لا يمل المسؤولون الحكوميون العراقيون من طرق مسامِعنا مرارًا وتكرارًا ومنذ بداية الاحتلال حتى الآن – النغمة النشاز القديمة المتجددة التي تكاد تصم أذاننا – بالمناداة لإعمار العراق، وكأن الذين جاءوا ليحكموا العراق منذ 2003 لم يكن لهم عمل سوى هدم مدن العراق وبناها التحتية، ومن ثم التباكي عليها والمناداة لتعميرها من أموال المحسنين، في عملية استجداء كبيرة يستحي فعلها كل من له شيء من المروءة وعزة النفس، في بلدٍ يمتلك من الموارد البشرية والطبيعية ما يجعله موضع حسد الجميع.
وفي كل مرة تنادي الحكومة العراقية في الآفاق أن هلُمّوا إلينا يا محسنين لإعمار العراق، تكون لها أغراض أخرى عديدة من تلك العملية، ليس من بينها إعمار العراق فعلًا، ذلك ما رأيناه في الأشهر الأولى من بعد الاحتلال عندما أُرصد لإعادة إعمار العراق مليارات الدولارات، جاءت من الدول التي أيدت الغزو مثل اليابان وبريطانيا وإسبانيا ناهيك عن الولايات المتحدة.
إلا أن تلك الأموال لم تصل لا لإعمار العراق ولا للمواطن العراقي، إنما الذي حصل أن تلك الأموال نهبت أولًا من الجيش الأمريكي نفسه، وثانيًا من وكلاء الاحتلال الذين كانوا قائمين على حكم العراق.
وعلى ما يبدو أن من يمسكون بمقاليد الحكم في العراق، راقت لهم العملية هذه، فهم في كل مرة ينادون بالدول لإعمار العراق مستجدين دعمًا ماليًا منهم، وتجد تلك الأموال طريقها إلى جيوب المسؤولين في تلك الحكومة، رغم أن العائدات التي دخلت للبلد من تصدير النفط الخام في الفترة التي حكموا فيها العراق، بلغت أرقامًا فلكية يمكن إعمار العراق بها دون الحاجة للمساعدة من أحد.
ففي أحد تصريحاته قال عادل عبد المهدي وزير النفط السابق: “موازنات العراق منذ عام 2003 وحتى نهاية عام 2014 بلغت 850 مليار دولار”، لكن الفساد الذي كان يبسط نفوذه، لم يدع مجالًا لأن يستفيد العراق والعراقيين من تلك العوائد الضخمة، والعهد الذي حكم فيه نوري المالكي، كان مثالًا واضحًا على ذلك الفساد في تبديد تلك الأموال.
نقل ملف إعادة إعمار المدن المحررة إلى الدول المانحة سيكون فيه تأخير كبير، تهدف من خلاله حكومة بغداد إلى جعل المواطنين العرب السنَّة في حالة يأس من الرجوع الى أراضيهم، وهو هدف تسعى له بقوة، لكيلا يشكلوا تجمعًا سكانيًا كبيرًا وثقلًا ديمغرافيًا يؤثر على نتائج الانتخابات القادمة
وفي تلك الفترة لم تقدم الحكومات العراقية إنجازًا للعراق يمكن ذكره، سوى الاستمرار في عملية تهديم البلد فوق رؤوس أهله وغرز الطائفية بينهم، حتى غدت كثير من المدن العراقية أطلالًا من حجم الدمار الذي لحقها، لا سيما المدن التي يقطنها العرب السنَّة، هذا المكون الذي يُمثل لهم العدو الأول وفق عقائدهم الطائفية.
تحويل ملف إعادة إعمار المدن السنيَّة إلى الدول المانحة
تتعمَّد الحكومة الطائفية في بغداد إلحاق أكبر الضرر والتدمير في الحواضر السنية وتأخير إعادة إعمارها لأطول فترة ممكنة، وذلك من خلال نقل ملف إعادة إعمارها إلى الدول المانحة، لأنها تعرف تمامًا أن ما تجود به تلك الدول سيكون غير كافٍ لإعمارها بسبب حجم الدمار الكبير الذي لحق بها، وتخوف الدول المانحة من تسليم الحكومة العراقية أموالًا كبيرة، لأنها تعرف تمامًا أن تلك الأموال لن تذهب إلى عمليات الإعمار، إنما إلى جيوب الفاسدين فيها، وقد جربوا ذلك مرارًا من قبل.
إن نقل ملف إعادة إعمار المدن المحررة إلى الدول المانحة سيكون فيه تأخير كبير، تهدف من خلاله حكومة بغداد إلى جعل المواطنين العرب السنَّة في حالة يأس من الرجوع إلى أراضيهم، وهو هدف تسعى له بقوة، لكيلا يشكلوا تجمعًا سكانيًا كبيرًا وثقلًا ديمغرافيًا يؤثر على نتائج الانتخابات القادمة، أو يشكل عائقًا أمام الخطط التي تهدف الإدارة الإيرانية انتهاجها في العراق.
فحكومة بغداد حاولت تدمير المدن السنية بحجة الحرب على داعش، والآن تماطل في إعادة إعمارها، وتهدف من ذلك الحيلولة دون عودة قريبة لأهالي تلك المدن إليها، ليس قبل إتمام انتخابات 2018 على الأقل التي تسعى الأحزاب الشيعة لإحراز الأغلبية فيها على حساب السنَّة.
وستجعل المشاركة الضئيلة المتوقعة من السنَّة في تلك الانتخابات بسبب ظروف النزوح واللجوء، إظهار السنة بمظهر الأقلية غير المؤثرة، والذي يتلاءم تمامًا مع الترويج الإعلامي لتلك الأحزاب من أن العرب السنَّة ما هم إلا أقلية في العراق، والدليل على ذلك ضآلة حجم أصواتهم الانتخابية، الأمر الذي جعل سليم الجبوري يركض سريعًا للولايات المتحدة عسى أن تساعده في تأجيل الانتخابات لكيلا يخسر السياسيون السنَّة ناخبيهم في الانتخابات القادمة.
ونسي الجبوري أن من يتولى الأمر بالعراق سوف يبقون السنَّة بعيدًا عن ديارهم ويبقونهم في مخيمات النزوح، طالما لا توجد انتخابات، ومساعيه في تأجيلها ما هي إلا جهود تصب في إطالة معاناتهم ومنع رجوعهم لأراضيهم، وكان الأولى له أن يستعمل حظوته عند الأمريكان (إن كانت لديه حظوة) في سبيل الإسراع بتعمير مدنهم وإرجاعهم إليها.
تحاول إيران والولايات المتحدة تشجيع العراق للاقتراض من البنك الدولي بحجة إعادة إعمار المناطق المحررة
ما حجم الأضرار التي لحقت بالمدن المحررة من داعش؟
وإذا ما رجعنا إلى تقديرات الخبراء الاقتصاديين، فإن حجم الدمار في المحافظات والمناطق المحررة كبير جدًا، للدرجة التي يحتاج العراق لإعمارها إلى ما لا يقل عن 10 سنوات، وبكلفة تتجاوز قيمتها 100 بليون دولار، وإذا ما علمنا أن تأمين مثل هذا المبلغ يكاد يكون مستحيلًا في الظروف الراهنة، فهذا يعني أن الخطط الإيرانية قد آتت أُكلها، والمكون العربي السني قد تلقى ضربة ليس من السهل تجاوزها، وحتى لو توفرت الإرادة لإعمار مدنهم بمساعدة من دول العالم، فإن زمن إعمارها سيأخذ وقتًا طويل يكفي لوكلاء طهران في العراق، من استكمال خططها بقضم العراق بأكمله.
والمدن التي احتلها تنظيم داعش وقامت الحكومة ومليشياتها بتحريرها من قبضته عبر تدميرها تمامًا، قد أدت إلى نزوح أربعة ملايين شخص إلى باقي محافظات العراق، لا سيما محافظات كردستان، الأمر الذي رفع معدلات الفقر بينهم من 20 إلى 41%، ومضاعفة معدلات البطالة من 11 إلى أكثر 21% خلال نفس الفترة، وفق أحدث التقديرات الإحصائية.
سياسة التوريط مع البنك الدولي
وفي محاولة لتوريط الاقتصاد العراقي بقروض لصالح البنك الدولي، تحاول إيران والولايات المتحدة تشجيع العراق للاقتراض من هذا البنك بحجة إعادة إعمار المناطق المحررة، مما سيجعل العراق مكبلًا بديون ذات فوائد سيستمر بدفع مستحقاتها حتى الأجيال القادمة، لكنها بنفس الوقت تقوم بحملة تضليل للرأي العام العراقي من خلال تصريحات جوفاء يقوم بها المحسوبون على تلك الحكومة، حينما يصرح رئيس ما يسمى “صندق إعمار المناطق المتضررة من الإرهاب” مصطفى الهيتي: “قروض البنك الدولي هذه طويلة الأجل وتسدد بمدة زمنية طويلة، والمهم فيها أنها ليست قروضًا استهلاكية تقدم لوزارات استهلاكية وتنتهي دون فائدة، وإنما هي قروض لبناء مشاريع ومؤسسات اقتصادية وجلب تكنولوجيا للعراق بحيث تؤمن مستقبل اقتصادي كبير للبلد على المدى البعيد”، وكأنه يخاطب ناس من المريخ وليس من خبروا حجم الفساد المستشري في هذه الدولة.
الحكومة العراقية غير مستأمنة على أموال إعادة الإعمار
وإذا كان المجتمع الدولي جادًا في بدء عملية إعادة الإعمار للمدن التي تضررت في الحرب على داعش، فإن عليه مراعاة موضوع الفساد الذي يغرق فيه العراق الآن، والأموال التي ستجمع في مؤتمر المانحين المزمع إقامته في الكويت مطلع العام المقبل، لن يكون لها تأثير، لأنها ببساطة ستجد طريقها لجيوب الفاسدين، والحل الأمثل تشكيل هيئة دولية نزيهة، يكون أعضاؤها من الدول المانحة نفسها، تشرف على إعادة الإعمار في العراق، لكي تحول دون ضياع تلك الأموال، بالإضافة إلى إسناد مشاريع إعادة الإعمار إلى شركات عالمية معروفة، وألا يتم الاعتماد على الشركات الوهمية التي غالبًا ما تنفذ مشاريع على الورق فقط.
يجب الدفع بهذا الاتجاه والوقوف بوجه التوجهات الحكومية التي تريد الاستفادة من تلك الأموال لتعزيز سلطتها وسطوتها، لا لتعمير مدنها المدمرة.