“من كان يصدق أن الركض سيأتي بي إلى هنا”! هذا ما قاله مو فرح البطل الرياضي الأكثر نجاحًا في تاريخ بريطانيا الحديث، عشية تتويجه بلقب “فارس” من ملكة بريطانيا مؤخرًا، اعترافًا بإسهاماته الكبيرة في ميادين ألعاب القوى، وتحديدًا رياضة الجري لمسافات طويلة التي غدا واحدًا من أعظم أبطالها في التاريخ بتتويجه بـ4 ذهبيات أولمبية و6 في بطولات العالم لألعاب القوى.
فكيف هرب الطفل الصومالي من أتون الحرب والتشرد والمجاعة في بلاده، وتسلق سلم المجد الرياضي حتى بات في أعلى درجاته؟ تابعوا معنا:
ملكة بريطانيا إليزابيث تتوج محمد فرح بلقب فارس
بعينين دامعتين ووجه ترتسم عليه ملامح الخجل والتواضع، يروي محمد مختار جمعة فرح – المولود في مدينة غابيلي الصومالية عام 1983 – قصة كفاحه التي أوصلته إلى دروب المجد والشهرة، وذلك من خلال فيلم وثائقي عُرض على شاشة قناة BBC البريطانية عام 2016، تحت عنوان “مو فرح: سباقٌ من أجل حياتي“، فيحكي عن طفولته المريرة التي عاشها في بلاد تمزقها الحروب والنزاعات، وسط عائلة معدمة لا معيل لها إلا الأم المسكينة التي وجدت نفسها وحيدة في مهب الريح، بعد لجوء الأب إلى بريطانيا بحثًا عن حياة أفضل، تاركًا وراءه 5 أولاد بينهم بطلنا محمد الذي وضع نصب عينيه اللحاق بأبيه، فرحل عن بلده الصومال وهو ابن 8 سنوات، واضطر للتنقل بين مخيمات النازحين في كل من جيبوتي وإثيوبيا وكينيا، بانتظار وصول الموافقة على لم شمله بأبيه في بريطانيا، والتي استغرقت نحو عامين.
مو فرح اسمه الحقيقي محمد، وقد ولد في الصومال وهاجر إلى بريطانيا بعمر 8 سنوات
وفي لندن بدأ الفتى محمد – الذي طغى على اسمه لقب “مو” – حياة جديدة، فدخل المدرسة وأتقن اللغة الإنجليزية خلال شهور معدودة، كما ولج سوق العمل في سن مبكرة، فكان يعاون والده في عمله بصيانة الإلكترونيات قبل أن يتجه للعمل كميكانيكي سيارات، وفي هذه الأثناء لاحظ مدرس التربية البدنية في المدرسة سرعة مو الكبيرة في الجري، وتفوقه على جميع أقرانه بشكل واضح، فاقترح على أبيه إلحاقه بأحد الأندية الرياضية، وكان مو عاشقًا لنادي أرسنال لكرة القدم ويحلم باللعب في صفوفه ذات يوم، فتحمس بشدة للفكرة واستطاع إقناع أبيه بترك العمل من أجل تحقيق طموحاته الرياضية.
فرح في بداياته خلال أحد السباقات الخاصة بالمدارس
وبالفعل انتسب مو إلى أحد الأندية المختصة بألعاب القوى ويدعى “Borough of Hounslw“، على أمل أن يحظى بإعداد بدني ملائم يخوله الالتحاق بأكاديمية نادي أرسنال لكرة القدم، ولكن القائمين على النادي نصحوه بنسيان فكرة كرة القدم واحتراف رياضة الجري، نظرًا لموهبته غير الطبيعية خاصة في سباقات المسافات الطويلة، فراقت الفكرة للفتى الذي شرع برسم طموحاته وأحلامه بعيدًا عن ملاعب كرة القدم، وقريبًا من مضامير العدو الطويلة.
مو فرح كان يحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم في نادي أرسنال
وفي سن الـ14 فقط استطاع مو إثبات موهبته الكبيرة عندما أحرز المركز الأول في سباق اختراق الضاحية الخاص بجميع مدارس إنجلترا، وبعدها بعامين فقط، وبعد حصوله على الجنسية البريطانية، مثّل مو بلاده الجديدة في بطولة العالم للشبان، فحقق المركز الـ6 في سباق 3000 متر، قبل أن يتألق مع زملائه في المنتخب البريطاني، ويحقق الميدالية الذهبية في بطولة أوروبا لاختراق الضاحية لفئة الشبان دون 21 عامًا، علمًا بأن عمره حينها لم يكن قد تجاوز 16 عامًا!
فرح ساجدًا عقب فوزه بلقب أحد السباقات
وواظب مو على الاشتراك في بطولات الشبان في السنوات التالية، وحقق أفضل نتيجة له عام 2001 بإحرازه ذهبية سباق 5000 متر في بطولة أوروبا لألعاب القوى للشبان، قبل أن يبدأ مسيرته في بطولات الكبار عام 2003 حيث كانت أولى مشاركاته في بطولة العالم لاختراق الضاحية، وحينها تعرض لخيبة أمل كبرى ونكسة كادت تقضي على مستقبله الرياضي حين أنهى السباق في الترتيب الـ74! وهو مركز لا يتناسب مع الطموحات التي يحملها، ولا الآمال التي كانت معقودة عليه من قبل مدربيه ومشرفيه.
أحرز فرح أول ألقابه في بطولات العالم عام 2011
لم تنل هذه الكبوة من عزيمة الفتى الصبور، فقرر الابتعاد عن المنافسات تمامًا نحو عام ونصف، استثمرها في تدريبات شاقة مضنية، سافر فيها إلى القارة الإفريقية ليعتاد التدريب وسط ظروف مناخية قاسية، أسوةً بمنافسيه الأفارقة الذين يُعتبرون ملوك سباقات المسافات الطويلة في العالم، ليعود بعدها إلى المنافسات اعتبارًا من عام 2005 الذي قطف خلاله أولى ثمرات اجتهاده وإصراره، بإحرازه فضية سباق 3000 متر في بطولة أوروبا داخل القاعات، قبل أن يحرز أولى ذهبياته على مستوى الكبار وذلك في بطولة أوروبا لاختراق الضاحية عام 2006، لينهي العام بإحرازه جائزة تقديرية من رابطة الكتاب الرياضيين البريطانيين الذين اختاروه كأفضل عداء بريطاني لذلك العام.
فرح يرفع علم بريطانيا بعد فوزه في أولمبياد لندن 2012
وتتالت نجاحات فرح وصعوده سلم المجد خطوة خطوة، فأحرز برونزية سباق 3000 متر في نهائيات الجولة العالمية عام 2007، قبل أن ينجح في التأهل إلى نهائيات سباق 5000 متر في أولمبياد بكين عام 2008 حيث أنهى السباق في المركز الـ6، وفي العام التالي حقق ذهبية سباق 3000 متر في بطولة أوروبا داخل الصالات، وأتبعها بذهبية المنتخبات لسباق 5000 متر في بطولة أوروبا لألعاب القوى.
قبل أن يشهد عام 2010 سيطرة مو فرح على جميع سباقات المسافات الطويلة في القارة الأوروبية بإحرازه ذهبيتي 5000 متر و10000 متر في بطولة أوروبا لألعاب القوى، مما جعله مرشحًا قويًا للمنافسة على لقب هذين السباقين في بطولة العالم لألعاب القوى التي استضافتها مدينة دايغو في كورية الجنوبية عام 2011، واستطاع خلالها مو فرح تحقيق أول أمجاده العالمية بإحرازه ذهبية سباق 5000 متر، إلى جانب فوزه بفضية سباق 10000 متر في المسابقة ذاتها.
سيطر فرح على سباقات المسافات الطويلة في العالم لمدة 4 سنوات لم يخسر فيها أي سباق
لم تكن تلك سوى البداية في مشوار تألق العداء البريطاني، حيث كان عام 2012 شاهدًا على أول نجاحات فرح الأولمبية، عندما نجح في إبهار الجميع بإحرازه ذهبيتي سباقي 5000 متر و10000 متر ضمن منافسات أولمبياد لندن عام 2012، ليخر على ركبتيه ساجدًا ويرفع يديه شكرًا لله، ثم يقف أمام الجمهور البريطاني محييًا ورافعًا علم البلاد التي أنقذته من براثن الحرب والتشرد، فرد لها الجميل برفع علمها في أكبر محفل رياضي عالمي.
فرح متوجًا بميداليتين ذهبيتين في أولمبياد ريو 2016
وعلى مدى الأعوام التالية كرس فرح هيمنته على مضامير العدو العالمية، فلم يخسر أي سباق خاضه في مسافتي 5000 متر و10000 متر بين عامي 2012 و2016، محرزًا ذهبيتي بطولة العالم بموسكو عام 2013، ومثلهما في بطولة العالم التالية ببكين عام 2015، قبل أن يكتب اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ الألعاب الأولمبية، بإحرازه ذهبيتي سباقي 5000 متر و10000 متر، وذلك للمرة الثانية على التوالي في إنجاز فريد لم يتمكن من تحقيقه سوى عداء واحد عبر التاريخ هو الفنلندي لاس فيرين في دورتي عامي 1972 و1976.
بلغت حصيلة فرح من الميداليات الذهبية 6 في بطولات العالم و4 في الدورات الأولمبية
ورغم بلوغه سن الـ34، لم تفتر عزيمة فرح وتعطشه للبطولات، فأحرز ذهبية سباق 10000 متر في بطولة العالم التي أقيمت في لندن منتصف أغسطس الماضي، إضافة لإحرازه فضية سباق 5000 متر في البطولة ذاتها، ليرفع رصيده في بطولات العالم إلى 6 ميداليات ذهبية واثنتين فضيتين، أضافهما إلى ذهبياته الأولمبية الـ4، ليتربع على عرش أكثر عدائي المسافات الطويلة نجاحًا في التاريخ الحديث، ويستحق لقب “أسطورة المسافات الطويلة”.
فرح لحظة فوزه بسباق 10000 متر في بطولة العالم الأخيرة بلندن 2017
وهكذا نجحت رياضة الجري في تغيير مصير الشاب الصومالي محمد فرح، فحولته من مجرد طفل بائس هارب من ويلات الحرب في بلاده، إلى واحد من أعظم الرياضيين في التاريخ، وذلك بفضل الله أولًا، ثم بفضل عزيمته واجتهاده ومثابرته، التي أضافها إلى موهبته وثقته بقدراته وإيمانه بأن الإنسان قادر على تغيير مصيره إن هو عمل وأخلص النية.