هذه بدائل تركيا عن الاتحاد الأوروبي
بعد تأسيسها كجمهورية علمانية عام 1923 من قبل الضابط العسكري “الباشا” مصطفى كمال، وُضع لتركيا برنامج سياسي ثقافي اجتماعي أمني استراتيجي يحمل في طياته هدف تحويلها لدولة “بسمات غربية” في المقام الأول.
وركوناً لهذا البرنامج، سعت الحكومات التركية المتواترة تطبيقه، معتمدين على سياسات داخلية وخارجية تقرب تركيا من الغرب بشقيه الرئيسيان؛ الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وفيما أظهرت عام 1952 مضارعتها للتوجه الأمريكي عبر انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، قدمت عام 1959 طلباً إلى التجمع الاقتصادي الأوروبي الذي تحول اسمه، فيما بعد، إلى الاتحاد الأوروبي. وسارت داخلياً وخارجياً على مطابقة سياسات هذا الاتحاد وصولاً إلى عام 2009، حيث بدأت تُظهر حكومة حزب العدالة والتنمية، المحسوبة على التيار الإسلامي، عزوفها عن مطابقة هذه السياسات علناً، ومن هنا بدأ مسلسل النزاع بين الطرفين. وهذا ما أوجد تساؤلاً مفاده؛ ما هي بدائل تركيا عن الاتحاد الأوروبي؟
عند الحديث عن البدائل، فهي تُقسم إلى سياسية واقتصادية وأمنية وحقوقية وثقافية:
ـ البدائل السياسية
1ـ سياسة المحاور أو الأقطاب
تقوم سياسة المحاور، باختصار، على قاعدة “تنويع التعاون الدبلوماسي مع أكبر عددٍ ممكن من الدول وفقاً للمصالح المشتركة”. ترتكز هذه القاعدة على وجود مجموعات من الدول تجمعها مصالح مشتركة، وبالتالي يشكلون محور أو قطب منفصل، وبانضمام تركيا لهذه المحاور ذات المصالح المشتركة معها، قد تحظى بمعادلة توازن قوى تمكنها من مسك العصا من الوسط، وبالتالي ظفرها بإمكانية الميل لصالح طرفٍ على حساب طرفٍ آخر في بعض الأحيان، من أجل ممارسة الضغط الدبلوماسي. ولعل في تقاربها لروسيا، مبرمةً معها صفقة منظومة الدفاع الجوي “أس 400″، مثالاً جيداً على سعيها لاتباع هذه السياسة، بما يكفل لها الضغط على الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا. وقد شهدنا موازنتها لموقفها من الأزمة الخليجية بما يكفل لها البقاء إلى جانب محور السعودية، مع محور قطر، وقد تسعى لتطبيق هذا السيناريو في أزمة استقلال إقليم كردستان العراق، حتى تضمن مصالحها بعيداً عن الانهيار الكامل لها.
2ـ سياسة التعاون الثنائي
بعيداً عن المحاور، يمكن لتركيا التقارب وفقاً لسياسة التعاون الثنائي، كتعاون مع إيران في نطاق المصالح المشتركة، أو تعاونها مع الأردن في إطار صياغة سياسة مشتركة لاحتواء فصائل المعارضة السورية. لنجاح هذه السياسة يحتاج الطرفان لإرادة سياسة جادة تمكنهما من بناء هذه السياسة، كما يحتاجان إلى مجالس تعاون استراتيجية تحدد نطاق تقاطع مصالحهما، والسبل التي يمكن انتهاجها من أجل رعاية هذه المصالح على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ.
ـ البدائل الاقتصادية
1ـ التعاون وفقاً للميزة المُطلقة
الميزة المُطلقة التي طرحها أدم سميث، تعني وجود دولتين تدخلان في التبادل التجاري المشترك وفقاً لحيازة كل منهما مُنتج يكاد يكون معدوماً في الطرف الآخر؛ كوجود النفط في الكويت وانعدامه في تركيا التي تمتلك أراضي خصبة للزراعة تكاد تكون معدومة في الكويت. وبتعاون الدولتين وفقاً لهذه القاعدة، توفران التكاليف الباهظة لإنتاج المادة المعدومة عندهما ذاتياً، كما تصحبان متخصصتين في مجالٍ يدر عليها بالفائدة الكبيرة.
وربما يمثل التعاون التركي ـ الكويتي، التركي ـ السعودي، التركي ـ القطري، التركي ـ الأذربيجاني، أفضل النماذج على هذا التعاون، فتركيا تبرع، على سبيل المثال، في المنتوجات النسيجية، وموقع جغرافي استراتيجي، وأيدي عاملة كبيرة، والدول الأخرى تزخر بمخزون هائل من الطاقة، ورأس مال كبيرة، ومجالات استثمارية خدماتية، وبوضع الأطراف المذكورة مجالاتها الاقتصادية وفقاً لقاعدة الميزة المُطلقة، تستطيع التعاون بما يمنحها فرصة لتوفير الجهد وتحصيل فائدة جيدة. وإن كانت تسعى تركيا لتوفير رأس مال ومجالات استثمارية خدماتية وصناعية ضخمة بديلة لتلك الأوروبية التي تشكل سنم التعاون الاقتصادي بينها وبين الدول الأوروبية، فإن الدول المذكورة، إلى جانب الصين وكوريا الجنوبية واليابان توفر لها البديل.
2ـ التعاون وفقاً للميزة النسبية
بعد ظهور احتمال انعدام وجود ميزة مُطلقة لدى الدولة لإنتاج مُنتج ما، ظهر ديفيد ريكادوا بنظرية الميزة النسبية، داعياً إلى تخصص كل بلد في إنتاج السلع التي لا تكلفه كثيراً مقارنة بباقي السلع التي ينتجها، والتعاون مع البلاد الأخرى التي تنتج السلع التي سيتم التخلي عن إنتاجها، بكلفة أقل.
بمعنى أن كل بلد يجب عليه استيراد السلع المُكلفة بالنسبة له، والتي سيتنازل عن إنتاجها، من باقي الدول التي تملك ميزة نسبية في إنتاجها. وبركون تركيا إلى هذه النظرية يمكنها فتح آفاقاً للتعاون مع الدول التي لا تملك ميزة مطلقة، لكنها تملك ميزة نسبية في تخلي تركيا عن إنتاج بعض السلع مقابل استيرادها منها، وبشكل متقابل تتخلى هذه الدول عن إنتاج بعض السلع مقابل استيرادها من تركيا. ويبدو أن هذه النظرية بحاجة إلى دول تعتمد على “اقتصاد السوق” بالأساس، بمعنى دول تعتمد على التبادل التجاري الذي يعتمد على نسبة من القواعد الليبرالية “الحرة”. وهناك الكثير من الدول التي تشكل هذا البديل لتركيا، فكبديل لها عن استيراد السلع الأوروبية التي تأتي في هذا الإطار، كعدد من أنواع الأوية وقطاع غيار السيارات وقطع غيار صناعة الطائرات العسكرية، من الصين واليابان. ولنقل فائدة اتفاقية “الاتحاد الجمركي” بينها وبين الاتحاد الأوروبي، يمكن توقيع ذات الاتفاقية بشكل ثنائي مع الدول الأخرى.
تُنتج تركيا عدداً من صناعاتها، كالصناعات الفضائية، بالتعاون مع اليابان بشكل أساسي
3ـ التعاون وفقاً لقاعدة البناء الليبرالي الاتحادي
قاعدة البناء الليبرالي الاتحادي التي تعتبر نظرية حديثة في علم العلاقات الدولية، والتي تعتبر مستوحاة من الاقتصاد، على أن الدول هي عبارة عن فاعل يسعى للربح وسط ملعب كبير يحاكي المربع، داخل هذا المربع يوجد 4 مربعات، مربعان صفريان، ويعنيان الخسارة، وآخران يحتويان على الرقم واحد ويعنيان الربح.
باختصار تنص النظرية على أنه في حال تعاون الطرفين ضمن اتحاد سياسي واقتصادي عادل فإنهما يقيان نفسهما من الوقوع في الخسارة، ويكون نصيبهما من الربح متساوياً، ونتيجة الاتحاد المتبادل ستكون أي نتيجة إيجابية أو سلبية محسوبة للطرفين أو عليهما.
0 |
1 |
1 |
0 |
وتحذر القاعدة من معادلة العلاقات المعتمدة ل 1 + 0 التي تعني فائدة طرف على حساب طرفٍ آخر، فتلك المعادلة مصيرها الانهيار، كانهيار الدول الاستعمارية التي تتعارض لانتفاض الدولة الخاسرة.
لكن باعتماد تركيا على هذه القاعدة، في بناء علاقاتها مع الدول الإفريقية التي تحتاج إلى من يدعمها عبر المشاريع التنموية وليس المساعدات الإنسانية، ستخسر في البداية، ولكنها ستصل حتماً إلى تبادل الأرباح الاقتصادية الطائلة وفقاً لقاعدة العلاقات الربحية أو علاقات الفائدة المتبادلة. ولا يقتصر ذلك على الدول الإفريقية، فبناء تركيا لعلاقاتها الاقتصادية مع عدد من الدول وفقاً لهذه القاعدة يعود عليها بالفائدة الطائلة والمستدامة.
4ـ التعاون وفقاً لقاعدة التكامل الاقتصادي المعرفي في إطار اقتصاد السوق
في ظل العولمة والتقدم التكنولوجي وعصر تبادل المعلومات سريعاً، بات التعاون الاقتصادي مبني على قواعد الاقتصادي المعرفي التي تتمحور حول عدة أسئلة هي؛ كيف، ولماذا، وماذا، ومتى. بهذه الأسئلة يتم تدوّيل أنظمة الإنتاج بالاعتماد على التعليم المتقدم، وتبادل العقول، والبحث والتطوير المشترك الذي يفضي إلى إبداع يغير هيكلة الصادرات، ويُنتج نمو كمي وتنمية نوعية يرفعان من قيمة الناتج الإجمالي المستقل لتركيا.
وتكاد الصين واليابان وإسرائيل وسويسرا، الدول الأمثل لهذا التعاون. تُنتج تركيا عدداً من صناعاتها، كالصناعات الفضائية، بالتعاون مع اليابان بشكل أساسي. غير أنها من خلال التعاون مع الدول المذكورة، يمكنها، وفقاً لتراتبية النظام الإنتاجي التي تعني أن هناك دولاً تتميز بقوة بشرية تُبدع وتخترع، وهناك دولاً تتمتع برأس مال يطور الاختراع وينتجه ويضخه للسوق، وهناك دولاً تزخر بأيدي عاملة رخيصة تساهم في نشر المنتج واستمرارية إنتاجها، أن تتعاون معهم لتفعيل التعاون في تراتبية النظام الإنتاجي.
اليوم باتت تركيا بحاجة لتغيير قناعة شعبها، والتوجه صوب اتباع استراتيجية الأمننة القائمة على التعاون الإقليمي المتنوع البعيد عن التعاون المحوري الأحادي
5ـ التعاون وفقاً لقاعدة التكامل الإقليمي أو المناطقي
يعني هذا الخيار التعاون مع اتحادات التكامل الإقليمي الاقتصادي القائمة، وهذه كثيرة؛ كمنظمة التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ “آبيك”، رابط دول جنوب آسيا “آسيان”، مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي، المجموعة الاقتصادية في أمريكا الجنوبية “ميركوسور”، الاتحاد الاقتصادي والنقدي غرب أفريقيا.
والهدف من التعاون في إطار هذه الاتحادات هو الاستفادة من التعريفة الجمركية المشتركة لها، والتي عادت تكون مناسبة للتبادل التجاري، والتخلص من “الازدواج الضريبي” الذي يعني فرض أكثر من ضريبة وطنية على منتج واحد.
ـ البدائل الأمنية
1ـ استراتيجية الأمننة على الصعيدين الدولي والإقليمي
تقوم هذه الاستراتيجية التي تعتبر نتاجاً لمدة كوبنهاجن الأمنية، على تهيئة الساحتين الداخلية والدولية للتحرك أمنياً وسياسياً في اتجاهٍ جديدٍ نحو التعاون الأمني والدبلوماسي. وتعتمد هذه الاستراتيجية بشكل أساسي على نهج خطابي وفعلي جديد يقنع الجمهور الداخلي ودول الإقليم بالسياسات الجديدة. تبدأ المرحلة الأولى من الاستراتيجية المذكورة بإعلان طرفٍ ما بأنه تهديد وجودي لمصلحة الدولة والدول الأخرى القومية، ويتم إقناع الكيان المرجعي، أي الشعب، بضرورة استيعاب هذا الطرف على أنه تهديد وجودي يجب مواجهته من خلال التعاون مع الدول التي تعاني من التهديد ذاته، وإجراء تحركات عسكرية تستهدف هذا الطرف، وتُظهر أنه خطير بالفعل، وفي نهاية المطاف يتم التعاون مع الأطراف الأخرى لشرعنة التحركات والتعاون الأمني باس مالمصالح القومية العليا.
ترعرع المواطنون الأتراك على أن الاتحاد السوفييتي، ومن بعده الوريث روسيا الاتحادية، واليونان ودول الشرق الأوسط على أنها دول تكن العداء الشديد لتركيا، وترمي لاستهداف أمنها القومي، وربما لتحالف تركيا مع حلف الشمال الأطلسي “الناتو” ـ الممثل العسكري للقطب الغربي ـ يؤدي دوراً مهماً في ذلك.
تتنوع بدائل تركيا عن الاتحاد الأوروبي بتغير المعادلة الدولية المُتجهة نحو تعدد القطبية، ولا شك في أن هذا البدائل لا تمنع تركيا عن التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ ثنائي
واليوم باتت تركيا بحاجة لتغيير قناعة شعبها، والتوجه صوب اتباع استراتيجية الأمننة القائمة على التعاون الإقليمي المتنوع البعيد عن التعاون المحوري الأحادي. وفي ضوء ذلك، يمكنها إعادة احياء تحالفها مع دول الشرق الأوسط أسوة باتفاق ساداباد المُوقع عام 1935، والذي كان يضم إيران والعراق ومن ثم أفغانستان، أو اتفاق البلقان المُوقع عام 1934، والذي كان يضم اليونان وتركيا وبلغاريا ورومانيا.
ربما عزفت تركيا عن الانضمام الفاعل لهذه الاتفاقيات بعد الحرب العالمية الثانية، بالرغم من توقيعها لاتفاق البلقان عام 1954، واتفاق بغداد عام 1955، لقبولها كعضو في “الناتو”، لكن المسار التاريخي، وتطورات يومنا الحالي أظهرا بشكل ملموس حجم حاجتها لمثل هذه الاتفاقيات. ولعل تعاونها مع اتحاد شنغهاي الذي يتزعمه، بشكل أساسي، روسيا والصين، يأتي في هذا الإطار الذي بحاجة إلى تطوير.
2ـ تنويع التعاون العسكري التجاري
ويمكن ذلك بتنويع التعاون العسكري مع الدول المُصنعة للأسلحة، كروسيا والصين وفرنسا وإيطاليا. وليس مُضيها خطوة جادة في التعاون مع روسيا، عبر شراء منظومة الدفاع الجوي “أس 400″، إلا مثال واضح على تنبهه لهذه الضرورة.
في الختام، تتنوع بدائل تركيا عن الاتحاد الأوروبي بتغير المعادلة الدولية المُتجهة نحو تعدد القطبية، ولا شك في أن هذا البدائل لا تمنع تركيا عن التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ ثنائي، والإبقاء على تعاونها الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي كتجمع، مع الميول إلى إبدال بعض جوانب هذا التعاون مع دول أخرى، لحماية مصالحها على الصعيد الاستراتيجي.