ما إن تبدأ المفاوضات بين مختلف الفرقاء الليبيين لتعديل الاتفاق السياسي بينهم المُمضى في الصخيرات المغربية نهاية ديسمبر 2015، حتى يُعلن عن فشلها، وما إن تقترح دول الجوار وبعض الدول الغربية ذات العلاقة بالملف الليبي والأمم المتحدة عن مبادرة للسلام لحلّ الأزمة المتواصلة منذ سنوات في هذا البلد العربي، حتى تُقبر وتُوضع في أدراج المكاتب، دون أن يكون لذلك وقع كبير على غالبية الليبيين، كأننا بهم اعتادوا وضع “اللادولة” وتماهوا معه، أو حتى أنهم أصبحوا لا يُطيقون له فراق ولا البعد عنه، حسب عديد المراقبين، فمن أوصل الليبيين إلى هذا الطريق المسدود؟
“لا حياة لمن تنادي”
نهاية أكتوبر الماضي، انتهت جولة المفاوضات بين الفرقاء الليبيين دون صدور بيان ختامي يوضح ما اتفق عليه المجتمعون خلال اجتماعاتهم، حيث اكتفى المبعوث الأممي في ليبيا غسان سلامة، بعقد مؤتمر صحافي قال فيه إن التحدي الذي يواجه الليبيون اليوم هو تشكيل حكومة تحظى بدعم مجلس النواب، متجنبًا إعلان فشل هذه الجولة الثانية من الحوار الليبي المنعقد في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس.
ولئن لم يعلن غسان سلامة صراحة فشل المفاوضات، فإن نتائجها أعلنت ذلك، فمفاوضات تونس الأخيرة انتهت دون أن تحقّق الأمل الذي كان معلقاً عليها، ولم يتوصل الفرقاء الليبيون خلالها إلى حدّ أدنى من التفاهم يسمح برسم خريطة طريق جديدة للانتقال السياسي في البلاد.
الفرقاء السياسيون الليبيون وقعوا، في ديسمبر 2015، في مدينة الصخيرات المغربية على اتفاق يقضي بتشكيل حكومة وفاق وطني
نفس الأمر حدث في السابق في الجزائر والمغرب ومصر والإمارات وفرنسا وروسيا وداخل ليبيا أيضا، فحتى إن أعلن الفرقاء الليبيين عن اتفاق بينهم، لا يلبثون إلا أن يخرجوا بعد لحظات قليلة للإعلان عن توقف العمل به والرجوع إلى الوضع الأول، كما الشأن بالنسبة إلى مبادرات السلام التي ولكثرتها صعب عدّها واحصائها، فالكل يطرح مبادرات للسلام و “أهل الدار” “لا حياة لمن تنادي” كأن الأمر لا يعنيهم.
وكان الفرقاء السياسيون الليبيون قد وقعوا، في شهر ديسمبر سنة 2015، في مدينة الصخيرات المغربية على اتفاق يقضي بتشكيل حكومة وفاق وطني، لكن هذه الحكومة ظلت معلقة بعد أن رفض مجلس النواب عقد جلسة للتصويت على منحها الثقة وإجراء التعديل الدستوري لإدخال الاتفاق السياسي حيز التنفيذ، ويطالب عدد من النواب المعرقلين لعقد الجلسة بضرورة إسقاط المادة الثامنة من الاتفاق السياسي التي تنص على انتقال المناصب السيادية والعسكرية في البلاد إلى سلطة المجلس الرئاسي المنبثق عن اتفاق الصخيرات، ليتولى فيما بعد توزيع هذه المناصب بما فيها منصب القائد العام للجيش الذي يتولاه حاليًا اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الأمر الذي يرفضه أنصاره داخل مجلس النواب ويعتبرونه خطوة نحو إقصاء الرجل من المشهد العسكري المقبل.
تكييف مع وضع “اللا دولة”
هذا الفشل المتكرّر في المفاوضات ومبادرات السلام لحلّ الأزمة الليبية، لم يجد له صدى وسط عامة الليبيين، ولم يكن له وقع كبير في البلاد التي أنهكتها نار الفوضى ولهيب العنف، ولم يغيّر شيئاً من الأوضاع هناك، إذ أنّ غالبية الليبيين لا يبدو أنهم كانوا يعبؤون بما يحدث أصلا، ولا يولونه أي اهتمام، كأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد.
هذه اللا مبالاة وعدم الاكتراث بنجاح المفاوضات أو فشلها، يفسره عديد المراقبين، بتكيف الليبيين بوضع “اللا دولة”، الذي سبق أن عاشوا فيه خلال حكم نظام العقيد الراحل معمر القذافي الذي سقط في شهر فبراير 2011، إذ لم يعش المجتمع الليبي ظاهرة الدولة في الجزء الأكبر من تاريخه، حيث وجدت في ليبيا تنظيمات صغرى حلتّ محلّ ما يعتبر عادة من وظائف الدولة، وأبرزها الأمن.
الميليشيات المسلّحة تتقاسم السلطة في ليبيا
وتعيش ليبيا الأن على وقع انقسام سياسي كبير، حيث تدار بثلاث حكومات منفصلة، واحدة في الشرق يقودها عبد الله الثني، في حين تدار العاصمة طرابلس بحكومتين هما حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج المدعومة دوليًا، وحكومة الإنقاذ الوطني التي يقودها خليفة الغويل، بعد فشل اتفاق الصخيرات في إحلال السلام في البلاد. هذا الانقسام بين الشرق والغرب وحتى داخل الجهة الواحدة والقبيلة والعشيرة الواحدة، وانتشار السلاح والفوضى في البلاد وعدم وجود بوادر أمل للخروج من الأزمة في الوقت الراهن أو حتى في القريب المتوسّط، كلّها كانت أسباب لتسليم الليبيين بالأمر الواقع وتكييفهم بوضع “اللادولة” الذي تكون فيه الغلبة للقوي، فالكل هنا يعتمد على ذاته في غياب أجهزة ومؤسسات الدولة وسط تنازع السلطة واحكام الميليشيات المسلحة سيطرتها على البلاد ومدخراته الطبيعية والمالية.
القوى الخارجية
إضافة إلى رغبة بعض الأطراف الداخلية في تأزيم الوضع الليبي أكثر ودفعه نحو مزيد من التعقيد، تسعى بعض الأطراف الخارجية أيضا إلى إطالة أمد الازمة هناك والاستفادة منها قدر المستطاع، فالسلام في ليبيا ووجود دولة قوية تبسط سلطتها على كامل البلاد لا يخدم مصالحها وأجنداتها المشبوهة.
الدور المصري
تعتبر القاهرة حسب عديد من المراقبين، العقبة الأبرز أمام حلّ الأزمة الليبية، فقد عرفت دولة مصر منذ تدخلها في ليبيا، عقب الانقلاب على الرئيس محمد مرسي صيف 2013، بدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي لا يعترف بالحكومة الشرعية للبلاد، على حساب باقي الأطراف المكونة للمشهد الليبي، ضمن الاتجاه العام للسلطات المصرية بدعم موجة الثورات المضادة للربيع العربي، في مسعى منها لإجهاض الثورة الليبية ودعم العسكر.
وليس خافيًا على أحد إلحاح خليفة حفتر الذي تتماهى صورته مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فكلاهما وجد شرعيته على تسويق شعار “الكفاح ضد الإرهاب”، فضلًا عن خلفيتهما العسكرية، على ضرورة تدخل الجيش المصري في شرق ليبيا، لضرب معاقل ما أسماها “الجماعات المتشددة”، بحسب إعلان حفتر المستمر، وإن كانت النية الأصلية ضرب الثوار الذين يقفون حجر عثرة أمام المشروع المصري الإماراتي السعودي في إعادة ترتيب المشهد السياسي الليبي، على طريقة إقصاء الإسلام السياسي والثوار.
الدور الإماراتي
منذ تدخّلها في ليبيا، عرفت الإمارات بتغليبها طرف على حساب أخر لتحقيق مصالحها وبسط نفوذها في ليبيا لتقويض كل مساعي رأب الصدع بين أطراف الأزمة الليبية، ما من شأنه تعزيز الانقسام السياسي وتغذية الصراع المسلح في البلاد، ويفهم من هذا الدعم الإماراتي السخي، مالا وعتادا لصالح اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يعرض الحكومة المعترف بها دوليا ويكن لها العداء ولا يعترف بها، وجود رغبة لدى الإماراتيين لبسط نفوذها على شرق ليبيا ومنطقة الهلال النفطي لما لهما من موقع استراتيجي ومستقبل اقتصادي كبير، حسب عديد الخبراء.
توجد رغبة لدى الإماراتيين لبسط نفوذها على شرق ليبيا ومنطقة الهلال النفطي
ورغم المنع الدولي من تقديم الدعم العسكري لأي طرف من أطراف الأزمة في ليبيا، لم تكترث الإمارات بذلك، وكان التقرير السنوي للجنة العقوبات الدولية الخاصة بليبيا قد كشف عن خرق دولة الإمارات وبصورة متكررة نظام العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، من خلال تجاوز حظر التسليح المفروض عليها، وزيادة قدرات قوات حفتر الجوية بصورة كبيرة، الأمر الذي أدى إلى تزايد أعداد الضحايا في النزاع الدائر في ليبيا.
الدور الفرنسي
إلى جانب الدور المصري والإماراتي المشبوه، يبرز أيضا الدور الفرنسي المشبوه أيضا، فرغم ادعائها الوساطة بين الفرقاء الليبيين، عمدت باريس في أحيان كثيرة إلى دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يرفض قبول مشروعية حكومة الوفاق الوطني، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج، الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد.
وفي وقت سابق قال رومان نادال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية: “ليبيا تحتاج لبناء جيش وطني تحت سلطة مدنية بمشاركة كل القوى التي تحارب الإرهاب في أنحاء البلاد بما يشمل قوات الجنرال حفتر”، دون أن يأتي على ذكر السراج، وأضاف “فرنسا ستدرس سبل تعزيز أنشطتها السياسية والأمنية للمساعدة في استعادة المؤسسات الليبية وجيش قادر على هزيمة الإرهابيين من خلال اتصالات بشركائنا الأوروبيين ودول الجوار”.
دور مشبوه لفرنسا في ليبيا
وفي الـ 20 من يوليو 2016، تمّ الكشف عن وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسي سابق نيتها التدخل العسكري المباشر هناك، حيث أعلنت باريس يومها ذلك عندما قال لي فول المتحدث باسم الحكومة الفرنسية: “نستطيع تأكيد وجود قوات خاصة فرنسية في ليبيا”، للمشاركة في محاربة من وصفهم بـ “الإرهابيين”.
وففي التاسع من يوليو/تموز 2016، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، تسجيلات صوتية مُسربة، لمحادثات الخطوط الجوية في بنغازي شرقي ليبيا، كشفت عن دعم عسكري فرنسي وغربي للقوات الموالية لحفتر شرقي البلاد، بوجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك، رغم أن فرنسا تدعم بشكل مُعلن حكومة الوفاق الوطني الليبي، التي كانت من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم غربيًّا وأمميًّا.
الدور الإيطالي
رغم تأكيد الجانب الإيطالي سعيه لإيجاد حل للأزمة الليبية، يؤكّد عديد المتابعين عكس ذلك، فالجانب الإيطالي لا يريد افتكاك دوره هناك من قبل بعض الدول الوافدة، فهو يرى في ليبيا منطقة نفوذ له، فجغرافيًا لا تفصل ليبيا عن إيطاليا إلا أمواج المتوسط، وتاريخيًا كانت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في إفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تنقطع الصلات بين البلدين حتى عندما كانت ليبيا في عزلة جراء العقوبات التي فرضت عليها عام 1992، فقد ظلت شركة “إيني” الإيطالية المستثمر الأساسي في الغاز والنفط الليبي، وكانت روما إحدى بوابات عودة ليبيا للمجتمع الدولي التي بدأت تدريجيًا 2003.
وفي الفترة الأخيرة أرسلت إيطاليا سفن مراقبة إلى المياه الليبية بداعي مكافحة الهجرة غير الشرعية، غير أن عديد المراقبين يرون أن السبب في ذلك يعود إلى سعي إيطاليا إلى استعادة منطق الاستعمار فليبيا مستعمرة قديمة لها، ونيل حصتها من الكعكة الليبية الدسمة، خاصة فيما يتعلق بالنفط باعتبار أن نسبة كبيرة من النفط والغاز الليبيين يتجهان مباشرة نحو روما.
رغم الضغوطات الداخلية والخارجية التي ما فتئت تربك الأوضاع في ليبيا، فإن الأمل مازال موجودا لدى عديد الليبيين في رؤية بلادهم تخرج من وضعيتها المقعّد وأن يعيشوا بسلام فيها، وأن يبنوا دولتهم بالشكل الذي يريدون هم لا الشكل الدي تريده القوى الخارجية.