ذكرنا في المقالات السابقة مرتكزات الخطاب الإسلامي وبينا أن كلها محل نظر وطرق مختلفة للنظر، لكن ماذا عن التشريعات القائمة في بلداننا العربية وهل هي حقاً تحكم بشرائع مستوردة من الخارج؟ وما هي المحاولات التي قامت لتقنين الشريعة الإسلامية ومن الذي حاول ذلك، هل هي التيارات الإسلامية كما يظن البعض؟ وهل حقاً التشريعات الغربية هي التي كانت سبباً في تخلف الأمة العربية والإسلامية .. ترى هل أعدم سيد قطب وفقاً لقوانين نابليون أم تبعاً لأهواء عبد الناصر؟ وهل قام حافظ الأسد بقصف حماة تبعاً لتوصيات السمنهوري أم للصراع الأيديولوجي الذي عشعش في عقول البعثيين؟ وهل قتل الأبرياء في فلسطين والعراق وليبيا والجزائر والمغرب لأن الشريعة لم تقنن بعد؟!
لا يمكن للقوانين حتى وإن كانت نابعة من القرآن أن تجبر الناس على الانصياع لقيم العدل والحرية والإنصاف والتكافؤ، لا يمكن للسلطات التشريعية أن تملك السلطان الحقيقي فوق السيف واليراع، ولا يمكن للمعرفة أن تخترق جدار السلطة، إذ المعرفة عادة ما تكون نتاج للسلطة نفسها، وهذا الأمر يقتضي قدرتنا على تبني خطاب يجعل السطلة خادمة للمعرفة، وهذا هو جوهر الإشكال الذي يقتضي من الإصلاحيين من كل التيارات الانتباه له، وما حدث في مصر من تزييف للوعي وقدرة على صناعة خطابات متباينة وفقاً للسلطات الحاكمة أمر يدلك على واقعية ما نتحدث عنه .
دعنا نتتبع مسألة تقنين الشريعة، فقد كانت الشريعة الإسلامية هي المرجعية للقوانين في الدولة العثمانية، وكان التنوع في التشريع من حيث المرجعية، يعود فحسب إلى تنوع المذاهب فقد عرف انتشار المذهب الشافعي في الشام واندونيسا وشمال مصر، والمذهب الحنفي في أواسط آسيا وتركيا، والمذهب المالكي في الحجاز وبلاد المغرب العربي، والمذهب الحنبلي في الحجاز مع الدعوة الوهابية والمذهب الجعفري في بلاد فارس، والمذهب الإباضي في أجزاء من جنوب الجزيرة العربية وليبيا و المذهب الزيدي في اليمن .
هذه المذاهب والتي تشكل منبعاً للفتوى هي المصدر القانوني الذي يلجأ إليه القضاة في المسائل التي تعرض عليهم من خصومات الناس، فقد كانت سلطة الفتوى حاسمة، وإذا ما حصل واستبعدت فتوى معينة، عادة ما يكون السبب فتوى أخرى أكثر إقناعاً وأشد حصافة، وهذا يفسر الدور المحوري للفتوى في المحاكم الإسلامية وسبب عدم الآحتفاظ بأحكام القضاة أو نشرها كما هو متبع في أحكام القانون العام. وهذا لا يعني أن الفتوى كانت ملزمة إنما الحديث عن مصدر القانون الذي هو الشريعة المتمثلة في القرآن والسنة والاجتهادات التي شكلت تراكم معرفي وقانوني هو الفقه الإسلامي .
عام 1839 كان ما يعرف بخطة الخلجانه في ولاية السلطان عبد المجيد الذي أقر هذه الخطة المعروفة بمرحلة التنظيمات، وتلك هي المرحلة التي يكاد يجمع المؤرخون فيها على تسرب القوانين الغربية للدولة العثمانية
ولأن المدخل المؤسسي أكثر تفسيراً فإن القرن الثامن عشر شهد بوادر عجز المؤسسة القضائية عن مواكبة التغيرات التي شهدتها الدولة العثمانية، و السبب هو الجمود الفكري وقفل باب الاجتهاد والجمود المجتمعي كذلك، يقول البشري: “والعجيب أن مناهج الفكر الحديث تنظر دائماً إلى حركة الواقع أو جموده ولكن هذا الفكر ينتكس على منهجه عندما ينظر إلى واقع العالم الذي ساد فيه الفكر الإسلامي، فيرى في جمود الفكر سببا لجمود الواقع، و يرجع في ظني القول بأن الركود الفقهي والشتريعي بوصفه ظاهرة ثقافية، كان في خواتيم القرن الثامن عشر والقرن الذي يليه أثراً ونتيجة للركود السياسي و الاجتماعي..”.
هذا الأمر جعل المفكرون والعلماء يسعون لتجديد الفكر وانتشرت الكثير من الحركات الثقافية، ولم يظهر ثمة احتياج حتى بداية الأربعينيات من القرن التاسع عشر لتشريعات و قوانين ترد من الغرب، إنما كانت التشريعات التي جمعت في إطار ما يسمى في الفقه الإسلامي بالسياسة الشرعية هي ما يصدر عن ولي الأمر من نظم و أحكام منظمة للعلاقات، مما يرى فيه مصلحة الجماعة ولا يمس أمراً في التشريع الإسلامي ولا نهياً ، وإن مجموعات (المنتخبات) و (سياسة نامة) التي صدرت في عهد محمد علي شاهدة على ذلك .
عام 1839 كان ما يعرف بخطة الخلجانه في ولاية السلطان عبد المجيد الذي أقر هذه الخطة المعروفة بمرحلة التنظيمات، وتلك هي المرحلة التي يكاد يجمع المؤرخون فيها على تسرب القوانين الغربية للدولة العثمانية، خاصة بعد أن أقرت بعض القوانين التجارية الفرنسية ، وإنشأت بعض المحكام المختلطة، والمحاكم المدنية و اقتطع جزء كبير من هيمنة المحاكم الشرعية و نظراً لظروف العلاقات بين الدولة العثمانية و الدول الأوروبية و القضايا التي تخص الرعايا الأجانب فصلت الكثير من المسائل عن المحاكم الشرعية كقضايا العقار و امتلاك الأراضي. صاحب ذلك حركة تجديدية تسعى لتقنين الشريعة لمواجهة هذه الموجة التغريبية من ذلك مجلة الأحكام العدلية التي أثرت في التشريعات القائمة في الكثر من الدول العربية، و قد اعدتها لجنة برئاسة أحمد جودت باشا في القرن التاسع عشر، و مجلة للجنايات و الأحكام العرفية في تونس عام 1861.
في تلك الفترة يمكن أن نرسم المشهد بثلاث نظم قضائية قامت في البلدان العربية ، نظام القضاء الشرعي الذي حاول أن يطور من آدائه، و نظام المحاكم المختلطة للرعايا الأجانب و كان الدول العربي فيه ثانوي، و هناك قضاة أجانب يحكمون في القضايا التي تخص رعاياهم وفق لأحكام غربية تجارية و جنائية ومدنية واستمررت للعام 1945، ونظام المحاكم الأهلية، وهي التي نشأت نشأة أهلية فيمايعرف القومسيونات وماشاع نسبياً باسم (مجالس الأحكام)، وفي استانبول في 1840 أنشىء مجلس أحكام عدلية وكذلك (تجارت محلي) هذا النظام يطبق وفق المشيئة التشريعية لمن يتولى الحكم في البلاد. هذا التعدد القضائي في الدولة الواحدة وفق للجدلية الفكرية انتهى لوجود قضاء أهلي يخضع لسيطرة الدولة لكنه يحكم بقوانين وتشرعيات غربية وفقاً للمحاكم المختلطة.
القانون المدني المصري عام 1949 و يمثل بداية البحث عن الاستقلال التشريعي، و هو إن لم يكن يأخذ أحكامه من الشريعة إلا أنه كان محاولة لتمصير القانون
لقد استبدل اسم الأهلي باسم (الوطنية و المحاكم الوطنية بعد الربع الأول من القرن العشرين ، و مع نمو حركات الآستقلال السياسي وظهور مفهوم المواطنة و المواطنين بدلاً عن مفهوم الآهالي و صارت هذه التشريعات و محاكمها صنواً لمبدأ الاستقلال ، و لكن بقيت المرجعية التشريعية مرجعية و ضعية)، خاصة في القانون التجاري والمدني و الجنائي. هذا التعدد في النظم القضائية وانتهائه إلى نظام قضائي واحد اختلف من دولة لدولة حسب تأثير الدول المستعمرة ووجود تنوع في المرجعيات بين الشريعة والقوانين الغربية سوا الفرنسية كما في الشام وفرنسا و شمال إفريقيا أو الانجلوساكسوني كما في الخليج و السودان .
بدأ العمل على تلافي هذا التناقض بين الدولة و ثقافة المجتمعات العربية من المؤسسة القضائية نفسها، فقد انتبه المصريون عام 1933 لضرورة الاستقلال التشريعي وكتب الدكتور عبدالرازق السمنهوري كتابه الضخم نظرية العقد، و الذي كان الفاتحة في النظر لمحاولة العودة للشريعة الإسلامية في القوانين التي تحكم بها الدولة في المجالات الجنائية و المدنية و التجارية. في تلك الفترة من أربعينيات القرن العشرين بدأ الحديث يكثر عن الاستقلال التشريعي مع نشاط الحركة الوطنية وألغيت المحاكم المختلطة و صار الاستقلال التشريعي جزء من الحركة الوطنية وقد دعا السمنهوري إلى شريعة الشرق إشارة للشريعة الإسلامية، و هكذا بدأت عدة لجان لتقنين الشريعة الإسلامية قبل أن يتحدث عن ذلك الإسلاميون ، أمثلة على تلك النشاطات :
القانون المدني المصري عام 1949 و يمثل بداية البحث عن الاستقلال التشريعي، و هو إن لم يكن يأخذ أحكامه من الشريعة إلا أنه كان محاولة لتمصير القانون ، و اتبعوا اسلوب القانون المقارن ، المادة الأولى من القانون نصت على أنه إذا لم يكن للقاضي نص تشريعي يمكن للقاضي تطبيقه، فهو يلجأ إلى العرف ، فإذا لم يجد به حكماً حكم بمقتضى مباديء الشريعة الإسلامية، فإذا لم يجد فبمقتضى القانون الطبيعي و قوانين العدالة . (110) و هنا يمكن تمييز البحث عن الاستقلال التشريعي والعودة إلى ثقافة المجتمع و أعرافه و شريعته، ويفصل المستشار البشري كيف كان هناك دعوة صريحة من اللجنة لاعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدرية الوحيدة للقانون المدني .
لذا نجد المستشار صادق فهمي و معه رجال قانون ومستشارين حرصوا أن يكون القانون كله مستقى من الشريعة والفقه الإسلامي الأمر الذي وافقه السمنهوري، و عندما عرض المشروع على مجلس الشيوخ 1948 كان هناك توافق على ضرورة الاستقلال التشريعي والأخذ المباشر من أحكام الشريعة وهذا ما أكد عليه بعض أعضاء المجلس وأنهم كانوا حريصين كل الحرص قبل حتى الأزهر و المعاهد الدينية على ذلك . (68)
المدخل المؤسسي و الثقافي قد اتضح أكثر مع الربيع العربي فقد كان حراك المجتمع و تعقيدات مؤسسات الدولة تمضي في نماذج مغايرة لم تنحصر في إطار الدستور و الشريعة
تعزز البحث عن الاستقلال التشريعي و العودة لأحكام الفقه الإسلامي مع نشأة القومية ، و كان الجهد المتخصص للقانونيي يبعث على الفخر حقا، ففي الستينات تحديداً عام 1964 كان مؤتمر المحامين العرب و الذي كان هدفه هو توحيد التشريع في الوطن العربي ، و في تلك الفترة انتشرت مشاريع الوحدة بين مصر و سوريا و ليبيا ومصر و قد اعتبر القانون المدني المصري و خاصة ارتباطه التام بالشريعة الإسلامية كأساس لهذا المشروع حسب رأي المستشار البشري .
هناك مجموعة نشاطات قامت بها الحركات الإسلامية في الثمانينات والتسيعينيات بعد قرار مشاركتهم في البرلمانات كما سبق .
من الممكن أن نستمر في عرض المشاريع و المؤتمرات والكتب و المحاضرات التي كانت تدعم تطبيق الشريعة لكن ما انتهى إليه الأمر هو الانطلاق إما من القانون المدني المصري والمرتبط بالشريعة أو القانون العراقي المأخوذ من مجلة الأحكام العدلية، لكن الأمر الذي ينبه البشري عليه، قد ينير لنا الطريق في ضرورة فهم خطورة انتقال هذه الأمور القانونية للشؤون السياسية مما يبعد عنها الطابع الثقافي الأكثر تجذراً داخل المجتمع – إذا ماوجدت مؤسسات قوية تحمله – يقول البشري ( و قد صرت أميل أن تلكؤ استعادة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا كان بسبب أنها حمّلت بمعان سياسية تتعلق بأنظمة الحكم، مماجعلها أدخل في سياسات النظم والحكومات من كونها تتعلق بالمجال الثقافي العام ، لأنها صورت بحسبانها عنصراً أساسياً من عناصر التولي على السلطة، و لأن من دعاة العودة إلى استعادة الشريعة الإسلامية من صورها هدفاً مرتبطاً بالوصول إلى الحكم ).
إن المدخل المؤسسي و الثقافي قد اتضح أكثر مع الربيع العربي فقد كان حراك المجتمع و تعقيدات مؤسسات الدولة تمضي في نماذج مغايرة لم تنحصر في إطار الدستور و الشريعة، ورغم أن الخطاب الإسلامي قد استطاع خلال القرن الحادي والعشرين أن يطور من هذا الخطاب إلا أنه عاد لنفس النزاع القديم بعد الربيع العربي و تكررت نفس الثنائيات، ولم ينظر للأمر في إطار متخصص، و لم يعمل الإسلام السياسي على تطوير نموذج يمكن أن ينطلق من هذا المدخل المؤسسي (الذي كان من الممكن أن يفتح المجال لفهم الدولة وعمقها)، الأمر الذي انعكس حتى في استطلاعات الرأي التي كانت تهدف لمعرفة مدى قبول الناس بتطبيق الشريعة، و هكذا صار البعد الثقافي للمجتمع كرآي يمكن أن يصنع القرار و هذا ما يؤكد تفسير البشري الذي نقلنا عنه من قبل أن أهل الإصلاح أهملوا مؤسسات الدولة وانشغلوا بجدليات أيديولوجية ربما كان الربيع العربي و معقباته أكبر دليل على ضرورة التغيير .
المرتكز الآخر الذي يرتكز عليه الخطاب الإسلامي هو نظرية الخروج و التغيير عبر المجتمع سلمياً أو من خلال استعمال القوة وهو المقال القادم.