تدخل أزمة رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري، مرحلة جديدة في مضمار لعبة الكراسي الموسيقية التي شاركت بها منذ الـ4 من نوفمبر الحاليّ، وذلك إثر قبوله دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زيارة باريس حسبما جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، صباح اليوم الخميس.
قبول الحريري دعوة ماكرون بعد يومين فقط من تأكيده العودة لبلاده خلال المقابلة التي أجراها مع تليفزيون المستقبل، يُدخل باريس على خط الأزمة مجددًا، لتتصاعد معها بورصة التكهنات عن دوافع هذه الخطوة الفرنسية وموقف الرياض منها، خاصة بعد زيادة حدة الانتقادات الموجهة للسلطات السعودية باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني ووضعه تحت الإقامة الجبرية كان آخرها ما جاء على لسان الرئيس ميشال عون.
باريس تتدخل
منذ اندلاع أزمة الحريري في أعقاب بيان استقالته – المثير للجدل – الذي أذاعه من الرياض مساء الـ4 من نوفمبر الحاليّ، وما تلاه من ردود فعل متباينة في الداخل والخارج، كان الموقف الفرنسي الأكثر حضورًا في المشهد مقارنة بالقوى الأخرى ولعل لهذا ما يفسره كما سيرد ذكره لاحقًا.
بعد 6 أيام تقريبًا من الشد والجذب ما بين الرياض من جانب وبيروت وطهران من جانب آخر في أعقاب الاستقالة، دخلت باريس على الخط من بعيد نسبيًا، وذلك حين خرجت بتصريحين في يوم واحد، الجمعة 11 من نوفمبر، حملا بعض التناقضات، ففي الصباح جاء على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، قوله إنه يعتقد أن رئيس وزراء لبنان المستقيل سعد الحريري لا يخضع للإقامة الجبرية في السعودية وليس هناك أي قيود على حركته، وتابع وفق ما أوردته رويترز: “نعتقد أنه حر في تحركاته على حد علمنا، والمهم أنه يتخذ خياراته بنفسه”.
إلا أن تصريحًا آخر صدر عن الخارجية الفرنسية في نفس اليوم أيضًا، لكنه هذه المرة على لسان ألكسندر جورجيني نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية، يشير إلى احتمالية ألا يكون الحريري حرًا في السعودية وأن هناك رغبة فرنسية في أن يتمتع بكامل حريته، وهو ما كشفه بقوله: “سفيرنا في السعودية زار سعد الحريري في منزله لدى عودته من جولة قام بها إلى الإمارات العربية المتحدة والتي أشار إليها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دوريان هذا الصباح” وتابع: “كما قال الوزير، نتمنى أن يحصل سعد الحريري على كامل حريته في التحرك ويكون قادرًا بشكل كامل على القيام بدوره الحيوي في لبنان”.
رغم مرور ما يقارب 74 عامًا على إنهاء الانتداب الفرنسي للبنان، فإن باريس ما زالت تتعامل مع بيروت من خلال هذه النظرة حتى وإن لم تفصح عنها بصورة مباشرة
وما بين التصريح بفقدان الحريري لحريته سعوديًا أو التأكيد عليها، جاءت دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لرئيس الحكومة اللبنانية المستقيل وعائلته لزيارته، لتكشف النقاب قليلاً عن بعض ملامح الموقف الرسمي الفرنسي من الأزمة.
ماكرون في دعوته شدد على أن عرضه “ليس عرضًا للجوء إلى فرنسا” وهو التصريح الذي يرى البعض أنه يحمل بين ثناياه تأكيدًا لما يريد الرئيس الفرنسي نفيه، خاصة أنها – الدعوة – جاءت بعد اتهام الرئيس اللبناني ميشال عون للسعودية بأنها “تحتجز” الحريري وتضعه قيد الإقامة الجبرية، ثم لقاء جمع بين سفير باريس في الرياض والحريري أعقبه كما أشارت بعض المصادر لقاء آخر جمعه ومحمد بن سلمان، هذا بخلاف ما صرح به مسؤولون فرنسيون بأن الدعوة جاءت بعد محادثة أجراها ماكرون مع الحريري وولي العهد السعودي عبر الهاتف.
الرئيس الفرنسي فسًر دعوته بحسب تصريحاته الرسمية بأنها تأتي في إطار مساعيه لحل الوضع في لبنان بطريقة سلمية، إلا أن جزءًا من تلك التصريحات حمل في مضمونه اتهامًا واضحًا للسعودية بالضغط على الحريري الذي اتخذ قرار الاستقالة وهو على غير كامل إرادته وذلك حين قال: “نحتاج إلى لبنان القوي الذي يتمتع بسيادة كاملة على أراضيه، كما نحتاج إلى قادة يتمتعون بحرية اتخاذ قراراتهم”.
الدور الفرنسي داخل لبنان
تعود العلاقات بين فرنسا ولبنان إلى عدة قرون مضت، حيث كانت فرنسا أحد أبرز اللاعبين في نشأة الكيان اللبناني منذ البداية بدءًا من عام 1861 حين تدخلت عسكريًا في الحرب الأهلية اللبنانية الأولى لتضع اللبنة الأولى نحو الدولة المعاصرة في لبنان والتي تظهر في صورتها الحالية.
وخلال ما يقرب من 23 عامًا ظلت لبنان أسيرة الانتداب الفرنسي وفق قرار عصبة الأمم الذي أعطى لفرنسا سلطة الانتداب على سوريا ولبنان، من 1920 وحتى 1943، ورغم انتهاء الانتداب، فإن فرنسا كانت دومًا أبرز اللاعبين المؤثرين في المشهد اللبناني وهو ما تجسد بصورة واضحة في الحرب الأهلية الثانية 1985، وظل الدور الفرنسي داخل لبنان يتراجع بعد ذلك بفضل المستجدات الإقليمية آنذاك، إلى أن وصل إلى أدنى مستوياته عام 1990 حين اكتفى بمنح اللجوء إلى العماد ميشيل عون قائد الجيش اللبناني السابق.
ومع وصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة عاد الدور الفرنسي إلى سابق عهده مجددًا، وذلك بفضل العلاقة القوية بين الحريري والرئيس الفرنسي حينها جاك شيراك، حيث حملت باريس على عاتقها دعم بيروت وتبني لواء الدعوة لذلك عالميًا، متوجة هذه الجهود بعقد مؤتمري باريس 1 وباريس 2 للدول المانحة للبنان قبيل نهاية الألفية الثانية.
رغم الاتفاق السعودي الفرنسي حيال بعض الملفات الإقليمية بصفة عامة في ضوء التقارب الواضح بين البلدين في السنوات الأخيرة، فإن تعاطي كل منهما مع الداخل اللبناني يشهد حالة من التباين
وسارت العلاقات بين البلدين عقب ذلك بوتيرة مستقرة إلى حد ما، حيث ظلت لبنان في العقلية الفرنسية محورًا مهمًا وحيويًا لتجسيد النفوذ الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما دفعها لأن تشارك وبصورة كبيرة في إحكام القبضة على المنظومة الاقتصادية اللبنانية فضلاً عن الوعاء الثقافي اللبناني والذي تشبع بنسبة كبيرة بالثقافة الفرنسية وما نجم عن ذلك من تداعيات مجتمعية أخرى.
ورغم مرور ما يقارب 74 عامًا على إنهاء الانتداب الفرنسي للبنان، فإن باريس ما زالت تتعامل مع بيروت من خلال هذه النظرة حتى وإن لم تفصح عنها بصورة مباشرة، ومن ثم كانت الأيادي الفرنسية حاضرة دومًا في المشهد اللبناني، داخليًا كان أو خارجيًا.
ولعل زيارة الرئيس اللبناني لفرنسا – التي كان منفيًا سياسيًا بها لسنوات – في سبتمبر الماضي تعيد من جديد أجواء العلاقات بين الحريري وشيراك، حيث تمحورت لقاءاته مع وزير الاقتصاد برونو لومير، والخارجية جان إيف لودريان، فضلاً عن رئيس الحكومة إدوار فيليب، ثم الرئيس ماكرون، حول إحياء الدور الفرنسي مرة أخرى وإن كان ذلك عبر بوابة مؤتمرات المنح والدعم التي تتبناها فرنسا لصالح حليفها اللبناني، وهو ما أكد عليه لودريان بقوله إن ماكرون طلب منه العمل مع الحكومة اللبنانية لتأمين نجاح المؤتمرات التي ستعقد من أجل لبنان”.
مضيفا أنه سيزور لبنان قبل نهاية العام الحاليّ لدراسة الترتيبات المتعلقة بالمؤتمرات الثلاث وهي: “تسليح الجيش ومؤتمر الاستثمار ومؤتمر النازحين واللاجئين”.
خلال زيارة عون لباريس سبتمبر 2017
تباين في الرؤى
رغم الاتفاق السعودي الفرنسي حيال بعض الملفات الإقليمية بصفة عامة في ضوء التقارب الواضح بين البلدين في السنوات الأخيرة، فإن تعاطي كل منهما مع الداخل اللبناني يشهد حالة من التباين في ضوء نظرة كليهما لطبيعة ما يجري في الشارع اللبناني وفق ما يخدم مصالحه الخاصة.
مساعي السعودية لفرض السيطرة على بيروت عبر بوابة الدعم المالي مستغلة في ذلك الأزمة الاقتصادية التي يحياها لبنان يبدو أنها لم ترق في كثير من مراحلها للرؤية الفرنسية، والتي ترى في لبنان كما تم ذكره سابقًا مستعمرتها غير الرسمية في المنطقة، وحليفها الأول إقليميًا خاصة بعد تراجع النفوذ الفرنسي خلال السنوات الأخيرة.
الحديث هنا يدور بشأن موافقة سعودية على هذا العرض الفرنسي، وهو ما تجسد في إبداء الحريري الموافقة عليه حسبما أشار وزير الخارجية الفرنسي، علمًا بأنه من الصعب أن يعلن رئيس الوزراء اللبناني موافقته دون تنسيق سعودي
استراتيجية المملكة في تعاطيها مع لبنان، في الغالب ما كان تستهدف استخدامها كورقة سياسية للضغط على إيران، خاصة بعد امتداد نفوذ حزب الله – الذراع العسكري لإيران – داخل الأراضي اللبنانية وخارجها، ومن ثم تسعى الرياض إلى تقليم أظافره عبر دعم الحكومة والجيش اللبناني، وهو ما يتعارض بصورة كبيرة مع الرؤية الفرنسية التي تهدف في المقام الأول إلى إبقاء لبنان – حكومة وشعبًا – تحت الهيمنة الفرنسية غير المباشرة – ثقافيًا واقتصاديًا ومجتمعيًا – بصرف النظر عن ملامح خيرطة التكوين السياسي الداخلي.
صفقة فرنسية سعودية
تسارع الأحداث في أزمة الحريري في أعقاب الانتقادات التي وجهتها الرئاسة اللبنانية للسعودية واتهامها باحتجاز رئيس وزرائها وما تلاها من مقابلة تليفزيونية أكدت شكوك الفريق الداعم لوجهة نظر وضعه تحت الإقامة الجبرية، وصولاً إلى دعوة ماكرون للحريري بزيارة باريس ثم قبول الأخير لها، دفعت البعض إلى تبني فكرة إبرام صفقة بين السعودية ولبنان للخروج من هذا المأزق.
تفاصيل الصفقة تشير إلى محاولة السعودية الخروج من مأزقها الذي وضعت نفسها فيه بوضع رئيس وزراء لبنان تحت الإقامة الجبرية وإجباره على تقديم استقالته من الرياض بما يخالف الدستور، وذلك عن طريق الدفع لإثبات حسن النوايا وتفنيد هذه الاتهامات من خلال السماح بمغادرة الحريري للمملكة.
وفي المقابل رأت فرنسا في هذا التطور فرصة لتدخل على خط الأزمة وتستعيد جزءًا من دورها اللبناني في محاولة للحيلولة دون تأزم الوضع أكثر من هذا، مما يهدد مصالحها لبنانيًا وشرق أوسطيًا، فكان التنسيق مع ولي العهد السعودي بحسب ما نُقل عن ماكرون الذي أجرى اتصالاً هاتفيًا بمحمد بن سلمان ورئيس الوزراء اللبناني لإقناعهما بفكرة دعوة الأخير لزيارة بلاده وبهذا يعفي المملكة من الحرج ويستعيد دوره مرة أخرى.
الحديث هنا يدور بشأن موافقة سعودية على هذا العرض الفرنسي، وهو ما تجسد في إبداء الحريري الموافقة عليه حسبما أشار وزير الخارجية الفرنسي، علمًا بأنه من الصعب أن يعلن رئيس الوزراء اللبناني موافقته دون تنسيق سعودي، مما يشي إلى احتمالية مغادرته للمملكة خلال الساعات القليلة القادمة، وهنا احتمالان إما أن يقيم في باريس بضعة أيام ثم يتوجه بعدها إلى بيروت لاستكمال إجراءات الاستقالة وفق الدستور المعمول به، أو يبقى في فرنسا إلى أجل غير مسمى.
وبصرف النظر عما يمكن أن تشهده الأيام القادمة من الدخول في مرحلة جديدة من لعبة الكراسي الموسيقية التي تمارسها السعودية مع لبنان، بتوظيف عائلة الحريري لخدمة أهدافها نحو تطويق نفوذ حزب الله، سواء كان ذلك عن طريق سعد من الخارج أم شقيقة بهاء حال تصعيده لرئاسة تيار المستقبل أو الحكومة من الداخل، فإن فرنسا نجحت بخطوتها الأخيرة في تصدر المشهد وسحب البساط تدريجيًا من تحت الأقدام السعودية وهو ما قد ينعكس مستقبلاً على موقف بيروت من باريس من جانب والرياض من جانب آخر.