أثار الهجوم الذي شنته الطائرات الإسرائيلية على المبنى القنصلي ودار إقامة السفير الإيراني في دمشق، مساء الإثنين، أحد أبرز التحولات المهمة في إستراتيجية الردع الإسرائيلي حيال إيران في سوريا، إذ أسفر هذا الهجوم عن اغتيال قائد الوحدة 2000، والمسؤول عن العمليات العسكرية لفيلق القدس في سوريا العميد محمد رضا زاهدي، رفقة 8 جنرالات في الحرس الثوري، ما أثار تساؤلات عديدة عن طبيعة الأهداف الإسرائيلية، ومستوى الصراع الذي تطمح إليه مع إيران.
يعد هذا الهجوم ثاني أكبر هجوم إسرائيلي على أهداف إيرانية في سوريا منذ مطلع العام الحاليّ، بعد الهجوم الذي شنته في حي المزة، والذي نجحت من خلاله في اغتيال مستشار الحرس الثوري رضي الموسوي، كما يعتبر هجوم الأمس ثاني أكبر هجوم لهدف إيراني عالي المستوى تستهدفه “إسرائيل” بعد اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، فإلى جانب قيادته للوحدة 2000 في فيلق القدس، تولى زاهدي قيادة القوات الجوية والبرية في الحرس الثوري، كما عمل نائبًا لقائد فيلق القدس الذي يقوده إسماعيل قاني.
خلاصة دراسات التي توصلت إليها معاهد الأمن القومي في “إسرائيل”، تدور حول فكرة “الردع الدقيق”، أي الانتقال من استهداف مستودعات السلاح والذخيرة والمواقع العسكرية، إلى استهداف رأس المال البشري الإيراني في سوريا
مما لا شك فيه أن “إسرائيل” وعبر هجومها الأخيرة نجحت في خلق انتقالة إستراتيجية على صعيد العمليات الخارجية، خصوصًا بعد فشل إستراتيجية الردع النووي في عمليات طوفان الأقصى، هذا الفشل شجع إيران على المضي قدمًا في دعم العمليات التي يقوم بها حلفاؤها في العراق وسوريا واليمن، عبر شن مزيد من الهجمات على المصالح الإسرائيلية، سواء في خليج العقبة أم البحر الأحمر، وهو ما دفع “إسرائيل” إلى إعادة تشكيل إستراتيجية المواجهة مع إيران.
إن إنتاج مسار جديد للمواجهة مع إيران، كان حصيلة سلسلة من الدراسات التي توصلت إليها معاهد الأمن القومي في “إسرائيل”، وكانت إحدى أبرز التوصيات التي توصلت إليها هذه الدراسات، أن الجدوى الإستراتيجية تستدعي تجفيف منابع قوة إيران في المساحات التي تشكل تهديدًا للأمن الإسرائيلي، فنجاح “إسرائيل” في تجفيف هذه المنابع، سيؤدي إلى خلق فجوة إستراتيجية في طبيعة الهجمات التي يشنها حلفاؤها.
ومن هنا؛ كانت خلاصة هذه الدراسات تدور حول فكرة “الردع الدقيق”، أي الانتقال من استهداف مستودعات السلاح والذخيرة والمواقع العسكرية، إلى استهداف رأس المال البشري الإيراني في سوريا، عبر استهداف الأدوات التشغيلية للإستراتيجية الإيرانية، والحديث هنا عن مستشاري الحرس الثوري وقادة الوحدات القتالية الفاعلة للحرس الثوري في سوريا.
ورغم أن إيران نجحت بالمقابل في تطوير قابلية استيعاب الخسائر في الساحة السورية، فإن هذه الإستراتيجية حدت من جهة أخرى من فاعلية دورها، خصوصًا في إيجاد بدائل تحمل ذات القيمة العسكرية للشخصيات الحرسية المستهدفة، ولعل هذا ما دفعها إلى نقل أعداد كبيرة من الشخصيات المهمة إلى داخل الأحياء السكنية في دمشق، من أجل إبعادهم عن دائرة الاستهداف الإسرئيلي، ومع ذلك لم تتمكن إيران من تأمين وضعهم، وذلك يتضح من دقة الاستهدافات الإسرائيلية في عمليتي اغتيال الموسوي وزاهدي، فقد كانت استهدافات دقيقة للغاية، ما يؤشر إلى حجم الاختراق الاستخباري الإسرائيلي للداخل السوري.
تدرك “إسرائيل” أن الوضع الإقليمي والدولي الداعم لها في عدوانها على غزة، قد يوفر لها فرصة للإجهاز على مصادر التهديد الإيراني في الداخل السوري، ويمكن القول أيضًا، إن الإصرار الإيراني على التمسك بالاتفاق النووي هو القشة الأخيرة التي قد تنقذها من الدمار الكبير.
وعمومًا، أصبح الوضع الإقليمي والدولي اليوم، مهيأً للحديث عن تحولات ما بعد الحرب على غزة، هذه التحولات تحاول “إسرائيل” الانفراد بتشكيلها، دون السماح لإيران بأن تكون جزءًا منها، ومن ثم فإن محاولة “إسرائيل” ربط الساحة السورية بالساحة الفلسطينية، يأتي أيضًا في سياق إجبار الولايات المتحدة على الانخراط في هذا الهدف الإسرائيلي، دون الانتظار حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث ستتغير قناعات الناخب الأمريكي، الذي سيفكر بالملفات الداخلية وليس والخارجية، وهو ما تحاول حكومة بنيامين نتنياهو تداركه في أسرع وقت.
فلسفة الرد الإيراني
إن السؤال الأبرز الذي يطرح في هذا السياق: لماذا لا ترقى الردود الإيرانية إلى حجم الهجمات الإسرائيلية المتواصلة؟ الإجابة عن هذا التساؤل تتمحور حول فكرة أن إيران عادة ما توازن بين الرد على “إسرائيل” ومدى تأثير هذا على المصالح الإيرانية، وهذه فكرة بدأت تفرض نفسها على العقيدة العسكرية الإيرانية منذ الحرب مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي.
تقوم هذه الفلسفة على قاعدة أن كل الهجمات التي تتعرض لها إيران هي هجمات موجهة للنظام، وليس لإحدى مؤسساته، وتحديدًا الحرس الثوري، ومن ثم فإن إيران تدرك جيدًا أن المستهدف الحقيقي من الهجمات الإسرائيلية في سوريا، هو النظام الإيراني وليس الحرس الثوري، لهذا فهي تنظر لقاعدة الرد من منظور النظام وليس الحرس الثوري، ومن منظور المصلحة الوطنية وليس رد الاعتبار أمام الآخرين.
وفيما يتعلق بفلسفة الرد الإيراني، فقد شكلت الحرب العراقية الإيرانية ركيزة مهمة في العقيدة العسكرية الإيرانية، فهي ما زالت تدعم كل تحركات القوات المسلحة الإيرانية، من حيث الدروس المستفادة والنتائج المترتبة، كما استفادت العقيدة العسكرية الإيرانية من الدروس العسكرية التي ترتبت على الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، أو حرب 2006 بين “إسرائيل” و”حزب الله”، أو الصراع بين الفصائل الفلسطينية و”إسرائيل”، من أجل دعم عقائدهم وإستراتيجياتهم الخاصة، أو حتى الحرب الأخيرة على غزة، وترتكز العقيدة العسكرية الإيرانية على فرضيات الحرب اللامتماثلة، بما في ذلك توظيف الجغرافيا والعمق الإستراتيجي والرغبة العامة في قبول الخسائر، وترجمتها تحت عنوان الجهاد المقدس، وذلك لمواجهة خصوم متفوقين عليها من الناحية التكنولوجية كـ”إسرائيل”، لذلك فإن فكرة الرد بحد ذاتها هي مختلف عليها، نظرًا للتداعيات السلبية التي قد تلحق بالنظام داخليًا وخارجيًا.
كل ما تقدم يشير إلى أن إيران غير مهيأة في الوقت الحاضر للبحث عن ردود عالية الكلفة مع “إسرائيل”، لأسباب داخلية وخارجية، بل إنها قد تبدو متحفظة للغاية
هذا التحدي سيقف عائقًا أمام إيران في المرحلة المقبلة، ورغم محاولة موازنة هذا التحدي عبر التصعيد الإعلامي، فإن ذلك لن يؤدي إلى ردع “إسرائيل”، فقد قال السفير الإيراني في دمشق حسين أكبري: “الهجوم على القنصلية الإيرانية سيؤدي إلى رد حاسم من جانبنا”، إلاّ أن تصريحات سابقة بشأن هجمات من ذات المستوى لم تخلق حالة لردع “إسرائيل”، وهو ما يمكن وصفه بأنه محاولات إيرانية لاستيعاب صدمة الهجوم الإسرائيلي، حتى يتمكن النظام من تحديد أهداف إسرائيلية قليلة الكلفة.
وفي سياق الأهداف قليلة الكلفة يمكن وضع البيان الذي أصدرته كتائب “حزب الله” العراقي عقب اغتيال زاهدي في هذا السياق، إذ أعلنت الكتائب بأنها على استعداد لتجهيز 12 ألف مقاتل من مجاهدي المقاومة الإسلامية في الأردن، بالأسلحة والعتاد والمواد المتفجرة، لفتح جبهة جديدة ضد “إسرائيل”، عبر التنسيق مع حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس، للمضي قدمًا في مشروع المواجهة مع “إسرائيل”.
إن كل ما تقدم يشير إلى أن إيران غير مهيأة في الوقت الحاضر للبحث عن ردود عالية الكلفة مع “إسرائيل”، لأسباب داخلية وخارجية، بل إنها قد تبدو متحفظة للغاية، وما يؤكد ذلك تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني حين قال إن إيران تحتفظ بحقها في اتخاذ إجراءات ردًا على الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها في دمشق، مضيفًا “طهران ستحدد نوع الرد والعقاب بحق المعتدي”.