تمكّنت القوات المسلحة السودانية في الآونة الأخيرة من تحقيق انتصارات كبيرة على قوات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم، خاصة في مدينة أم درمان التي تقع على الضفة الغربية للنيل الأبيض ونهر النيل.
التفوق الذي أحرزه الجيش السوداني في أم درمان، عدّه خبراء عسكريون تحولًا في مسار الحرب، فقد عانت القوات المسلحة السودانية من انتكاسات كبيرة منذ تفجُّر الصراع في 15 أبريل/ نيسان 2023، وكانت استراتيجيتها تقوم فقط على الدفاع عن مقارّها العسكرية، ما تسبّب في فقدانها أجزاء واسعة من البلاد، مثل العاصمة الخرطوم ومعظم ولايات إقليم دارفور (غرب)، بالإضافة إلى ولاية الجزيرة (وسط السودان).
انتصارات توِّجت باستعادة مجمع الإذاعة والتلفزيون
توّجت القوات المسلحة السودانية انتصاراتها في أم درمان باستعادتها السيطرة على مجمع الإذاعة والتلفزيون الحكومي الواقع في منطقة أم درمان القديمة، وكان المجمع تحت سيطرة الدعم السريع منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/ نيسان 2023، كغيره من المواقع الحيوية التي استولت عليه الميليشيا صباح ذاك اليوم الرمضاني، مثل القصر الرئاسي ومطار الخرطوم والمقارّ الحكومية وشركات الاتصال.
حيث تشير تحليلات المراقبين إلى أنّ قائد الدعم السريع، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، كان يهدف إلى الاستيلاء على السلطة، عبر ضربة خاطفة يتم فيها اعتقال أو اغتيال قائد الجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان، وفقًا لما ذكره أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في كلية فليتشر بجامعة تافتس الأمريكية.
سنخصّص هذا التقرير للحديث عن التقدُّم الذي أحرزه الجيش السوداني باستعادته السيطرة على نحو 90% من مدينة أم درمان، وما يتردد عن أنباء حول الدور الذي لعبته قوات خاصة أوكرانية ومسيّرات إيرانية في هذا الانتصار الاستراتيجي.
وحدات أوكرانية خاصة تساعد الجيش السوداني
في فبراير/ شباط الماضي، نشرت صحيفة “كييف بوست” الأوكرانية مقطع فيديو قصيرًا، قالت إنه جاء من مصادر داخل المخابرات العسكرية الأوكرانية المسؤولة عن العمليات السرّية، ويظهر فيه سجين روسي أسير يتمّ استجوابه إلى جانب رجلَين من أصل أفريقي.
بحسب الفيديو، يقول الجندي الروسي إنه من جماعة فاغنر، وجاء إلى السودان قادمًا من جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث يتمركز مقاتلون من الجماعة الروسية، “لإسقاط الحكومة المحلية” بقوة قوامها نحو 100 فرد.
The new “world disorder”
Ukrainian special forces fighting Wagner mercenaries in Sudan.
Ukrainian special forces are reportedly operating in Sudan in support of the country’s army against Russian Wagner mercenaries aligned with the rebel Rapid Support Forces (RSF), according to… pic.twitter.com/3GTwdvbFb9
— Yasmina (@yasminalombaert) February 6, 2024
ظهر مقطع الفيديو الأخير بعد أشهر من التكهُّنات بأن القوات الأوكرانية تعمل في السودان كجزء من حملة تشنّها أوكرانيا لضرب المصالح الروسية، ما أعاد الجدل حول ما إذا كانت القوات الخاصة في الجيش الأوكراني، تنفّذ عمليات ضد مجموعة فاغنر الروسية وقوات الدعم السريع في مناطق سودانية، بما في ذلك العاصمة الخرطوم.
الصحيفة ذاتها نشرت في وقت سابق مقطع فيديو قالت إنه لـ 3 عمليات قصف جوي على 3 عربات في مواقع مختلفة داخل السودان لم يتم تحديدها بالضبط، دمّرت خلالها ما وصفتهم الصحيفة بـ”مرتزقة روس مع شركائهم من الإرهابيين المحليين”.
ونقلت الصحيفة الأوكرانية، عمّا قالت إنها مصادر من القوات الأوكرانية الخاصة، القول إن القضاء على “المرتزقة الروس وشركائهم من الإرهابيين المحليين” تمّ في الغالب علي يد القوات الأوكرانية الخاصة.
مسيّرات إيرانية بعد استعادة العلاقات
في سياق متصل، نقلت وكالة “بلومبيرغ” عن مسؤولين غربيين، قولهم إنّ إيران زوّدت الجيش السوداني بطائرات دون طيار من نوع “مهاجر 6″، مؤهّلة لمهام الرصد ونقل المتفجرات.
وأكدت الوكالة في تقرير لها قبل نحو شهرَين، أن “أقمارًا اصطناعية التقطت صورًا لطائرة دون طيار من نوع “مهاجر 6″ الإيرانية، في قاعدة وادي سيدنا شمالي أم درمان، خاضعة لسيطرة الجيش”.
وقال 3 مسؤولين غربيين، طلبوا حجب هوياتهم، إن “السودان تلقّى شحنات من طائرة “مهاجر 6″، وهي مسيّرة ذات محرك واحد تمّ تصنيعها في إيران، وتحمل ذخائر موجّهة”.
وكان السودان قد قطع علاقته مع طهران عام 2016، للتعبير عن تضامنه مع المملكة العربية السعودية إبّان أزمة دبلوماسية مع طهران، غير أن الخارجية السودانية أعلنت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عزمها استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
ويعتقد أن الطيران المسيَّر الذي استخدمه الجيش السوداني في الأشهر الأخيرة، لعب دورًا كبيرًا في تدمير القدرات العسكرية للدعم السريع، إذ نشرت منصات وحسابات داعمة للجيش على مواقع التواصل الاجتماعي، سلسلة مقاطع فيديو من 6 أجزاء تحت عنوان “حصاد الجنجويد”، تُظهر ضربات عالية الدقة بقذائف موجّهة على أهداف للدعم السريع، معظمها داخل ولاية الخرطوم.
حصاد الجنجويد 6 #السودان#sudan pic.twitter.com/MY3UzHPWPv
— Hilal Nouri (@HelalNori) March 28, 2024
أكمنة ومسيّرات انتحارية
يرى ياسر إبراهيم، وهو محلل استقصائي بارز يتابع تطورات الحرب في السودان، أن حقيقة المشاركة الأوكرانية في دعم الجيش السوداني مصدرها واحد، وهو الجانب الأوكراني، بمعنى أنها رواية من طرف واحد يمكن أن تحمل الكثير من الدعاية.
ويضيف في حديثه لـ”نون بوست”، أنه وبمراجعة المقاطع المنشورة وتقرير صحيفة “لوموند” الفرنسية، فإنه تحقق من الآتي:
– نفّذت القوات الأوكرانية عملية ليلية خاصة ضد فاغنر وقوات الدعم السريع في شمال بحري في منطقة الإزيرقاب.
– نفّذت كمينًا استهدف الدعم السريع على الطريق السريع الرابط بين مدينة بحري ومصفاة الجيلي.
– ظهر في التقرير الفرنسي أيضًا مقطع لمدفع إم-46 عيار 130 مليمترًا، ولم يتبيّن ما إذا كان الأوكرانيون ساعدوا في تدريب عناصر الجيش السوداني في إتقان ضربات المدفعية أم لا.
– في مجال المسيّرات الانتحارية “إف بي في (FPV)”، استفاد الجيش السوداني من خبرات أوكرانيا، حيث إن لديها خبرة ممتازة وبنية تصنيعية جيدة في مجال الطيران الانتحاري المسيَّر.
قال أحمد مهدي، كاتب ومدون في الشؤون العسكرية، لـ”نون بوست” إنّ الدور الذي لعبته القوات الأوكرانية في السودان كان دورًا تجسُّسيًّا واستطلاعيًّا، أكثر من كونه دورًا عسكريًّا عملياتيًّا.
وأوضح أن القوات الاوكرانية أجرت تدريبات ميدانية لأفراد الجيش على أرض المعركة، كما هو متفق عليه في شأن التدريب والتطوير، معبّرًا عن اعتقاده بأن المشاركة الأوكرانية لم تكن سببًا رئيسيًّا في تقدُّم الجيش في محور أم درمان، لكن التدريب ونقل التقنية الحديثة ممثلة في المسيّرات، ساهما في قلب الوضع العسكري لصالح الجيش.
دعم لوجستي
يضيف مهدي، الذي يعرّف نفسه باسم “أبولو” على مواقع التواصل الاجتماعي، أن الطيران المسيَّر الأوكراني ممثلًا في الوحدات الانتحارية (FPV)، أثبت فعاليته ضد المركبات المقاتلة للدعم السريع في معارك أم درمان القديمة.
ولفت إلى أن القوات الأوكرانية كانت توفّر الدعم اللوجستي للقوات المسلحة، عبر المسيّرات والطائرات الاستطلاعية وغيرها من الوسائل الحديثة، في المتابعة والمراقبة العسكرية.
أوكرانيا ردّت الجميل للسودان
سأل “نون بوست” المحلل ياسر إبراهيم كذلك عن دوافع أوكرانيا من إرسال قوات خاصة إلى السودان، فأجاب بقوله: “السودان كان من الدول التي أرسلت أسلحة إلى أوكرانيا، إذ ظهرت تقارير موثّقة عن قذائف هاون سودانية الصنع لدى الجيش الأوكراني، كما أن استعانة الدعم السريع بعناصر فاغنر ربما ساهمت في تحفيز أوكرانيا لإرسال وحدات إلى السودان لدعم الجيش”.
وأضاف: “الرئيس الأوكراني دائمًا ما كان يتحدث عن دول الجنوب ورغبته في توسيع علاقاته معها، وشرح وجهة نظر أوكرانيا في الحرب الدائرة في بلاده، لذلك من غير المستغرب إرسال أوكرانيا وحدات قتالية للخارج”.
غير أن الكاتب والمدون أحمد مهدي “أبولو” يختلف مع إبراهيم في هذه الناحية، فيرى أن “الصواب والمنطقي في إرسال أوكرانيا وحدات قتالية لدعم الجيش السوداني، أنه نتيجة لتفاهمات الجنرال عبد الفتاح البرهان والرئيس الأوكراني فولوديمير زليسينكي، عندما التقيا في مطار شانون الأيرلندي في سبتمبر/ أيلول الماضي، وربما تمّت صفقة لا نعلم عنها شيئًا”.
وردًّا على سؤال لـ”نون بوست” عن المسيّرات الإيرانية التي تحدثت تقارير غربية عن دورها في انتصارات الجيش السوداني، قال إبراهيم إن “دور مسيّرات “مهاجر 6″ الإيرانية غير واضح حتى الآن، بسبب ندرة المقاطع عنها ما عدا مقطعًا لاستهداف مدفع للدعم السريع جنوب الخرطوم، لكن يمكن الاستنتاج أنها تستخدَم للاستطلاع والمراقبة وتنفيذ ضربات نوعية محدودة”.
بينما يرى مهدي أن المسيّرات الأوكرانية الانتحارية تتميّز برخص ثمنها وفعاليتها العالية أمام الأهداف السهلة والبسيطة، مشيرًا إلى أن الجيش السوداني استخدم مؤخرًا “مهاجر 6″ إيرانية الصنع أمام أغلب الأهداف، وأوضح أن الأخيرة تتّصف بساعات طيران أعلى، وأنه لا مجال للمقارنة بين المسيّرات الصغيرة الأوكرانية و”مهاجر 6″، فـ”مهاجر 6” الأفضل في معركة الجيش والميليشيا.
الموقف الروسي لن يتغير
فيما يتعلق بتأثير الدعم الأوكراني على السياسة الخارجية للسودان والموقف الروسي، قال المحلل ياسر إبراهيم إن روسيا تصف فاغنر بالشركة الخاصة وتنكر علاقتها بالدولة الروسية، موضحًا أنها فعلًا في عهد زعيمها الراحل فيكتوروفيتش بريغوجين كانت تتمتّع باستقلالية كبيرة، وعبّر إبراهيم عن اعتقاده بأن العلاقات السودانية الروسية لن تتأثر بالدعم الأوكراني، نظرًا إلى أن روسيا تحاول البحث عن أصدقاء وحلفاء خارج المعسكر الغربي.
يتفق الكاتب أحمد مهدي مع إبراهيم، في أنه لا يرى أن روسيا قد أحسّت بالعداء من صفقة الخرطوم مع كييف، وزاد بأن “روسيا في آخر جلسات مجلس الأمن لم تكن ضد السودان ولم تكن معه أيضًا”، مضيفًا أنّ روسيا تتعامل بحذر، وربما سبب حذرها عدم وجود فائدة استراتيجية لها في الوقت الحالي من معاداة أو مصادقة السودان وجيشه.
ويرجّح خبراء عسكريون أن يواصل الجيش معاركه في أم درمان لاستعادة منطقة أم بدة غربي المدينة وصالحة جنوبها، بهدف قطع خط الإمداد الرئيسي للدعم السريع القادم من دارفور وكردفان.
وفي بحري (شمال الخرطوم) أصبحت منطقة الكدرو ميدانًا لأكمنة الجيش السوداني، إذ يتم استهداف ناقلات الوقود القادمة من مصفاة الجيلي، وقد أوقعت القوات المسلحة خسائر فادحة في صفوف عناصر الدعم السريع التي تستخدم الطريق للدخول إلى الخرطوم، فضلًا عن تضييق الخناق على قواتها الموجودة في المصفاة.
منطقة الكدرو أصبحت بمثابة مقبرة كبيرة لكل الهاربيين من مصفاة الجيلي أو الفازعيين إليها . pic.twitter.com/H9w0w6173Y
— القدرات العسكرية السودانية🇸🇩 (@Sudanesearmy1) March 26, 2024
وتتّجه الأنظار في الوقت الحالي إلى ولاية الجزيرة، الجرح النازف بعد الانسحاب غير المفهوم الذي نفّذه الجيش السوداني في ديسمبر/ كانون الأول، ليترك الولاية بأكملها تحت قبضة الميليشيا التي مارست كالمعتاد أبشع الجرائم ضد سكان الجزيرة، من قتل ونهب واغتصاب وإذلال وطرد تحت تهديد السلاح.
يرجّح أن تقوم القوات المسلحة السودانية بشنّ هجوم كبير خلال الأيام القادمة لاستعادة ولاية الجزيرة بعد تصاعد السخط الشعبي مرتَين، الأولى جرّاء انسحاب الجيش، والمرة الثانية بسبب تأخُّر استعادتها، وينتظر أن يستعين الجيش بالمعلومات الاستخباراتية التي ينتظر أن يقدمها حلفاؤه، إلى جانب الطيران المسيّر الاستطلاعي والمقاتل لاستهداف تجمعات الدعم السريع، كما حدث في أم درمان.