“إن اليهود يتمتعون بسلطان لا يصدق في هذا البلد، فلهم امتيازات كثيرة يفوقون فيها جميع الأهالي الأتراك أنفسهم، لأنهم يحاكمون طبقًا لقوانينهم، وقد استقطبوا كل تجارة الإمبراطورية في أيديهم، وذلك بفضل ما يربطهم من وحدة وثيقة… ولكل باشا مساعده اليهودي الذي يدير أعماله… وهم الأطباء والوكلاء والمترجمون لأكابر القوم أجمعين… وكثيرًا منهم ذووا ثراء عريض”. هذا وفقًا لوصف الكاتبة الإنجليزية الليدي ماري ورتلي مونتجيو عام 1717، بحسب كتاب قصة الحضارة.
ظهرت الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر ميلادي كإمارة صغيرة بين الحدود الفاصلة بين الدولتين السلجوقية والبيزنطية، ومن ثم تحولت إلى إمبراطورية عظيمة تحكم في ثلاث قارات لمدة 600 عام، وتتواجد على أراضيها مجتمعات من أصول عرقية ودينية وطائفية وثقافية مختلفة وتوحدها أحكام الشريعة الإسلامية مثل قانون أهل الذمة الذي حكم بين المسلمين وغير المسلمين على الأراضي العثمانية.
قانون أهل الذمة
يقصد بهذا المصطلح أصحاب الديانات الأخرى -المسيحية واليهودية- الذين يعيشون تحت الحكم الإسلامي أو في البلاد ذات الأغلبية المسلمة، والذين يعيشون تحت الحماية الإسلامية ومسؤولية الدولة والمواطن المسلم، وتلزم هذه الاتفاقية على دفع مبلغ من المال “الجزية” للدولة مقابل الحماية وعدم مشاركتهم في الشؤون العسكرية.
والذي تعاملت على أساسه الدولة العثمانية مع غير المسلمين لتحقيق التعايش السلمي وترسيخ مفاهيم احترام الآخر وتقبله ضمن شروط واضحة، مع العلم أنها ضمت الهندوس والبوذيين أيضًا لهذه الفئة.
كما اعترفت الدولة العثمانية بالحقوق والحريات الدينية على مبدأ “لا إكراه في الدين” وضمنت حقهم في ممارسة العبادات وحماية أماكن العبادة الخاصة بهم كالمساجد تمامًا، وهذا وفقًا لما أقرته السلطات العثمانية في قانون “المدينة” من المادة 25 والتي تقول “لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم” وتقصد أن كل جماعة تملك حريتها الدينية الخاصة بها.
اليهود في الدولة العثمانية
بعد عمليات النفي التي تعرض لها اليهود من أوروبا، لجأ اليهود إلى الدولة العثمانية ليكون اللقاء الأول في مدينة بورصة وكانت هذه الجماعات تتكلم اللغة الرومية ويطلق عليهم اسم “الرومانيوت”، أما الجماعات التي هربت من فرنسا فأطلق عليهم اسم “الأشكيناز”، إضافة إلى يهود السفارديم الذين تم نفيهم من إسبانيا عام 1470 واستقبلهم السلطان العثماني بايزيد الثاني إذ كانوا هم الأغلبية في الدولة العثمانية، هذا إلى جانب جماعات أخرى هربوا من أوروبا الشرقية مثل بولندا وأوكرانيا.
بلغ عدد سكان الدولة العثمانية 35 مليونًا و350 ألف نسمة منهم 170 ألف يهودي، وفي عام 1905 كان عدد السكان 20.9 مليون نسمة و 256 ألف منهم هم يهودي الأصل
انتشر اليهود في العديد من المدن مثل سالونيك اليونانية التي كانت تحتوي على أكبر التجمعات اليهودية ومن ثم إسطنبول التي كان عدد سكانها يصل إلى 500 ألف نسمة، وكان عدد اليهود فيها 40 ألفًا وذلك في عهد السلطان سليمان القانوني، إضافة إلى غيرها من المدن العثمانية مثل إزمير وأنقرة وبورصة.
وبصفة عامة، بلغ عدد سكان الدولة العثمانية 35 مليونًا و350 ألف نسمة منهم 170 ألف يهودي، وفي عام 1905 كان عدد السكان 20.9 مليون نسمة و 256 ألف منهم يهودي الأصل، أما في التسعينيات بدأت هذه الأعداد بالانخفاض بسبب فقدان الدولة العثمانية سيطرتها على العديد من الأراضي، إضافة إلى عامل الهجرة، ففي عام 1914 انخفض عدد السكان إلى 18.5 مليون وشكل اليهود 187 ألف.
حقوق اليهود في عهد الدولة العثمانية
في الوقت الذي عانى فيه اليهود من صعوبات المشاركة في مجال العمل والتعليم والسفر والتملك في أوروبا، منحت الدولة العثمانية لهذه الفئة كامل الحريات الدينية والاجتماعية والسياسية.
فلقد كانت الطائفة اليهودية مقسمة حسب العرق أو المدينة، ولكل فئة الكنيسة والمدرسة والحي والمقبرة الخاصة بها، فلم يكن لهم حاخام موحد لرئاستهم، بل كانت كل مجموعة تختار حاخام خاص بها بموافقة من السلطان، كان هذا الحاخام هو المسؤول عن تنظيم مراسمهم الدينية وما يتبعها من احتفالات دينية واجتماعية مثل الزواج والجنازات وغيرها من المناسبات التي تمثل رمزًا دينيًا أو اجتماعيًا لديهم. إلى جانب إدارته للشؤون الشخصية والقانونية والمالية.
كما سمحت لهم الدولة العثمانية بالعمل بالتجارة وفي المجالات المهنية الأخرى، حتى تحسنت ظروفهم المعيشية إلى الحد الذي وصل فيه ثرائهم بإقراض القصر العثماني، وكانت هذه الخطوة الأولى نحو بناء جسر الثقة بين الدولة وبينهم والوصول إلى النفوذ والسلطة السياسية.
ومع ظهور تيار الصهيونية في أوروبا في القرن التاسع عشر بدأت العلاقات بين الدولة العثمانية واليهود بالتوتر، خاصة بسبب حملات الدعم المادي والمعنوي الذي حصل عليها هذا التيار.
هاجر معظم اليهود في تركيا إلى “إسرائيل” بعد تأسيسها عام 1948. وفي الوقت الحاضر يعيش في تركيا نحو 50 ألف يهودي معظمهم منالذين يعملون بالتجارة، وهم موالون للدولة والحكومة.
ورأت هذه المجموعة أن السلطان عبد الحميد الثاني يشكل عائقًا بينها وبين تحقيق هدفها في تأسيس دولة في فلسطين، لذلك قامت بالتعاون مع حركة “الأتراك الشباب” التي كانت أيضًا تهدف إلى التخلص من حكم السلطان عبد الحميد الثاني للوصول إلى غايتها بالمقابل.
فمنذ عام 1908 استطاع حزب الاتحاد والترقي فرض سيطرته على الدولة العثمانية، وكان إحدى أعضاء هذا الحرب ممول ومرشد مصرفي من يهود سالونيك، يدعى إيمانيول كارسوا، وهو الذي أبلغ السلطان عبد الحميد الثاني بقرار خلعه عن العرش، كما كان يعتبر الصديق المقرب من طلعت باشا الذي أمر بتهجير الأرمن.
وسعي اليهود عام 1821، وتزامنًا مع التمرد اليوناني، للحصول على امتيازات أكثر ليكونوا أهم طائفة من غير المسلمين في الدولة والتي كان الأرمن في ذاك الوقت ينافسهم على ذلك بسبب اجتهادهم في إتقان العديد من الحرف المختلفة والتي زادتهم ثراء إلا إن قرار تهجيرهم نزع هذه المكانة من بين أيديهم.
مع إعلان الجمهورية في تركيا اختلف وضع اليهود في البلاد ولم تعد الراحة والحرية هي السمة البارزة في وضعهم المعيشي، خاصة بعد حكم السلطات التي اتبعت سياسة معاداة السامية، إضافة إلى هجرة معظم اليهود في تركيا إلى “إسرائيل” بعد تأسيسها عام 1948. حيث يعيش في الوقت الحاضر في تركيا نحو 30 ألف يهودي معظمهم من الذين يعملون بالتجارة.
وعلى الرغم من الامتيازات التي منحتها الدولة العثمانية للجماعات اليهودية التي لجأت لها في ذلك العصر، يروي التاريخ العثماني أن اليهود والمحافل التابعة لهم كانوا سببًا بارزًا في إضعاف الإمبراطورية العثمانية عام 1909والتي كانت قد بدأت تتداعى لأسباب عدة.