أدى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس الثلاثاء 2 أبريل/نيسان 2024، اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة، في أجواء احتفالية صاخبة، أثارت الكثير من الجدل والسخرية في آن واحد، كونها تتعارض مع تصريحاته المتتالية بشأن عوز المصريين وفقرهم وتواضع إمكانيات الدولة المصرية ومستنقع الديون الغارقة فيه الذي يحتاج لأكثر من 3 أجيال لسدادها.
ضم موكب السيسي عشرات السيارات والدراجات النارية الفارهة، فضلًا عن الكرنفالات التي شهدتها العاصمة الإدارية الجديدة التي شهدت حلف اليمين، بمعزل عن العاصمة المصرية القاهرة، وذلك لأول مرة في تاريخ مصر الحديث، معلنًا بداية “الجمهورية الجديدة” كما يسميها السيسي وأنصاره.
حمل الموكب الصاخب وخطاب التنصيب الملقى من داخل أروقة المبنى الجديد لمجلس النواب بالعاصمة الجديدة الكثير من الدلالات والرسائل عن طبيعة المرحلة المقبلة التي يبدو من الوهلة الأولى أنها لن تختلف عن العشرية السابقة إن لم تكن أسوأ.
https://twitter.com/TeNNewSEG/status/1775098766183293303
تناقض مثير للسخرية
بينما تُفرش السجاجيد الحمراء لموكب السيسي وصولجانه، وتتزين عاصمته الإدارية الجديدة في أبهى حُليها، في مشهد يعيد الأذهان لعصور الملوك والسلاطين القدماء، وصل حجم الدين الخارجي للدولة التي يحكمها إلى 168.03 مليار دولار، بزيادة 2.1% خلال الربع الأخير من عام 2023.
كما تتناقض تلك الأبهة، شكلًا ومضمونًا، مع تصريحات السيسي على مدار السنوات الماضية التي أكد فيها أكثر من مرة أن مصر دولة فقيرة وأنها أمة عوز، وأن الشعب المصري فقير والبلد كانت “ولا حاجة” حين تسلمها، وأنها تفتقد للحد الأدنى من التعليم والصحة والإسكان الجيد.
قال لشعبه أننا فقراء جدا جدا، وطالبهم أن لا يقيسوا ظروفهم على رفاهية العالم المتقدم، وتعيش دولته على المعونات والقروض والودائع، لكنه ـ مع ذلك ـ بنى برلمانا جديدا أكبر وأفخم من الكونجرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني، وبنى مقرا لوزارة الدفاع أكبر وأفخم من البنتاجون الذي يرأس حلف…
— جمال سلطان (@GamalSultan1) April 2, 2024
ورغم أنه ليس هناك أرقامًا دقيقة ولا رسمية عن كلفة حفل التنصيب، فإنها تتجاوز في حدودها الدنيا عشرات الملايين من الجنيهات، في وقت تتبنى فيه الحكومة والدولة سياسة تقشفية لتقليل حجم الإنفاق من أجل سداد العجز المتفاقم.
من المتناقضات الساخرة أيضًا أن هذا الحفل الصاخب الذي خرج فيه السيسي على الناس في كامل زينته، موظفًا المشهد بكل حذافيره لتجميل صورته وتضخيم شأنه، يأتي بعد أيام قليلة من مطالبته للمصريين بترشيد استهلاك السكر (المختفي من الأسواق وبلغ المتوفر منه أسعارًا فلكية)، والاكتفاء بطبق واحد على مائدة رمضان تماشيًا مع الضغوط والتحديات الاقتصادية الصعبة التي تواجه الدولة ويدفع ثمنها الشعب من قوت يومه ومدخراته وسلوكه الاقتصادي والغذائي والاستهلاكي.
اللي راكب في العربية دي ،وبيتحرك خطوتين بموكب بيكلف الدولة ملايين
بيطالب الناس انهم مايحطوش سكر في الكنافة !!! pic.twitter.com/2Drp3fMbEY— Waleed Sharaby (@waleedsharaby) April 2, 2024
جنون العظمة
المشهد بتفاصيله والكلمات الملقاة والتعبيرات المستخدمة ترسخ استمرارية إصابة السيسي بداء “جنون العظمة” المريض به منذ اليوم الأول لتسلمه مقاليد الحكم، بداية من اختصار الموكب عليه دون غيره، وإحاطة الدراجات النارية بسيارته فقط، مستبعدًا حتى سيارات الحراسة الخاصة، في مشهد ملوكي سلطاني في المقام الأول، وإفساح المجال له وحده في كل شيء.
وصولًا إلى اختتام كلمته بالآية القرآنية التي جاءت على لسان نبي الله يوسف: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾.
على مدار سنوات حكمه الـ10 المنقضية، لم يترك السيسي مناسبة إلا واستعرض فيها تطاوسه بشكل مثير للجدل، فهو الذي شبه نفسه قبل ذلك بنبي الله سليمان حين وصف نفسه بالآية الكريمة: (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا وعلمًا) ومن بعدها ادعى أنه طبيب أرسله الله لوصف العلاج والحكمة لقادة العالم والفلاسفة.
– موكب مهيب يليق بأسم "عزيـز مصـر" الرئيس #السيسي ..❤️✌️🇪🇬#تنصيب_عزيز_مصر_السيسي
pic.twitter.com/Bw042immAr— EslAm OthmAn🦅🇪🇬 (@Esll7970Gladii) April 2, 2024
لطالما وصف الرئيس المصري نفسه بأنه الوحيد القادر على فهم الأمور والتعاطي معها، مطالبًا المصريين أكثر من مرة بعدم الاستماع لمن سواه، مهاجمًا كل من يحاول التغريد خارج سربه، سواء في الإعلام أم السياسة أم الاقتصاد.
ومنذ نهاية عصر الملكية وبداية مرحلة الجمهورية عام 1952 لم تعرف مصر حفلات تنصيب بهذا البذخ إلا في عصر السيسي، عامي 2014 و2024، بداية من محمد نجيب مرورًا بجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وصولًا إلى محمد مرسي، حيث كان حفل أداء اليمين يتسم بالبساطة والتقليدية، الأمر الذي حول مصر في عهد الرئيس الحالي إلى دولة “جملوكية” (تجمع بين الجمهورية والملكية) حسب وصف خبير الاجتماع السياسي، ورئيس مركز ابن خلدون، سعد الدين إبراهيم.
ويشير متابعون إلى أن الهيلمان الذي ظهر به السيسي خلال حفل التنصيب، في وقت تبيع فيه الدولة أصولها لسداد ديونها المثقلة، وتعاني فيه من كوارث اقتصادية خانقة، يعكس استمرارية حالة المبالغة في تقدير الذات التي يعاني منها الرئيس، وهو المرض الذي أصاب من قبله نابليون بونابرت وأدولف هتلر.
🛑الرئيس السيسي يختتم خطاب الولاية الجديدة بتلاوة الآية القرآنية:
"رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" pic.twitter.com/UQziZT3rha— Shorouk News (@Shorouk_News) April 2, 2024
خطاب تقليدي
أثار الخطاب الذي ألقاه السيسي أمام أعضاء البرلمان وحاول فيه رسم ملامح المرحلة المقبلة، الكثير من الانقسامات والجدل بين المتابعين، حيث وصفه البرلماني والصحفي الداعم للنظام، مصطفى بكري، بأنه “تأكيد جديد علي ثوابت الدولة ومشروعها الوطني في إطار يسعي إلي تعظيم الإيجابيات وتصحيح السلبيات في إطار مواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية”.
وأضاف بكري في منشور له على صفحته على “إكس” أن السيسي تحدث عن تبني إستراتيجيات جديدة لتعزيز قدرات مصر الاقتصادية ومنح القطاع الخاص دور مهم والتركيز على الصناعة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات، وتابع: “نحن سنكون أمام رؤيه جديدة وإصلاح مؤسسي شامل، أما تركيز الرئيس علي قضايا التعليم والصحة والأمان الاجتماعي فهو استكمال لنهج تبناه الرئيس منذ وصوله للسلطة، وهو يؤكد أنه مستمر علي ذات النهج”.
على الجانب الآخر، هناك من يرى أن الخطاب تقليديًا في محتواه، فارغًا من معاني الواقعية كافة، عازفًا على أوتار الشعارات الرنانة كعادة الخطابات السابقة، خاصة أن الواقع يتعارض مع مضمون الخطاب بشكل كبير في الشكل والمضمون، كما جاء على لسان المعارض والبرلماني والمرشح الرئاسي السابق أحمد الطنطاوي.
كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عقب أدائه اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة#القاهرة_الإخبارية#مصر #القاهرة pic.twitter.com/J6G3wYtE17
— القاهرة الإخبارية – AlQahera News (@Alqaheranewstv) April 2, 2024
وكتب الطنطاوي بصفحته على “فيس بوك” واصفًا الخطاب بأنه “نمطي ولا يحمل أي جديد أو غير اعتيادي، الخطاب يأتي وسط وعود كثيرة بـ”جمهورية جديدة” بينما لا يقدم حلولًا خلاقة أو حقيقية”، لافتًا إلى أن السنوات الـ10 الماضية التي تولى فيها السيسي السلطة أطلق خلالها الكثير من العهود الفضفاضة دون أرضية واقعية لترجمتها عمليًا.
واختتم المعارض الذي كان قد اتهم الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز فيها السيسي بعدم النزاهة، وأنه استُبعد منها بفعل فاعل، منشوره قائلًا “الخطاب كان واهنًا وغير واقعي وغير جاد ولا يحمل الاحترام الواجب للشعب المصري الذي يتعين على الرئيس الخضوع لإرادته كموظف عام. نطالب بشدة بالشفافية والصراحة مع الشعب المصري العظيم الذي خُدع لـ10 سنوات بوعود ووهم، والذي يرزح تحت الديون والفقر وسجل متداعٍ لحقوق الإنسان ومخاطر حقيقية تهدد الأمن القومي وفساد مستشر سندفع ثمنه لأجيال قادمة”.
كما انتقد البعض تجاهل خطاب السيسي للمأساة التي يعيشها أهل غزة منذ أكثر من 6 أشهر، حيث لم يتطرق في كلمته إلى حرب الإبادة التي يتعرض لها أكثر من مليوني إنسان على الحدود المصرية، والتي تشكل تهديدًا مباشرًا وعلنيًا للأمن القومي المصري الذي تعهد بالحفاظ عليه.
في هذا الشأن تساءل الخبير السياسي مراد علي قائلًا: “أليس غريبًا أن يتم تجاهل مناصرة أهل غزة في خطاب حفل التنصيب، كل رئيس في تاريخ مصر الحديث كان يؤكد الوقوف بجانب الشعب الفلسطيني للحصول على حقوقه، فلماذا تم تجاهلهم؟ الملاحظة الثانية: عدم التطرق مطلقًا للحفاظ على حقوق مصر المائية!”.
العاصمة الإدارية.. إصرار على السياسات القديمة
اختيار السيسي للعاصمة الإدارية الجديدة بدلًا من القاهرة لإقامة حفل التنصيب، وحلف اليمين الدستورية من مقر البرلمان الجديد اللي تكلف بناؤه 5 مليارات جنيه، بعيدًا عن مبنى البرلمان القديم التاريخي الذي كان شاهدًا على أهم أحداث الدولة المصرية خلال الـ100 سنة الماضية، يشير إلى الكثير من الدلالات المثيرة للقلق والجدل معًا.
أبرز تلك الدلالات وأهمها الإصرار على النهج القديم، وتبني ذات السياسات الاقتصادية والنقدية التي تعتمد على الاقتراض والاستدانة وتفتقد لفقه الأولويات في التعامل مع خريطة المشروعات، وهو ما تسبب في إغراق البلاد في أوحال الديون والعجز.
ولطالما كانت العاصمة الإدارية، التي التهمت مئات المليارات من الجنيهات واستحوذت على السواد الأعظم من سياسة الاقتراض كما أشارت تقارير إعلامية واقتصادية عدة، رغم نفي الحكومة لذلك، محل جدال وانتقاد من الشارع المصري وخبراء الاقتصاد الذين يرون أنها غير مجدية على الأقل في هذا الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمات طاحنة تستوجب إعادة النظر في الكثير من المشروعات في المقدمة منها تلك العاصمة.
يعتبر ساسة ونشطاء أن اختيار العاصمة الإدارية لاحتضان حفل التنصيب إعلان رسمي للجمهورية الجديدة التي روج لها النظام خلال السنوات الماضية، واعتبار تلك المدينة هي عاصمة الدولة التنفيذية مستقبلًا، حيث من المقرر أن تحتضن كل أجهزة الدولة ووزاراتها وكياناتها الرسمية، وعليه استكمال المشروعات المتبقية فيها وبالتالي استمرار نزيف الاقتراض والاستدانة وغياب فقه الأولويات.
قبيل حفل التنصيب كان البعض يُمني نفسه بتغييرات جهورية يتضمنها خطاب السيسي أو يعقبه، من قرارات وإجراءات تطمئن الشارع وتخفف من حدة القلق واليأس الذي تملك من الشعب في ظل الأجواء المحبطة المحيطة به، وانعكست بشكل كبير على الحياة المعيشية له خلال السنوات الماضية، غير أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، فلا جديد يذكر، وإن كان هناك إصرار على إعادة القديم واستنساخه مرة تلو الأخرى.
يجسد هذا المشهد بحذافيره ما قاله الروائي المصري الراحل أحمد خالد توفيق، قبل 16 عامًا في روايته الشهيرة “يوتوبيا” الصادرة عام 2008 حين قال: “سيتركون العاصمة القديمة لتحترق بأهلها وتندثر ظلمًا وفقرًا ومرضًا.. وسيذهبون إلى عاصمتهم الجديدة حتى لا تتأذَّى أعينهم بكل ذلك الدمار”.