يعتبر الكثيرون من مؤرخي السينما أن العام 1939 هو العام الذهبي لصناعة السينما الأمريكية، وربما يكون هو أهم أعوامها قاطبة في كل تاريخها، لأنه العام الذي شهد إنتاج أكبر عدد من الأفلام ذات الجودة الفنية العالية والإقبال الجماهيري منقطع النظير، ومع الزمن أصبحت تلك الأفلام من أهم كلاسيكيات الفن السابع، على رأس تلك الأفلام يأتي الفيلم الملحمي الضخم ” ذهب مع الريح “، والذي حتى الآن يعتبر هو الفيلم الأكثر مشاهدة والأعلى ربحًا في كل تاريخ السينما بالإضافة إلى الأفلام الأخرى الشهيرة مثل “ساحر أوز” وفيلم فرانك كابرا “مستر سميث يذهب إلى واشنطن”، وطذلط فيلم جون فورد “عربة السفر ذات الجياد” والذي أطلق نجومية الممثل جون وين كأحد أساطير الشاشة الأمريكية وأعاد الألق إلى نوعية فيلم الويسترن، وبفضله سيغدو هذا النوع من الأفلام التي تدور فى صحاري الغرب الأمريكي محبوبًا ومطلوبًا لدى الجماهير لـ30 عام أخرى على الأقل.
كان فيلم “نينوتشكا” أيضًا ضمن أهم أفلام هذا العام السينمائي المثير، وهو من إنتاج شركة مترو جولدوين ماير وكان اللقاء الأول والأخير بين المخرج إرنست لوبيتش والنجمة جريتا جاربو والذي أصبح مع الزمن أحد أهم أفلام جاربو والأكثر بقاءً في الذاكرة، وخاصة بعد اعتزالها المفاجىء عام 1941 ولم يكن عمرها قد تجاوز 36 عام فقط.
كانت جريتا جاربو هي النجمة الأكثر جماهيرية منذ أواخر العشرينيات وحتى اعتزالها في أوائل الأربعينيات، وكانت أغلب أفلامها تحتل صدارة الأفلام الأكثر تحقيقًا للأرباح في شباك التذاكر مع أفلام شارلي شابلن وأفلام وحوش شركة يونيفرسال المثيرة، مثل “فرانكنشتاين” و “دراكيولا”، والأفلام الإستعراضية المتألقة للثنائي الراقص “جنجر روجرز” و “فريد أستير” ومن أهم أفلامها “الجسد والشيطان” 1926، “أنا كريستي” 1930، “ماتاهاري” 1931 ، “جراند أوتيل” 1932 ، “الملكة كريستينا” 1933، “أنا كارنينا” 1935، “غادة الكاميليا” 1936 ، “نينوتشكا” 1939، وكانت تلقب بـ”جاربو الآلهية” لحضورها الذي هو أقرب إلى جمال القديسات في اللوحات الدينية.
أما المخرج “إرنست لوبيتش” فهو مخرج ألماني من مواليد برلين عام 1892، بدأ حياته الفنية فى بلده الأصلي ألمانيا مع أفلام حققت نجاحًا دوليًا كبيرًا مثل “عيون المومياء” 1918 و “كارمن” في نفس العام، ومن الجدير بالذكر أن الفيلم الأول قد تم تصوير جزء كبير منه فى مصر. كانت براعة لوبيتش التقنية هي الأولى من نوعها التي تعرفها السينما الألمانية، وعن طريق “لوبيتش” استطاعت السينما الألمانية أن تغزو العالم بأفلامه التي نالت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا.
ومع عام 1922 انتقل لوبيتش للعمل في صناعة السينما الأمريكية محققُا نجاحًا أكبر بإخراجه سلسلة من الكوميديات، التي كانت سببًا فى شهرته بسبب روح الدعابة البصرية الرقيقة التي كان يتمتع بها، وسرعان ما كانت هوليوود كلها تتحدث عن “لمسة لوبيتش” في براعته فى استخدام التفاصيل على نحو رمزي وموح، وبشكل عام فان لوبيتش استطاع أن يضيف الرشاقة وروح الدعابة الساخرة – وتلك هي اللمسة الأوروبية – إلى هوليوود خلال العشرينيات، وهي اللمسة التي سرت كالنار في الهشيم ليقلدها المخرجون الأخرون.
كما أصبح لوبيتش أيضًا واحدًا من المخرجين المبدعين في الفترة الأولى من عصر السينما الناطقة بأفلامه الموسيقية الكوميدية الخفيفة التى قدمها غالبًا مع النجم الفرنسي “موريس شيفالييه” والنجمة “جانيت ماكدونالد” مثل : “موكب الحب” 1929 ، “مونت كارلو” 1930 “الملازم المبتسم” 1931 ، “ساعة واحدة معك”، 1932 ثم تحفته الشهيرة “متاعب في الفردوس” عام 1932.
بالعودة إلى فيلم “نينونتشكا” والذي تم تسويقه تحت عنوان كبير هو “جاربو تضحك” على غرار تسويق أول أفلام جاربو الناطقة “أنا كريستي” عام 1930 تحت عنوان “جاربو تتكلم”، هو فيلم كوميدي منذ لحظته الأولى وحتى لحظته الأخيرة رغم جدية موضوعه البالغة، وهو فيلم يترك شعورًا بالدفء والبهجة في قلب المشاهد رغم جهامة العالم الذي يصوره، تم تصوير الفيلم فى صيف عام 1939 وعرض في خريف نفس العام بعد شهرين فقط من اندلاع الحرب العالمية الثانية مع غزو ألمانيا لبولندا. والفيلم يصور هذا الانقسام الحادث في العالم والهوة النفسية والفكرية التي تتسع بين غرب رأسمالي يعيش حياة مرفهة لاهية، وشرق شيوعي انعزل وراء الستار الحديدي فى حالة تقشف وصرامة، وكلا العالمين ينظر إلى الآخر نظرة عدائية متشككة، وفيما بينهما تتغول فاشية ستشعل النار في الجميع على حد سواء.
اعتبر الجميع أن فيلم نينوتشكا هو هجائية ساخرة وبروباجاندا هوليوودية موجهة بالأساس ضد السياسة السوفيتية، وقد تم حظره في الإتحاد السوفيتي، وطوال فترة الحرب العالمية الثانية عندما أصبح الاتحاد السوفيتى حليفًا للغرب الرأسمالي في حربهما معا ضد النازية، لكن لوبيتش ومعه كتاب السيناريو بيلى وايلدر وتشارلز براكيت هنا لا يسخرون من السياسة الإشتراكية، بقدرما ينتقدون وبشكل كوميدي لاذع الدولة الشمولية تحت حكم الحزب الواحد والقائد الفرد “ستالين “، خصوصًا بعد وصول أنباء المحاكمات الستالينية والتي تتخلص من المعارضين بالجملة من خلال الإعدام أو النفي إلى معسكرات العمل.
لوبيتش كان يوجه انتقاداته وسخريته من هذا النظام السياسي الذي يمحو شخصية الانسان كفرد ويقلصه إلى مجرد ترس يدور في آلة الدولة يفكر بفكرها ولا يستطيع أن يرفع صوته محتجاً ولو حتى من خلال نكتة، تمامًا كما انتقد شابلن النظام الرأسمالي الذي يجعل البشر أشبه بالماكينات فى تحفته “الأزمنة الحديثة” عام 1936.
يسرد الفيلم قصة المندوبة الروسية “نينوتشكا ” – التي تجسدها جريتا جاربو- والتي أرسلتها الحكومة السوفيتية إلى العاصمة الفرنسية باريس لتكمل عملية بيع مجوهرات ” الدوقة سوانا ” والتي كانت قد صادرتها الدولة السوفيتية بعد نجاح الثورة البلشفية عام 1917، وذلك لحاجة الحكومة السوفيتية إلى النقد الأجنبي لشراء المزيد من الجرارات الزراعية حسب الخطة الخمسية، وكانت عملية بيع المجوهرات قد تعثرت بعدما علمت الدوقة المقيمة فى باريس بأمرتلك الصفقة والتى كان سوف يتمها الموظفين السوفيت الثلاثة أيرانوف، وبوليانوف، وكوبالسكي مع ميرسييه تاجر المجوهرات الفرنسي، إلا أن الدوقة ترسل صديقها الفرنسي “الكونت ليون” والذي يقوم بدوره الممثل ميلفين دوجلاس لعرقلة عملية البيع ورفع قضية أمام القضاء الفرنسى ليحسم أمر النزاع حول ملكية تلك المجوهرات.
تأتي نينوتشكا لتعدل مسار القضية لصالح بلدها وتنتظر حكم القضاء الفرنسي، فى تلك الأثناء تتصادف نينوتشكا مع صديق الدوقة الكونت ليون والذي يقع في غرامها ويبدأ في مطاردتها في كل مكان وهو يغازلها ويتودد إليها ملقيا عليها النكات ومحاولاً رسم ابتسامة على وجهها الصارم الخالي من الانفعالات، محاولاً بشتى الطرق أن يذيب شخصيتها الجليدية وأن ينفذ إلى قلبها لكي تبادله العواطف. نينوتشكا كما جسدتها جاربو ببراعة استثنائية هي فتاة بلشفية مؤمنة بالعقيدة الاشتراكية ودولة الملايين، ولا تعيش إلا من أجل خدمة تلك الفكرة المثالية.
أكثر فصول الفيلم جمالًا وعاطفة هو الجزء الأخير، الذي تدور أحداثه في موسكو بعد عودة نينوتشكا ورفاقها الثلاثة إلى بلدهم روسيا بعد نجاحهم في مهمتهم
وهي بالتأكيد شخصية تثير اعجاب المشاهدين لنبل مقصدها الواضح من البداية إلى النهاية ، فهي تعيش فى خدمة الآخرين، أشبه بزاهد متقشف ولكن من أجل مصلحة الدولة، عندما ترى أن الموظفين السوفيت الثلاثة قد حجزوا لها الجناح الملكي بالفندق تستنكر هذا التبذير وتخبرهم أن أجرة الجناح لأسبوع تساوي ثمن سبع بقرات كاملة كان أولى بها الشعب الروسي، وهي تذهب إلى برج أيفل سيرًا على الأقدام توفيرًا لنفقات التاكسي، ترتدي ثياباً خشنة وتتحدث بنبرة عسكرية، تنام عدد ساعات قليل وكل وقت فراغها مكرس للبحث والاستفادة مما تراه من منشآت باريسية، نرى الموظفين الثلاثة يقترحون عليها زيارة شبكة الصرف الصحي فى باريس، وتأكل حسب حاجة جسمها للسعرات الحرارية وليس للاستمتاع بالطعام.
عندما تذهب إلى مطعم للعمال تطلب من النادل جزرًا ولفتًا طازجًا فيندهش النادل ويخبرها بتهذيب أنها فى مطعم وليس فى حقل. مصدر الكوميديا في الفيلم ينبع من كل هذه التناقضات بين سلوك نينوتشكا المتقشف العملي المناقض لأسلوب حياة أهل باريس الذين يعرفون كيف يسمتعون بمباهج الحياة من طعام وشراب وموسيقى. لكن تدريجيًا تقع نينوتشكا في حب الرجل الباريسي “ليون” والذي ينجح أخيراً في أن يضحكها من قلبها، وتتعلم منه كيف تحب الحياة وتستمتع بها، دون أن تتخلى تماما عن مبادئها الاشتراكية النابعة من عاطفة انسانية بالأساس مكرسة لخدمة الآخرين ومن رغبة في أن تعيش في عالم لا يوجد فيه ظلم إجتماعي.
أكثر فصول الفيلم جمالًا وعاطفة هو الجزء الأخير، الذي تدور أحداثه فى موسكو بعد عودة نينوتشكا ورفاقها الثلاثة إلى بلدهم روسيا بعد نجاحهم في مهمتهم ، حيث يجتمعون معًا على مائدة العشاء فى حجرة نينوتشكا وهي الحجرة التي تشاركها في سكنها عازفة تشيللو وسائقي تروماي فى مسكن مكتظ بالسكان، ويقومون بالعزف والغناء وهم يتذكرون بحنين أيام الحرية والمرح بباريس بعيدا عن أنباء المحاكمات، وطوابير الاستعراضات في يوم الأول من مايو تحت ظل صورة ستالين المرعبة، ولوبيتش هنا لا يتوقف عن نثر لمحاته الساخرة بعد أن يدخل فى المشهد هذا الجار المتجهم الذى يقطع على نينوتشكا ورفاقها غنائهم أكثر من مرة، حيث يمر بالغرفة متوجهًا إلى دورة المياه المشتركة فيتوقفون عن الكلام والغناء لشكهم أنه عميل للبوليس السري، بنهاية الزيارة يقول بوليانوف لنينوتشكا “لكنهم لا يستطيعون أن يراقبوا ذكرياتنا، أليس كذلك؟”.
ينهي لوبيتش فيلمه بالقسطنطينية حيث يجمع شمل الرفيقة البلشفية نينوتشكا مع حبيبها الباريسي ليون على أرض محايدة بعيدا عن تناقضات السياسة، وحيث يستطيع الرفاق الثلاثة أيرانوف وبوليانوف وكوبالسكي أن يمارسوا حقهم في السخط والإعتراض دون خوف، وحيث يرمون الأبسطة من النوافذ متوقعين أنها سوف تطير كما فى ألف ليلة، ويبقى الفيلم “نينوتشكا” من أجمل الأفلام الكوميديا الكلاسيكية التي لا زالت صالحة لإثارة الدهشة، وترسم على وجوهنا الإبتسامة حتى الآن.