استهدفت طائرات الاحتلال، الإثنين 1 أبريل/نيسان 2024 فريقًا أجنبيًا تابعًا لمنظمة “ورلد سنترال كيتشن” (المطبخ المركزي العالمي) المعنية بتقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة، في أثناء عودته بعد تفريغ كميات من المساعدات في مخازن منطقة دير البلح وسط القطاع لتوزيعها على الأهالي في إفطار رمضان.
وأسفر هذا القصف الذي استهدف سيارتين مصفحتين وعربة أخرى تابعة للفريق، عن مقتل 7 من أعضائه، من بينهم جنسيات بريطانية وبولندية وأسترالية بجانب فلسطيني، رغم ارتدائهم ملابس ودروع تحمل شعار المطبخ المركزي العالمي، هذا بخلاف التنسيق مع جيش الاحتلال فيما يتعلق بتحرك الفريق وخط سيره.
ليست هذه المرة الأولى التي يستهدف فيها جيش الاحتلال فرق وسيارات تقوم بمهام إغاثية وتقديم المساعدات للفلسطينيين في القطاع، إذ سبق وقصف أكثر من مرة، منذ بداية الحرب، شاحنات محملة بالمساعدات، بخلاف استهداف العديد من عناصر الإغاثة في القطاع، لكن هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها الطائرات الإسرائيلية فريقًا إغاثيًا أجنبيًا.
وكان يُنظر لمؤسسة “المطبخ المركزي العالمي” (منظمة خيرية مدنية غير ربحية وغير حكومية مقرها الولايات المتحدة الأمريكية) كونها البديل الجاهز لوكالة الأونروا بعد إخراجها عن العمل في القطاع عقب تجفيف منابع التمويل بزعم تورط بعض أعضائها في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليثير استهدافها الكثير من الجدل بشأن دوافع الاحتلال من تلك العملية.
الاحتلال يرتكب مجزرة جديدة بحق فريق أجنبي متطوع كان يوزع الطعام على أهل #غزة.
📌استهدف الاحتلال مساء اليوم بغارة سيارة تابعة لمنظمة دولية على طريق البحر غرب دير البلح وسط القطاع ما أسفر عن مقتل خمسة منهم.
📌الفريق جاء بشك تطوعي ضمن منظمة الطبخ المركزي لطهي الطعام وتوزيعه على… pic.twitter.com/WTToK62AMX
— نون بوست (@NoonPost) April 1, 2024
المؤسسة ليست الهدف
لم تكن المؤسسة الإغاثية الدولية هي المستهدف من وراء هذا القصف، لكن الخدمات التي تقدمها والدور الذي تلعبه لإغاثة سكان غزة وتخفيفها من حدة حرب التجويع التي يشنها الاحتلال ضد المستضعفين المدنيين الغزيين هي الهدف الأبرز لتلك الجرائم الوحشية.
فالاحتلال الذي يتفنن في إبادة سكان القطاع بزعم ملاحقة عناصر المقاومة، يضع كل من يقدم يد العون لسكان غزة، مؤسسات كانت أم أفرادًا، أهدافًا مشروعة لطائراته ومدافعه ومدرعاته، بصرف النظر عن جنسياتهم وخلفياتهم السياسية.
#عاجل | المطبخ المركزي العالمي: تعرضنا للقصف أثناء مغادرتنا مستودعا بدير البلح رغم تنسيق التحرك مع الجيش الإسرائيلي، والهجوم ليس على منظمتنا فحسب بل على المنظمات الإنسانية#حرب_غزة pic.twitter.com/rWKL8qey3x
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 2, 2024
فالهدف الرئيسي يتمثل في تجفيف منابع الإغاثة والمساعدات المقدمة للقطاع عبر ترهيب العاملين بها أيًا كانت هويتهم، واستخدام الجوع كسلاح لكسر إرادة الفلسطينيين والضغط على المقاومة، وهو ما أكده الرئيس التنفيذي للمنظمة، إيرين غور، حين قال “هذا ليس هجومًا على منظمتنا فحسب، بل هو هجوم على المنظمات الإنسانية يظهر استخدام إسرائيل الغذاء سلاح حرب” حسبما نقل البيان الصادر عن المؤسسة تعليقًا على تلك الجريمة.
ويحمل هذا الاستهداف الذي يتوقع أن يكون له تداعيات قاسية على الوضع الإنساني داخل القطاع، رسالة تهديد وتخويف لكل المنظمات والمؤسسات العاملة داخل فلسطين في مجال الإغاثة، فلسطينية كانت أو أجنبية، ويدفعها نحو إعادة النظر ألف مرة في نشاطها ومهامها الإنسانية، حفاظًا على حياة فرقها، وهو ما تريده حكومة الاحتلال التي تخطط للسيطرة على منظومة المساعدات المقدمة لسكان غزة.
تعزيز مخطط الإبادة والتهجير
تتفق جريمة “المطبخ العالمي” مع العشرات من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال على مدار الأيام الماضية التي عرفت إعلاميًا بـ”مجازر الطحين”، ومن قبلها منع عمل الوكالة الإغاثية الوحيدة في فلسطين “الأونروا”، على هدف واحد يتمحور حول منع إيصال المساعدات الإغاثية إلى سكان قطاع غزة.
ويعزز هذا الهدف – كما يخطط الاحتلال – مؤامرة التهجير القسري والطوعي للغزيين، وتفريغ معظم مناطق القطاع تمهيدًا لتدجينه جغرافيًا وإداريًا وسياسيًا، وإخضاعه للهيمنة الإسرائيلية بعد سنوات من التغريد خارج السرب وتحويله إلى كابوس يؤرق مضاجع “إسرائيل” وأحلام التوسع والسيطرة الكاملة.
المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني نبال فرسخ للعربي: ما حدث مع العاملين في منظمة المطبخ المركزي العالمي في #غزة يندرج ضمن سياسة الاستهدافات الإسرائيلية للعاملين في المجال الإنساني @FarsakhNebal pic.twitter.com/5Y1Pb13bSy
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) April 2, 2024
وكان تشبث الفلسطينيين بأراضيهم وبيوتهم رغم تعرضها للقصف والتدمير، والإصرار على العودة لها بعد انتهاء الحرب أو خلال إبرام اتفاق هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار، أحد المعوقات التي تعرقل تحقيق الاحتلال لأهدافه في تفريغ القطاع من سكانه، لذا كانت حرب الإبادة عبر سلاحي القصف والتجويع، التي توهم الاحتلال أنها ستكون الأداة التي تحقق أهدافه المزعومة.
ويرى الكيان المحتل أن تقديم المساعدات ولو على مراحل متباعدة وفي حدودها الدنيا، يُجهض سلاح التجويع الذي يستخدمه لتركيع سكان القطاع، ومن ثم إضعاف المقاومة عبر تجريدها من حاضنتها الشعبية، وعليه جاء الاستهداف الممنهج لكل محاولات الإغاثة وعناصرها.
تخبط وارتباك
تعكس جريمة استهداف المؤسسة الإغاثية الدولية بشكل كبير فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه من تلك الحرب ميدانيًا، وعجزه عن تركيع المقاومة بشكل يمنحه الانتصار المأمول، فاضطر إلى اللجوء للحلقة الأضعف في المعادلة، وهي المدنيين والعزل، حيث مارس عليهم استئساد التجويع والقصف وترهيب كل من يفكر في مد يد العون لهم.
فبعد 6 أشهر كاملة من الحرب الشعواء التي شنتها قوات الاحتلال لم يتحقق أي انتصار ملموس سوى على المدنيين من النساء والأطفال، مزيد من أرقام الضحايا واتساع رقعة التدمير، فيما ظلت الأهداف الـ3 المعلنة سابقًا (القضاء على حماس – تحرير الأسرى – ضمان ألا يشكل القطاع مصدر تهديد لإسرائيل) قيد التجميد، وهو الفشل الذي وضع حكومة الاحتلال في مرمى الانتقادات والاتهامات والتظاهرات الغاضبة ليل نهار.
استهداف " #المطبخ_المركزي_العالمي " .. سيـاسية صهيــــ..ونية لتعميـق أزمة الجوع في #غزة pic.twitter.com/5mz9r2xDRe
— EL BILAD – البلاد (@El_Bilade) April 2, 2024
وهناك من يرى أن استهداف مؤسسة دولية وإيقاع عناصرها الأجانب قتلى مسألة تكشف عشوائية الاستخبارات الإسرائيلية وترسخ حالة الارتباك التي تعاني منه، أكثر من رسائل الترهيب التي تحاول إيصالها لبقية المنظمات الإغاثية، وهو الارتباك الذي اُفتضح أكثر من مرة حين استهدف الاحتلال الكثير من عناصره مرات عديدة عن طريق “النيران الصديقة”، فضلًا عن قتله بالخطأ بعض من أسراه المحتجزين لدى المقاومة.
ونجحت المقاومة من خلال نضالها البطولي وأدائها القتالي المُبهر، مُعززة بصمود أهل غزة، في إرباك حسابات الاحتلال الذي بات يتصرف بعشوائية واضحة في تحركاته العسكرية، وتخبط ملحوظ في إستراتيجياته وتكتيكاته، الأمر الذي انعكس على الشارع الإسرائيلي الذي بدأ يومًا تلو الآخر يفقد الثقة في إدارة حكومة نتنياهو لتلك الحرب ويطالبها بالاستقالة وإجراء انتخابات مبكرة.
ماذا عن الأونروا؟
منذ إخراج وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عن العمل في القطاع في فبراير/شباط الماضي، عقب تعليق 18 دولة (الولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا والنمسا والسويد ونيوزيلاند وأيسلندا ورومانيا وإستونيا والسويد) تمويلها للوكالة رضوخًا للمزاعم الإسرائيلية بشأن مشاركة 12 من موظفي الوكالة في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أصبح القطاع فارغًا من منظمات الإغاثة ذات الثقل والدور الملموس ميدانيًا.
وأسفر مخطط الإطاحة بالوكالة عبر ورقة التمويل عن زيادة الانتقادات الدولية جراء تلك الخطوة التي تهدد حياة أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في غزة، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة و”إسرائيل” معًا للبحث عن بديل لتقديم المساعدات هربًا من حدة الانتقادات.
وتوقع البعض أن تكون مؤسسة “المطبخ المركزي العالمي” التي يقع مقرها في الولايات المتحدة، هي البديل القادر على تعويض الأونروا، وبالفعل قدمت المنظمة أوراق اعتمادها رسميًا حين أرسلت بالتعاون مع جمعية “أوبن آرمز” (الأذرع المفتوحة) الإسبانية، شحنات من المساعدات الإنسانية إلى غزة، عبر سفينتين أبحرتا من قبرص في 12 و30 مارس/آذار الحاليّ.
مسؤول أممي: أي جهد لتوزيع المساعدات في غزة بدون الأونروا محكوم عليه بالفشلhttps://t.co/sjIHE4HPrU pic.twitter.com/w3E18d9OPR
— الأمم المتحدة (@UNarabic) April 1, 2024
غير أن استهداف فريق عملها في القطاع وإيقاع 7 منهم رغم التنسيق مع جيش الاحتلال ورفع علامة المنظمة، كان رسالة قاسية شديدة اللهجة، دفعها لتعليق عملها في القطاع مؤقتًا، كما جاء في البيان الذي نشرته على موقعها الرسمي، ليعود القطاع إنسانيًا إلى نقطة الصفر مرة أخرى، حيث لا مؤسسات ولا منظمات إغاثية تعمل على إنقاذ عشرات الآلاف من الجوعى.
ويرى البعض أن توقف عمل “المطبخ المركزي” حتى وإن كان مؤقتًا ربما يمنح “الأونروا”، ذات التاريخ والحضور والتأثير الكبير فلسطينيًا، قبلة الحياة للعودة مرة أخرى للعمل داخل غزة، خاصة بعد تراجع بعض الدول عن قرار تعليق تمويلها للوكالة، منها أستراليا وكندا وفنلندا والسويد، وآخرهم اليابان.
المثير للجدل أن ردود الفعل إزاء استهداف فريق عمل المؤسسة الإغاثية الدولية لم يرتق بعد لمستوى الجريمة وتداعياته، حيث جاءت معظم الردود – عدا أستراليا التي استدعت سفير الاحتلال لديها – باهتة، مكتفية بعبارات الشجب والتأكيد على ضرورة حماية المدنيين دون أي تحرك ينتصر للإنسانية قبل أن ينتصر لأرواح الفريق التي أزهقت بسبب إنسانيتهم وإغاثتهم للمحاصرين.
من الواضح أن الاحتلال سيسعى جاهدًا خلال المرحلة المقبلة لإحكام السيطرة على منافذ الإغاثة والمساعدات المقدمة للقطاع، إما عن طريق تولي مؤسسات خاضعة له وللحليف الأمريكي لتلك المسؤولية، أو عبر ممارسة الترهيب والضغط على المؤسسات العاملة بالفعل، سواء كانت الأونروا أم غيرها، للرضوخ لإملاءات وشروط الكيان فيما يتعلق بتجفيف منابع الدعم والمساعدات الخاصة بالمقاومة وعناصرها والموالين لها والمتعاطفين معها، ليحاول نتنياهو وجنرالاته تعويض فشله عسكريًا في ميدان المواجهة بتلك الحروب القذرة التي يضغط فيها عبر ورقة المدنيين وتجويعهم وهو النهج الذي ليس ببعيد عن نازية الاحتلال وفاشيته.