تُعدّ المراحل الانتقالية للدول مثل الثورات والحروب والانقلابات العسكرية أو غير العسكرية من المراحل التاريخية المهمّة على الأصعدة المختلفة للدولة والفرد والمجتمع ككلّ، نظرًا لما لها من نتائج كبيرة تنصبّ معظمها إنْ لم يكن جميعها في نطاق تغيّر نمط المعيشة نفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا وما إلى ذلك.
وممّا لا شكّ فيه أنّ تلك التغيرات قد تساهم في انتشار بعض الاضطرابات والاختلالات النفسية مثل الاكتئاب الناتج عن أسباب عديدة، وفقدان الأمل والمعنى، وعدم اليقين، وحدوث فجواتٍ كبيرة بين سقف الآمال والتوقعات للأفراد من ناحية وبين واقعهم وتبعياته من ناحية أخرى، وقد جعلت الثورات الدول العربية بيئة ممكنة لكلّ تلك الاضطرابات والاختلالات، بدرجاتٍ متفاوتة ومختلفة.
فشل الثورات العربية فتح بابًا كبيرًا لضعف الثقة بالنفس والمجتمع بين الأفراد، الأمر الذي أدى بهم للكثير من المشاكل النفسية المضاعفة مثل الاكتئاب والقلق المتزايد والمزاج المتقلب وعدم الإيمان بالأفكار والمشاريع والمستقبل
وبالرغم من أنه لا يُمكن اعتبار انتشار الاضطرابات النفسية في الدول العربية أحد مستجدات الثورات نظرًا لارتباطها التاريخيّ القديم بالأوضاع غير المستقرة من صراعات داخلية وسياسات فاشلة والأوضاع الاقتصادية السيئة من انتشار الفقر والبطالة وغيرها الكثير من العوامل، إلا أنّ فشل الثورات العربية فتح بابًا كبيرًا لضعف الثقة بالنفس والمجتمع بين الأفراد، الأمر الذي أدى بهم للكثير من المشاكل النفسية المضاعفة مثل الاكتئاب والقلق المتزايد والمزاج المتقلب وعدم الإيمان بالأفكار والمشاريع والمستقبل، أو حتى التفكير بالانتحار والإقدام عليه.
وبعيدًا عن التجارب الفردية التي قد يكون وقع بها الأشخاص كلٌّ على حدة، من إصابة جسدية أو فقدان قريب أو صديق سواء موتًا أو سجنًا، إلّا أنّ الاضطرابات النفسية بعد الثورات العربية أخذت منحىً جماعيًّا عميقًا، الأمر الذي يُعرف في علم النفس الاجتماعي بمصطلح “العدوى السلوكية” أو “العدوى المجتمعية”، أي انتقال السلوكيات والأفكار والمشاعر والانفعالات من شخص لآخر، نتيجة التفاعل والتأثر الاجتماعي، وقد استعمل غوستاف لوبون المصطلح عام 1895 للدلالة على السلوكات غير المحمودة للأفراد وسط الزحام والمجتمعات.
أهم ما يميز اضطراب ما بعد الصدمة هو الاهتزاز الذي يحدث في فهم الشخص لذاته والعالم من حوله وتكوين مشاعرالعجز لديه والإحساس بعبثية الحياة ولا جدواها بعد الذي حدث
اضطراب ما بعد الصدمة: تجارب شخصية مروّعة
يعدّ هذا الاضطراب واحدًا من أهم الاختلالات النفسية التي انتشرت بشكلٍ واسع في الدول العربية ما بعد الثورات. ووفقًا للجمعية الأمريكية للصحية النفسية فيُعرَّف اضطراب ما بعد الصدمة بأنه ذلك النوع من الاضطراب النفسي الذي يأتي بعد حادث أو عدة حوادث مروّعة أو تهديدات استئنائية، ليس من الضروري أن تكون موجهة للفرد ذاته وإنما يمكن أن يكون موجّهًا لأفراد آخرين في المجتمع المحيط ويكون الفرد شاهدًا عليه أو معاصرًا له.
تظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادة في غضون ثلاثة إلى ستة أشهر بعد الحدث الصادم، وقد لا تظهر في بعض الأحيان إلا بعد سنوات، وأهم ما يميزها هو الاهتزاز الذي يحدث في فهم الشخص لذاته والعالم من حوله وتكوين مشاعرالعجز لديه والإحساس بعبثية الحياة ولا جدواها بعد الذي حدث، خاصة وأنه يستمر في استرجاعه ” Flashbacks” لذكريات الصدمة، سواء في نومه أو يقظته، وكأنها تحدث في اللحظة الحالية.
وقد أدت الأحداث المصاحبة للثورات العربية والناتجة عنها إلى إصابة الكثير من الأفراد بهذا الاضطراب وما يصاحبه من حالات الاكتئاب والتوتر والقلق المزمن والخوف من المستقبل، سواء الذين مرّوا بتجربة فردية خاصة أو أولئك الذين عاينوا الأحداث عن قرب أو بعد.
أنتجت المجتمعات العربيّة أفرادًا مهزومين فاقدي الثقة والأمل بالتغيير، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ويترنّحون بين العبثية واللاجدوى وينظرون لحياتهم على أنها محض فراغ لا طائل منها
فقدان المعنى: موجة من العبثية واللاجدوى
أدى فشل الثورات العربية إلى تعزيز مفهوم الهزيمة والضعف في نفوس الأشخاص، خاصة بعد الهزائم المتتالية التي مرّت على المنطقة خلال العقود القليلة الأخيرة، فلا نبالغ إن قلنا أنّ الأجيال العربية هي أجيال مهزومة تعيش وسط واقع خالٍ من المعنى، ويظنّ بالعبثية واللاجدوى في حياته وكلّ ما يفعله.
ويرجع السبب الرئيسي وراء ذلك إلى أنّ حاضر الأفراد ومجتمعاتهم التي يعيشون فيه تلعب دورًا كبيرًا في الطريقة التي ينظر كلٌّ منهم لنفسه وحياته. وقد أنتجت المجتمعات العربيّة أفرادًا مهزومين فاقدي الثقة والأمل بالتغيير، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، ويترنّحون بين العبثية واللاجدوى وينظرون لحياتهم على أنها محض فراغ لا طائل منها، خاصة بعد الإحباط الناتج عن فشل تلك الثورات الذي عزّز شعورًا كبيرًا بعدم الرضا عن الذات والواقع والحياة الشخصية والمجتمع ككلّ، مصحوبًا باليأس والتشاؤم وغياب المعنى من محاولات الثورة والتغيير، لا سيّما بعد كل تلك الأحداث المأسوية من تضحيات وفقدان وسجن وغربة وغيرها.
موجة الأمل التي حملتها رياح الثورات العربية، ما فتئت أن انطفئت وتحوّلت إلى مشاعر سلبية عديدة مثل الخوف من الحاضر والمستقبل والظلم والإحباط والحرمان والغضب وعدم الثقة بأيّ تحسن للأوضاع وحدوث تغيير لها على كافة النواحي، ما جعل المواطن العربيّ يدخل في دوامة تساؤلات حول جدوى حياته وما فعله من تضحيات وما آمن به من أفكار ثورية.
سقوط الأقنعة وغياب القدوة: تخبّط محكوم بالتشاؤم والقلق
أدى تساقط الأقنعة عن الكثير من الجماعات والشخصيات الثورية التي كانت تؤمن بها أجيال الثورة وترى فيها وسيلةً للتغيير والإصلاح إلى خلق حالة عائمة من التخبط وفقدان القدوة والثقة، خاصة وأنّ تلك الشخصيات قد شكّلت للحظاتٍ ما أملًا كبيرًا للأفراد ورأوا فيهم طريقًا نحو الخروج من الأوضاع الراهنة السيئة، ما خلق مشاعرًا متنوعة من عدم الرضا والقلق والاكتئاب وانتشار ثقافة الكراهية في المجتمعات.
كما ساهمت الاختلالات النفسية المرتبطة بغياب المعنى أو فقدانه إلى ظهور الجماعات المتطرفة، السياسية منها أو الدينينة، والتي تهدف للتخريب أو العنف وللترويج لأفكار أو سلوكيات محددة يغلب عليها النظرات التشاؤمية فيما يتعلق بالفرد والمجتمع، والخروج عن القيم المجتمعية وأفكار التسامح والسلام النفسيين.