عن المشاركة في المشهد السياسي القادم.
في المقابل يقف حزب النهضة ومن معه ينتظر أن يأتي هذا الصف الديمقراطي معترفًا بأنه اعتدى على حزب النهضة بمساندته الانقلاب وسعيه إلى إقصاء الحزب وحرمانه من حقوق منحه إياها الناخب التونسي.
التراسل الجاري بخطابات المصالحة يغطي هذه المواقف الثابتة والحدية بين فرقاء لا شيء يجمعهم في الواقع سوى أنهم محكومون بالعيش في جغرافيا واحدة، بما يفقد الحديث كل مصداقية ويكشف أن الحل السياسي لأزمات تونس ليس بيد هؤلاء.
ينطلق جميع الفرقاء من تقدير خاطئ لموقعهم وإمكاناتهم، أن الانقلاب قد أضر بهم ويغفلون عامدين أنه انقلاب على الديمقراطية بالدرجة الأولى وليس على أحزابهم أو أشخاصهم، وأن المتضرر الأكبر منه هو الشعب الذي فقد الأمل في تحول سلمي من حالة الحكم المطلق لزين العابدين بن علي ونظام الشخص الواحد إلى حالة الديمقراطية، لذلك يظنون أنهم إذا توصلوا إلى صيغ تعايش سياسي فيما بينهم فإن حال البلد ينصلح.
نعرف أن الفُرقة السياسة والتناحر الاستئصالي قد أدى إلى الانقلاب وأن روح الاستئصال هي من مكنت للانقلاب ومنحته حياة ونرى أن هذه الروح لا تزال فاشية رغم خطاب المصالحات الزائف، وهو ما يسمح لنا بالقول إن النخبة السياسية التونسية لم تتعلم من فشلها ولا ترغب في التعلم ولا الخروج فعلًا من أزماتها الحزبية، لذلك نراها عاجزة عن إخراج البلد من أزمته. هذه النخب فشلت في الامتحان الديمقراطي ولا تريد الإقرار بفشلها، بل تغطيه بخطابات مصالحة مزيفة وتوبة غير نصوح لتستمر في غيها.
من أين نستورد نخبة لا تفشل؟
لا توجد سوق عالمية للنخب لنستورد واحدة، لذلك فالمجتمع الذي لا ينتج ثقافة ديمقراطية لا يمكنه إنتاج نخبة ديمقراطية، وهو حال تونس وحال بلدان عربية كثيرة. ففي تونس ومنذ الثورة نحن نعيد قراءة أفعال النخب فنجد أنها لم تعمل على إسقاط نظام بن علي بل تواطأت معه ضد البلد ثم تحركت شوارع مستقلة، فأسقطت رأس النظام وقدمت الحرية للنخب ولم تطلب منها ثمنًا إلا بناء الديمقراطية وترسيخ الحريات.
لكن النخب الكسلى استغلت الهدية أسوأ استغلال فخربت الحريات وعبثت بالديمقراطية دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الناس الذين دفعوا الثمن من لحم أولادهم، حتى استغل المنقلب الوضع الكارثي ومرق منه نحو حكم مطلق وفاشل، ورغم هذا الفشل الظاهر فإن النخب لا تزال تقاول على الحرية، مانحة الانقلاب وقتًا أطول للعبث.
لذلك فإن المتابع لا يمكنه أن يسوِّق لتفاؤل مزيف يقوده هؤلاء بنفس العقلية الاستئصالية المتواكلة التي تنتظر مرة أخرى أن تصل الأزمة إلى قاع أعمق فتثور (الجماهير) وتقدم لها الحريات مرة أخرى على طبق.
إننا لا ننتظر في الأيام القادمة أن تفيء إلى رشدها وتعدل بوصلتها على استعادة الديمقراطية، فالخطوة الأولى لن تأتي منها، ولن تأتي من الناس (الجماهير) الذين رغم معاناتهم في الطوابير لا يزالون يميلون في استطلاعات تعرف النخبة نتائجها إلى الانقلاب ويسلمون له.
نتحدث عن الناس المعذبين في الأرض ويتحدثون عن جماهير في خيالهم، فالناس بقليل من علم النفس السياسي شامتون في النخبة ويفضلون الوضع الكارثي الراهن على وضع خبروه، وهذا سر نتائج الاستطلاعات التي لا تعطيهم أي فرصة للعودة.
إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ الوضع في تونس مثل الوضع في مصر لا يسمح بتوقع سليم، لذلك سنرجح أن أي تغيير قادم في هذه البلدان لن يأتي من الداخل، وما دام المحيط الدولي غير متضرر من الديكتاتوريات فسيستمر الوضع على ما هو عليه، ونختم أن اندثار هذه النخب خطوة ضرورية للمرور إلى ما بعدها، فقد تحولت إلى سبب للأزمة ولم تعد وسيلة للحل.