لم يكد العهد الجديد في لبنان يُنهي عامه الأول حتى تلقى صدمة سياسية واقتصادية، تمثلت في استقالة غير متوقعة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، مخلفة حالة من عدم اليقين التي ستنعكس على الاقتصاد اللبناني “الهش أصلًا”، لا سيما أن السعودية لوحت بعقوبات اقتصادية، فضلًا عن إمكان التضييق على الآف اللبنانيين العاملين في الخليج.
الحديث عن عقوبات سعودية كان قد سبقه حديث جدي عن عقوبات أمريكية على حزب الله وحلفائه، الأمر الذي يجعل اقتصاد لبنان ومعيشة اللبنانيين بين “فكي كماشة”، ويثير التساؤل عن المقومات الاقتصادية التي يملكها لبنان لمواجهة انعكاسات الفجوة التي أحدثها الفراغ السياسي للحريري.
أزمة الاقتصاد اللبناني.. سيناريو يتكرر اليوم
ليست الأزمات الاقتصادية التي تنتظر لبنان وليدة الأزمة الراهنة، فهذا البلد يواجه العديد من المخاطر المالية أبرزها ما أكده الحريري في وقت سابق، حينما قال: “لولا زيادة الضرائب لكانت الليرة اللبنانية قد تعرضت للانهيار”، مما يشير إلى أزمة خانقة فيما يتعلق بتدبير النفقات العامة وتراجع عائدات البلاد مقابل زيادة المصروفات.
وفي تقرير حديث للبنك الدولي حمل عنوان “لبنان: الآفاق الاقتصادية – تشرين الأول/أكتوبر 2017″، أكد أن اقتصاد لبنان يواجه الكثير من معوقات النمو بسبب الأزمة السورية التي تسببت في أن يستضيف لبنان نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، بتكلفة تراكمية بلغت نحو 18.15 مليار دولار حتى نهاية العام 2015، مما دفع إلى إطالة أمد الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن يقوم بها لبنان.
عقب تولي الحريري رئاسة الوزراء، في ديسمبر/كانون الثاني 2016، بموجب اتفاق أنهى الأزمة وسمح بانتخاب رئيس مؤيد لحزب الله، أدت الانفراجة السياسية أيضًا إلى وضع حد الركود في السياسة الاقتصادية
دفع ذلك كتلة المستقبل، أكبر حزب في البرلمان، يرأسه الحريري، إلى الرغبة في خروج لبنان من المستنقع السوري، في الوقت الذي يرسل فيه حزب الله مليشياته هناك للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، مما تسبب في غياب الرؤية الاقتصادية لجذب الاستثمارات، وحالة من الارتباك السياسي لعدم وجود رئيس في لبنان لأكثر من عامين قبل انتخاب ميشال عون.
وكان صندوق النقد الدولي قد حذر في سبتمبر/أيلول الماضي من خطورة استمرار ارتفاع الديون السيادية للبنان التي تشكل 148% من الناتج المحلي، كما تشير التوقعات إلى أن معدل النمو السنوي سيظل في حدود 2% في الأمد المتوسط، و2.5% في 2018، وذلك بفعل الزيادة المتوقعة للإنفاق العام والخاص التي ستُحفِّز عليها الانتخابات النيابية القادمة المقرر إجراؤها في أيار/مايو المقبل.
وعقب تولي الحريري رئاسة الوزراء، في ديسمبر/كانون الثاني 2016، بموجب اتفاق أنهى الأزمة وسمح بانتخاب رئيس مؤيد لحزب الله، أدت الانفراجة السياسية أيضًا إلى وضع حد للركود في السياسة الاقتصادية، وشهد القطاع التجاري والعقاري انتعاشًا ملحوظًا خلال سنة من تسمية الحريري، كما عاين لبنان حركة سياحية لافتة هذا الصيف مع قدوم أكثر من مليوني مغترب لبناني وسائح عربي وأجنبي.
وكما كان تشكيل حكومة الحريري له تداعيات إيجابية عديدة على الاقتصاد اللبناني منها رفع وتيرة الإصلاح الاقتصادي في البلاد، ترسل استقالة الحريري، هذه الأيام، الإشارات السلبية مجددًا إلى الأوساط الاقتصادية في الفترة المقبلة، فقد باتت المشاريع والخطط الاستثمارية التي تصل قيمتها إلى 21 مليار دولار لتحسين البنية التحتية المتهرئة في البلاد في مهب الريح.
اسم سعد الحريري وشخصيته وعلاقاته الإقليمية والدولية، تشكل عامل ثقة للاقتصاد
وتحتاج الحكومة أيضًا إلى إيجاد إيرادات لخدمة الدين العام الذي وصل إلى أكثر من 75 مليار دولار، أي 140% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تعد من بين أعلى المعدلات في العالم.
وخلال السنوات الخمسة الأخيرة ارتفعت معدلات الفقر في لبنان من 28%، لتقترب حاليًّا من 32%، خاصة مع استمرار الأزمة السورية، وتشير الأرقام والبيانات الرسمية إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل من 11% من إجمالي القوى العاملة في أوقات سابقة إلى نحو 25% في الوقت الحاليّ، وقد ساهم الارتفاع الملموس في أسعار المواد الغذائية والمواد الاستهلاكية والإيجارات، في تفاقم الفقر، فضلاً عن انخفاض الأجور.
ويرى البعض أن اسم سعد الحريري وشخصيته وعلاقاته الإقليمية والدولية، تشكل عامل ثقة للاقتصاد، لذلك فإن تداعيات استقالته تعيد إلى الأذهان ما خلّفته محاولة إقصاء حكومته في نهاية عام 2010، من أجواء قاتمة على الصعد الاقتصادية والمالية والإنمائية والعمرانية.
الخاسر الأكبر.. الاقتصاد أم السياسة؟
ربما لم تتضح معالم الصورة الكاملة بشأن التأثيرات المحتملة لاستقالة الحريري على الاقتصاد المحلي، ففي الوقت الذي بعث فيه مسؤولون لبنانيون برسائل طمأنة عن استقرار الاقتصاد والوضع النقدي في البلاد، حذر خبراء الاقتصاد من تداعيات سلبية لاستقالة الحكومة أولًا، ولغياب الحريري عن المعادلة السياسية، بما يحمل من ثقة محلية ودولية للوضع الاقتصادي والتجاري والعقاري.
لكن ردود الفعل وأصداء استقالة الحريري المفاجئة والتي يمكن أن تهدم ما خطاه لبنان خلال سنوات باتجاه ضخ الاستثمارات، ليست وليدة اللحظة، فقد عانى لبنان لفترة طويلة هزات عنيفة جراء الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، لكن اقتصاده تداعى في ظل صراع ضمني بين القوى الإقليمية ذات الوزن الثقيل والوكلاء المحليين، ذلك الصراع الذي ترك لبنان على هامش تلك المنافسة.
التطورات الأخيرة فاجأت لبنان الذي كان يتطلع إلى السعودية باعتبارها دعامة لاستقراره، فقد توسطت المملكة العربية السعودية في اتفاق الطائف عام 1989 الذي أسهم في إرساء السلام في لبنان بعد 15 عامًا من الحرب الأهلية، لتبدأ المملكة عقودًا من الاستثمار في لبنان، وفتحت أسواقًا للتجارة، وسمحت لأجيال من اللبنانيين بالعمل في اقتصادها القائم على النفط.
أكبر تهديد يواجه لبنان في الوقت الراهن هو العودة إلى حال الشلل السياسي الذي أعاق نمو الاقتصاد منذ عام 2011
لكن ذلك تغير عندما قال الحريري “الحليف للسعودية” في إعلان استقالته من الرياض: “حزب الله استطاع خلال العقود الماضية فرض أمر واقع في لبنان بقوة سلاحه الذي يزعم أنه سلاح مقاومة”، عقب ذلك، ازدادت الأوضاع سوءًا، فالسعودية التي ترفض نفوذ حزب الله المتزايد في سوريا والعراق، قالت إنها لن تقبل الحزب كشريك في أي حكومة لبنانية.
في سياق ذلك، حذرت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية من أن تجدد الفراغ السياسي في لبنان قد يضر بالتصنيف الائتماني للبلاد، مشيرة إلى أن “تأخر تسمية رئيس مجلس وزراء جديد سيؤثر على معدلات النمو خاصة من جهة الاستثمارات الموعودة للنهوض بالبنية التحتية من صناديق وبنوك دولية، رغم ما قد يظهر من استقرار للعملة المحلية الليرة مقابل الدولار نتيجة حجم الاحتياطات الضخمة للبنك المركزي”.
في المقابل، كانت هناك رسائل لا تبعث بالطمأنينة، فقد أمرت السعودية والبحرين والكويت والإمارات مواطنيها بمغادرة لبنان الأسبوع الماضي، لتدفع اللبنانيين إلى التساؤل والخوف مما سيأتي، ويبقى القلق الآن أن تعمد المملكة ودول الخليج الأخرى إلى ترحيل اللبنانيين العاملين فيها من شيعة ومسيحيين مؤيدين لقوى سياسية متحالفة مع حزب الله، ويقدر أعدادهم بما بين 10 و20 ألف شخص، كما فعلوا مع قطر هذا الصيف إثر حالة الغضب العارم تجاه ما وصف بأنه تقارب بين قطر وإيران.
لكن أكبر تهديد يواجه لبنان في الوقت الراهن هو العودة إلى حال الشلل السياسي الذي أعاق نمو الاقتصاد منذ عام 2011، لذلك، يأمل اللبنانيون أن تكون السعودية حذرة جدًا تجاه التأثير السلبي على اقتصادها جراء عملية الطرد الجماعي هذه، إذ إن نحو 220 ألف لبناني يعملون في المملكة العربية السعودية يرسلون قرابة ملياري دولار من التحويلات سنويًا، كما سيقوض الطرد عقودًا من الجهود السعودية الرامية إلى تعزيز العلاقات مع السنة اللبنانيين.
ما بعد استقالة الحريري.. الاقتصاد يترنح
مع اتهام السعودية لبيروت بإعلان الحرب عليها في تصعيد حاد، توالت التداعيات السلبية على الاقتصاد المحلي، فقد تراجعت السندات اللبنانية الدولارية المستحقة في 2022 بواقع 1.95 سنت إلى 93.5 سنت للدولار مسجلة أدنى مستوى لها منذ يوليو/تموز 2013، وفقًا لبيانات تومسون رويترز، بينما قفزت تكلفة التأمين على ديون لبنان إلى أعلى مستوى منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، لتصل إلى 550 نقطة بحسب بيانات “آي.إتش.إس ماركت”.
وألقت استقالة الحريري المفاجئة بظلالها على المشهد الاقتصادي، حيث شهدت البنوك اللبنانية حركة مالية غير عادية، منها تحويلات من الليرة إلى الدولار بين الحسابات اللبنانية، وتحويلات كبيرة أخرى إلى الخارج، وهو ما يهدد بخفض التصنيف الائتماني في لبنان في ظل الغموض السياسي الذي يعرفه في نظر الخبراء.
ورغم تأكيدات المسؤولين اللبنانيين بالاستقرار النقدي، جاءت الدلالة المهمة في تصريح لرئيس كتلة “اللقاء الديمقراطي” النائب وليد جنبلاط، قال فيه: “لبنان أكثر من صغير وضعيف ليحتمل الأعباء السياسية والاقتصادية لهذه الاستقالة”، وأشار إلى أن “لبنان أضعف من أن يتحمل استقالة الحريري”.
ويبدو أن أهل الاقتصاد ورجال الأعمال في لبنان يتهيبون تبعات استقالة رئيس الحكومة أكثر من السياسيين، إذ ربط وزير الدولة لشؤون التخطيط ميشال فرعون بين وجود الحريري على رأس الحكومة والانتعاش الاقتصادي وتدفق المستثمرين إلى لبنان، لافتًا في تصريح له، إلى أن الاستقالة “بددت كل الأجواء الإيجابية، ومحاولة وضع لبنان على خريطة الاستثمارات”.
من المرجح أن يدفع الوضع السياسي المرتبك حاليًا في لبنان المستثمرين الأجانب إلى تبني مواقف حذرة من الاستثمار في البلاد
وتوقع تقرير صادر عن “مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة”، ومقره أبوظبي، تزايد الضغوط المالية التي سيتعرض لها لبنان بعد استقالة الحريري، بما سيؤثر سلبًا على استقرار الوضع النقدي والمصرفي في لبنان، وبالتالي ضعف آفاق الاقتصاد اللبناني في الأمد المتوسط.
وبحسب التقرير، لن يكون بمقدور الدولة اللبنانية أيضًا إبرام أي اتفاقات جديدة في مجال النفط مع الشركات الأجنبية إلى حين تشكيل حكومة جديدة، وهو ما يزيد من احتمالات عودة قطاع النفط إلى حالته في العام 2013 حينما أطلقت أول جولة لتراخيص التنقيب عن النفط في السواحل اللبنانية وتأهلت 46 شركة للمشاركة في تقديم العروض، قبل أن يتم إلغاؤها لاحقًا.
وأكد التقرير أن من المرجح أن يدفع الوضع السياسي المرتبك حاليًّا في لبنان المستثمرين الأجانب إلى تبني مواقف حذرة من الاستثمار في البلاد، بالإضافة إلى تراجع تدفقات السياح إلى لبنان في الفترة المقبلة، وتبقى قوة التداعيات مرهونة بالفترة الزمنية التي يستغرقها تشكيل حكومة لاستكمال الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة السابقة.
أي مستقبل ينتظر لبنان؟
بعد أن كان التفاؤل النغمة السائدة عند مناقشة مستقبل الاقتصاد اللبناني، تراجعت نغمة التفاؤل لتحل مكانها نغمة الترقب الحذر، فإعلان الاستقالة أتى في ظل صراع إقليمي محتدم بين السعودية وإيران، وفي ظل أنباء عن تقييد الرياض لحركة الحريري، وتهديد المملكة الخليجية بأنها ستعامل الحكومة اللبنانية كحكومة إعلان حرب بسبب مشاركة حزب الله فيها، وهو الحزب الذي تتهمه بالضلوع في عمليات إطلاق صواريخ من اليمن على أراضيها والمشاركة في “أعمال إرهابية” ضدها.
وأثارت التطورات الأخيرة مخاوف بشأن انعكاس التوترات السياسية على مستقبل العلاقات الاقتصادية بين لبنان من جهة ودول الخليج وأبرزها السعودية التي يعمل فيها نحو 220 ألف لبناني يرسلون سنويًا إلى بلادهم قرابة الملياري دولار، وفق تصريح المستشار الاقتصادي في وزارة المالية اللبنانية منير راشد للوكالة.
ويشير تقرير لوكالة “أسوشييتد برس” إلى أن لبنان يعاني منذ فترة طويلة من تبعات المنافسة بين السعودية وإيران، في الوقت الذي ينمو فيه اقتصاده بصورة متقطعة وفق اتفاق ضمني بين القوى الإقليمية وحلفائها المحليين على ترك لبنان بعيدًا عن الصراع في المنطقة.
وأفاد تقرير لوكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني بأن استقالة الحريري عرّضت التقدمات السياسية التي حققها لبنان في السنوات الماضية للخطر، مما قد يجدد الضغوط على الاقتصاد والنظام المالي، لكن “فيتش” لم تخفض تصنيف لبنان من “B-Stable“، وهو تصنيف يعكس على أي حال ضعف التمويل العام ومخاطر سياسية وأمنية مرتفعة وأداءً اقتصاديًا ضعيفًا.
تأتي هذه الصعوبات في ظل وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان، أي ما يعادل ربع سكانه، وهو ما أدى إلى الضغط على مستوى الأجور في قطاعي الخدمة والأعمال
وأقرت البلاد ميزانيتها الاولى منذ عام 2005، لترفع الضرائب والرواتب العامة وتفتح منطقتين للنفط والغاز قبالة سواحلها للتنقيب في محاولة لجذب بعض الاستثمارات التي هي في أمس الحاجة إليها، ورغم ذلك قد يغلب الجمود على عمل مجلس الوزراء في الفترة القادمة بسبب الظروف الراهنة، حسب ما صرح به رئيس دائرة الأبحاث الاقتصادية والمالية في بنك بيبلوس نسيب غبريل.
ويتطلب من الحكومة أيضًا البحث عن مصادر دخل لتقليص الدين العام الذي تجاوز الـ75 مليار دولار، أي 140% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة من أعلى مستويات الدين نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، ويدعمه نظامه المصرفي.
وتأتي هذه الصعوبات في ظل وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان، أي ما يعادل ربع سكانه، وهو ما أدى إلى الضغط على مستوى الأجور في قطاعي الخدمة والأعمال.
لكن الخبراء الاقتصاديين يعتقدون باستقرار الوضع الاقتصادي في ظل الظروف الراهنة، إذ يمتلك المصرف المركزي احتياطيًا من العملات الأجنبية يقدر بنحو 43.5 مليار دولار، وهو ما يكفي للحفاظ على استقرار الاقتصاد لمدة تتراوح بين 10 و20 عامًا، لكن هل سيصمد الاحتياطي هذه المدة؟