نتيجة غياب الاستقرار والأمن في منطقة الساحل الإفريقي والصحراء، وتواصل الحروب الأهلية هناك وانتشار السلاح، أصبحت هذه المنطقة الإفريقية الاستراتيجية مع مرور الزمن منطقة تسودها الفوضى وتشهد تطور تنظيمات إرهابية متعددة الجنسيات تُمول بواسطة الأعمال الإجرامية والاختطاف وتجارة المخدرات وجميع أنواع التهريب حتى الاتجار بالبشر، رغم الجهود الرامية للسيطرة على الوضع.
عائدات مالية ضخمة
لم تفلح جهود دول المنطقة وبعض الدول الغربية على رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في القضاء على الإرهاب والتهريب والجماعات المشرفة عليه في منطقة الساحل والصحراء، بل زاد وتدعّم نشاطها ليصل إلى بلدان جديدة كانت حدودها إلى وقت قريب منيعة ولا يدخلها الطير الطائر.
كما ابتدعت نشاطات جديدة، وأضحت ظاهرة الاتجار بالبشر تشكل أكبر التحديات التي تواجهها حكومات دول منطقة الساحل والصحراء على حدودها الداخلية والخارجية، لعلاقتها بالإرهاب والجريمة المنظمة، إلى جانب الاتجار بالأسلحة والمخدرات والهجرة السرية، وتدرّ هذه النشاطات غير القانونية التي تقوم بها الجماعات الإرهابية في المنطقة مبالغ مالية معتبرة في منطقة فقيرة لا تملك فيها الدول القدرات والموارد اللازمة لمكافحتها وحماية سكانها من الأخطار التي تشكلها هذه الأخيرة على أمنها واستقرارها وآمالها المشروعة في التنمية والرفاه.
تقدّر مساحة إقليم الساحل الإفريقي بأكثر من 10 ملايين كيلومتر مربع، 64% من هذه المساحة عبارة عن صحراء جرداء والـ30% المتبقية صالحة للزراعة
مؤخرًا ذكرت وزارة الداخلية المغربية على لسان مدير الهجرة ومراقبة الحدود أن التنظيمات التي وصفتها بـ”الإرهابية” في منطقة الساحل والصحراء أصبحت تنشط في مجال تهريب البشر الذي يدر عليها 175 مليون دولار سنويًا، وقال خالد الزروالي في كلمة له الثلاثاء أمام أعمال الدورة الـ35 لمنتدى رؤساء ورئيسات المؤسسات التشريعية بأمريكا الوسطى والكاريبي، التي يحتضنها البرلمان المغربي من 14 إلى 16 نوفمبر: “التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل والصحراء تنشط أيضًا في تهريب السجائر والكوكايين وحجز الرهائن في هذه المنطقة”، وأضاف أن هذه المنطقة أضحت مرتعًا للشبكات الإجرامية التي تتقاطع في أنشطتها مع الشبكات الإرهابية بالمنطقة.
وتقدر مساحة إقليم الساحل الإفريقي بأكثر من 10 ملايين كيلومتر مربع، 64% من هذه المساحة عبارة عن صحراء جرداء والـ30% المتبقية صالحة للزراعة، ويسكن الإقليم نحو 100 مليون إفريقي موزعين على قبائل وأعراق متعددة وبلغات مختلفة أهمها الفرنسية والعربية والأمازيغية والحسانية ولهجات إفريقية محلية كثيرة، كما يعتبر الإقليم أحد أفقر المناطق بالعالم رغم ما يمتلكه من ثروات طبيعية مهمة.
تطور كبير
تعتبر تجارة البشر من أخطر الأنشطة التي تطورت بسرعة في العقد الأول من هذا القرن، حتى أضحت الأكثر ربحًا من بين أنشطة الاتجار في المنطقة التي أصبحت مرتعًا لسماسرة بيع البشر المحليين والدوليين بموارد مالية مهمة ووسائل متطورة جدًا، من آليات النقل المتطور ومعدات الاتصال وأجهزة التواصل الدائم، وسهلت هذه الشبكات على عناصر الجماعات الإرهابية أو الجريمة المنظمة أو الجماعات الانفصالية حصولهم على المال.
وتشير العديد من المعطيات الجيوسياسية إلى أن منطقة الساحل والصحراء بحكم ما تتمتع به من خصوصية تحولت إلى فضاء انكفاء استراتيجي ومنطقة عبور مثالية لمختلف أشكال التجارة المحظورة، بالنظر لصعوبة الرقابة عليها والتحكم فيها من الاتجار بالبشر إلى تجارة السلاح والمخدرات.
تقدر عائدات الاتجار بالبشر بمليارات الدولارات تجنيها التنظيمات الإرهابية والجريمة المنظمة
يشكل الاتجار بالبشر نشاطًا ضخمًا سريًا عابرًا للدول، تقدر قيمته الإجمالية بمليارات الدولارات، ويشمل الرجال والنساء والأطفال الذين يقعون ضحية الخطف والقسر أو الاستدراج لممارسة أشكال مهينة من الأعمال لمصلحة المتاجرين بهم، وهذا يعني بالنسبة للرجال العمل القسري في ظل ظروف غير إنسانية لا تُحترم فيها حقوق العمل، وبالنسبة إلى النساء يعني في العادة خدمة منزلية لا تختلف غالبًا عن الرق والاستغلال الجنسي والعمل في الملاهي الليلية.
وبالنسبة إلى الأطفال يعني استخدامهم القسري كمتسولين أو باعة جائلين أو سائقين للجمال أو يؤدي بهم إلى الاستغلال الجنسي بما فيه النشاطات الإباحية، وهي تبدأ مع بعض الأطفال بداية فاجعة بتجنيدهم في صفوف المقاتلين، أحيانًا في الجيوش النظامية وأحيانًا في الميليشيات التي تقاتل تلك الجيوش.
الأسباب
في هذه المنطقة العازلة بين شمال إفريقيا وجنوبها هناك عوامل عديدة تؤدي إلى الهشاشة وعدم الاستقرار، أهمها أنها مساحة ممتدة لا تكاد تفصل بينها حدود طبيعية تضاريسية، بل هي – في أغلبها – حدود هندسية عشوائية موروثة عن المرحلة الاستعمارية، وشاسعة وصعبة الضبط، إلى جانب ذلك تعرف أغلب دول المنطقة مشكلات داخلية كثيرة، سواء في صورة صراعات وحروب أهلية، أم في صورة نزاعات عرقية تتبنى أحيانًا أطروحات انفصالية، أو في صورة انقلابات وتمردات عسكرية، وهو ما سبب ضررًا كبيرًا للأمن والاستقرار في تلك الدول وكذلك الشعور بالهوية والانتماء للدولة، مما أدى إلى ضعف الاندماج الوطني لصالح المنطقة أو القبيلة أو العرق، وانعكس سلبًا على البنى الاجتماعية والنشاط الاقتصادي.
عرف الاتجار غير المشروع في المخدرات والأسلحة والبشر ازديادًا مطردًا في توازٍ مع تصاعد نشاط جماعات التهريب والجماعات المسلحة بمختلف أنواعها
فضلًا عن ذلك، يعتبر المكان الاستراتيجي للمنطقة أبرز الأسباب التي أدت إلى انتشار الجماعات الإرهابية والأنشطة غير القانونية، فقد كانت منطقة الساحل والصحراء عبر التاريخ منطقة عبور القوافل التجارية في مختلف الاتجاهات، وهو ما استمر في العصر الحديث اعتمادًا على الشبكات الاجتماعية التقليدية والقبائل والأسر الممتدة، واعتمادًا كذلك على الترتيبات غير الرسمية مع أجهزة الأمن والجمارك
ومع الصعوبات الاقتصادية في المنطقة خلال العقدين الأخيرين من القرن الـ20، إضافة إلى الاضطرابات السياسية المتتالية والقصور الواضح لعدد من دول المنطقة في حماية حدودها والقيام بمهامها السيادية، عرف الاتجار غير المشروع في المخدرات والأسلحة والبشر ازديادًا مطردًا في توازٍ مع تصاعد نشاط جماعات التهريب والجماعات المسلحة بمختلف أنواعها، دون أن ننسى دور القوى الإقليمية الغربية على رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في ذلك، فالصراع بين هذه القوى على الموارد الطبيعية من غاز وبترول ومعادن مختلفة، دون مراعاة لسكانها الأصليين وحقهم في ثرواتهم، جعل التمرد سبيلهم مستغلين الانتشار الكبير للأسلحة هناك.
طريق التهريب
تعود بداية نشأة معبر التهريب الدولي في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، مع استغلال العقيد الليبي الراحل معمر القذافي لطرق القوافل التقليدية – التي يسيطر عليها الطوارق والقبائل العربية الأزوادية من جنوب ليبيا وحتى شرق موريتانيا وشمال مالي – لإيصال السلاح والمؤونة والعتاد إلى مقاتلي جبهة البوليساريو.
وخلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات تحول هذا المعبر إلى تهريب السلع الغذائية والبنزين من الجزائر وليبيا، وأصبحت مدن غات والقطرون (في ليبيا) وجانت وتامنراست (في الجزائر) وأغاديس (في النيجر) وتازواتن وكيدال وغاو وتمبكتو ومنكي (في مالي) محطات مزدهرة لتجارة السلع والمواد المهربة من الجارتين الجزائر وليبيا، إلا أن أحداث العشرية السوداء بالجزائر جعلت الجيش الجزائري يُحكم قبضته على ممرات التهريب ومعابره الحدودية، لتصاب تلك التجارة بركود، ويتقلص نشاطها بشكل لافت لنصف عقد من الزمن، لكن سرعان ما دبت الروح في تلك المعابر وازداد النشاط فيها بشكل كثيف منذ عام 2006.
سيطرة الجماعات الإرهابية على ممرات التهريب في المنطقة
وعرف هذا الممر خلال الفترة بين 2006 و2011 عبور ما يقدر بـ 93% من المخدرات القادمة من أمريكا اللاتينية والمتجهة إلى أوروبا، وذلك بعدما غيّر المهربون في بوليفيا وكولومبيا وبيرو وجهتهم من أمريكا الشمالية إلى أوروبا الغربية، بعد الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتبعتها الولايات المتحدة، التي حدَّت كثيرًا من حجم المخدرات وتدفقها إلى أمريكا الشمالية، لا سيما صنف الكوكايين، وكانت دول غينيا بيساو وموريتانيا ومالي والسنغال المحطات الرئيسة الأولى لتهريب هذه المخدرات إلى أوروبا عبر مواني المغرب والجزائر وليبيا.
وفي تلك الفترة أيضًا شهدت المنطقة تغلغل الجماعات الإرهابية هناك، حتى إن بعض التقارير الاستخباراتية أشارت إلى أن المنطقة الممتدة على طول 5 آلاف كيلومتر من شرق وشمال النيجر مرورًا بشرق وشمال مالي، وانتهاءً بشرق وجنوب موريتانيا، أضحت تحت السيطرة المطلقة للتنظيمات الجهادية، لا سيما شمال وشرق كل من النيجر ومالي اللتين تتراخى السلطة المركزية فيهما وتقعان بعيدًا عن العواصم، بل إن أجزاءً كبيرة من هذه الصحراء فعليًا تقع خارج سلطة الدولة.
وبعد سقوط نظام القدافي سنة 2011، عرفت المنطقة ارتفاعًا كبيرًا في أعداد المهاجرين غير الشرعيين المتجهين نحو أوروبا عبر ليبيا، حيث شهدت المنطقة معدلات قياسية لتدفق المهاجرين غير الشرعيين، سيطرت على معظمها التنظيمات الإرهابية في الساحل الإفريقي أو داخل ليبيا، كما تزايدت كميات المخدرات المهربة عبر السواحل الليبية إلى أوروبا، ولم تعد تتوقف على الكوكايين القادم من أمريكا اللاتينية، بل أضيف إليه الهيروين القادم من أفغانستان عبر طريق إيران واليمن والصومال وتنزانيا وكينيا، يتجه جزء منه إلى الأسواق الإفريقية في جنوب إفريقيا ونيجيريا، والجزء الثاني يُهرَّب عبر السودان وتشاد ليصل إلى ليبيا، ليتم لاحقًا تهريبه إلى أوروبا.