يطّل أبريل/نيسان على السوريين بدفئه معلنًا رحيل الشتاء ومرحبًا بالربيع الذي يشتاقونه، ذي اللمّات على شرفات المنازل والنزهات للحقول والحدائق، باستثناء عشرات العائلات من مدينة خان شيخون في ريف إدلب، إذ تستقبله بغصة الفراق على من فقدوا وذكريات الذين ما زالوا يعانون من آثار الإصابة بهجوم كيميائي نفذّته طائرة حربية تابعة لسلاح الجو السوري صبيحة 4 أبريل/نيسان 2017.
وتعد مذبحة الكيماوي في خان شيخون، والتي تحل اليوم ذكراها السابعة، واحدة من أفظع الجرائم التي ارتكبها النظام السوري وإن لم تكن أكبرها لناحية عدد الضحايا، إذ راح ضحيتها 100 قتيل من المدنيين بينهم 32 طفلًا و23 سيدة ومسنين، فيما تركت أكثر من 400 مصاب يعانون من اضطرابات في الجملة العصبية والجهاز التنفسي حتى اليوم.
يقول عبد الحميد اليوسف، أحد الناجين من المجزرة، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “حتى اليوم، وبعد مرور سبعة أعوام كاملة على ذلك اليوم المشؤوم ما أزال أتذكر في كل يوم كيف توفي أطفالي وأمهم خنقًا أمام عيوني”، ويضيف “الأصعب من تلك المشاهد، كان عدم قدرتي كأب على إنقاذ العائلة المسؤول عنها، كنت أختنق وعاجزًا بشكل تام عن فعل أي شيء”.
وبتفاصيل دقيقة كأنها اللحظة، يروي أحمد اليوسف وهو ناجٍ آخر كيف استفاق على صوت انفجار هائل في الحي الذي يسكنه، معتقدًا خلال اللحظات الأولى أنه قصف جوي بالذخائر الحارقة أو الفراغية كما اعتادوا، ليدفع بأفراد أسرته إلى قبو المبنى الذي يستخدمونه كملجأ في مثل هذه الحالات، تحسبًا من تكرار الهجوم.
مرّت عشرون دقيقة قبل أن تنتشر الغازات المسمومة في الحي، وكونها أثقل من الهواء تغلغلت إلى الأقبية والطوابق السفلية من المباني ليدركوا بعد أن بدأت تظهر علامات ضيق التنفس والاختناق على أفراد الأسرة جميعًا.
حسب شهادة أحمد الذي انقطعت ذاكرته عندما أغمي عليه وهو يحاول الخروج من الملجأ ليستفسر عما حصل، فقد توفي 10 أشخاص من أفراد عائلته، بينهم شقيقته البالغة من العمر 10 سنوات والتي توفيت بعد أقل من 24 ساعة من الهجوم في ذات المشفى الذي أسعفوا إليه.
ويعد الشاب الذي عاصر سنوات الحرب في سوريا منذ بدايتها، أن السبب وراء زيادة أعداد الضحايا والمصابين كان تفكيرهم المماثل بأنها غارة جوية بقنابل تقليدية ونزولهم للملاجئ التي سرعان ما تلوث الهواء فيها بالغاز السام، حسب قوله لـ”نون بوست”.
لم يسلم من الإصابة حتى من وصل بعد وقوع الغارة، كما حصل مع الناشط الإعلامي عبد الرؤوف قنطار الذي تلقى نبأ الغارة لحظة وقوعها عبر جهاز لاسلكي وتوجه ليوثق بعدسته اللحظات الأولى لآثار الهجوم.
ويروي قنطار لـ”نون بوست” عن وصوله للموقع والتقاط الصور والمقاطع المرئية لمئات الجثث والمصابين ممن يلفظون أنفاسهم وقد بدأ الزبد بالخروج من أفواههم وأنوفهم ومحاولات فرق منظمة الخوذ البيضاء والمتطوعين من المدنيين لإخلاء المنطقة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الضحايا.
وأضاف قنطار “لم أدرك أنني استنشقت الغازات السامة في بادئ الأمر، ولم ألحظ وجود أي روائح مثيرة للريبة في الموقع إلا بعد مغادرتي المنطقة باتجاه أحد المستشفيات لإتمام تغطيتي الخبرية، عندها بدأت أشعر بضيق في الصدر وصعوبة في التنفس ترافقت مع ضعف الرؤية”.
لحسن حظ قنطار أن الأعراض ظهرت عليه وهو في المستشفى حيث تلقى الإسعافات الأولية ونقل بسيارة إسعاف مزودة بمنفسة إلى الجارة تركيا التي بقي في مستشفياتها ثلاثة أيام قبل أن تستقر حالته الصحية.
ويعاني الناشط الإعلامي من صعوبة في التنفس حتى اليوم، خصيصًا عند إصابته بالإنفلونزا ونزلات البرد في كل شتاء، كما ترافقه حالة من الهلع عند وصوله لتوثيق الهجمات ضد المدنيين وتعيد إلى ذاكرته ما شاهده في خان شيخون ذاك اليوم.
يتفق الناجون من الهجوم الكيميائي في خان شيخون ممن التقى بهم مراسل “نون ببوست” على مطلب أساسي واحد يتمثل في محاسبة منفذي الهجوم بدءًا من رئيس النظام السوري بصفته القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وصولًا لكل شخص مرّ عليه ترتيب الهجوم، بينما يأمل البعض أن يعلو صوت العدالة في القريب العاجل.
وتداولت مصادر محلية وحسابات لنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أواخر العام 2019 عقب سيطرة قوات النظام السوري على مدينة خان شيخون عسكريًا، صورًا تظهر البدء بإعادة ترميم الطريق وإزالة الأنقاض في الحي الشمالي من المدينة وهو موقع سقوط القنبلة الكيميائية، الأمر الذي اعتبره حقوقيون حينها محاولات لطمس آثار الهجوم وعرقلة لمسار تحقيق منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
وأكّد سليم نمور رئيس رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية أنهم وثقوا شهادات مئات الناجين وشهود العيان التي أكدت تنفيذ الهجوم من طائرة مقاتلة تتبع لسلاح جو جيش النظام السوري، وتسخير تلك الشهادات في مناصرة قضية الضحايا مع المنظمات الحقوقية المحلية والدولية والأممية.
رغم عدم قدرة بعثة تقصي الحقائق على زيارة خان شيخون، فإن الانتشار السريع في تركيا، مكّن الفريق من حضور عمليات تشريح الجثث، وجمع العينات الطبية الحيوية من الإصابات والوفيات، وأخذ إفادات الشهود
وأضاف نمور أن “الولاية القضائية المتاحة في بعض الدول الأوروبية أصدرت عدة مذكرات توقيف بحق رأس النظام السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر وضباط عسكريين وأمنيين آخرين متورطين بالتخطيط وتنفيذ الهجمات الكيميائية”، لافتًا إلى عدم محدودية تلك الإجراءات والتي ستسهم في نهاية المطاف بتحقيق العدالة لضحايا هذا النوع من الهجمات.
وتواظب رابطة ضحايا الأسلحة الكيميائية على مطالبة المجتمع الدولي والهيئات والمنظات التابعة للأمم المتحدة في العديد من المناسبات وبوسائل مختلفة بمحاسبة المتورطين في الهجمات الكيميائية ضد المدنيين، وفقًا لنمور.
وأصدرت بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية تقريرها الأول عن الحادثة في يونيو/حزيران 2017، أي عقب شهرين من الهجوم، أكدت خلاله أن المصابين في خان شيخون تعرضوا لغاز السارين وهو غاز مصنّف على لائحة الأسلحة الكيميائية المحظورة.
ورغم عدم قدرة بعثة تقصي الحقائق على زيارة خان شيخون، فإن الانتشار السريع في تركيا، مكّن الفريق من حضور عمليات تشريح الجثث، وجمع العينات الطبية الحيوية من الإصابات والوفيات، وأخذ إفادات الشهود، وتلقي العينات البيئية، والتي أفضت لخلاصة التقرير، دون الإشارة إلى الجهة المسؤولة عن الهجوم.
من جانبها، حمّلت هيئة الأمم المتحدة في تقريرها النهائي الذي أصدرته يوم 26 أكتوبر/ تشرين 2017، النظام السوري رسميًا المسؤولية، وورد في التقرير: “إنَّ لجنة التحقيق واثقة من أنّ الجمهورية العربية السورية مسؤولة عن إطلاق (غاز) السارين على خان شيخون في 4 نيسان/أبريل 2017”.
وكانت مؤسسات الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) والجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS) ومركز توثيق الانتهاكات الكيميائية في سوريا قد وثقت في وقت سابق بيانًا بشأن التحقيقات المنجزة مع بعثة تفصيل الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بشأن استهداف مدينة خان شيخون بريف إدلب بغاز السارين في 4 أبريل/نيسان 2017.
ورغم عدم صدور بيان نهائي بخلاصة تحقيقات بعثة تقصي الحقائق والجهات المشاركة معها، فإنّ غالبية الشهود أشاروا إلى ضلوع النظام السوري فيه بشكل مباشر، خصيصًا أنّ قواته والقوات الروسية المتحالفة معه فقط من يملكون مطارات عسكرية وطائرات حربية في سوريا.