يعاني قطاع التعليم في مناطق شمالي سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، أزمة كبيرة بسبب غياب الدعم للمدارس، ما تسبّب في تسرُّب مئات آلاف الطلاب وانتشار مئات المدارس الخاصة.
تتقاضى هذه المدارس أجرًا شهريًّا عن كل طالب ما بين 25 و50 دولارًا، وهو مبلغ لا تستطيع دفعه معظم العوائل في مناطق الشمال السوري بسبب الفقر.
وكشف فريق منسقو استجابة سوريا، والذي يُعنى بجمع الإحصائيات وتوثيق تبعات الكارثة الإنسانية شمال سوريا، أن أكثر من 2.2 مليون طفل في عموم البلاد يعانون من التسرُّب التعليمي، بينهم أكثر من 340 ألف طفل في شمال غرب سوريا و80 ألفًا داخل المخيمات.
عمالة الأطفال
ذكر الفريق أيضًا أن التسرُّب من التعليم كان نتيجة عوامل مختلفة أبرزها عمالة الأطفال الناجمة عن ارتفاع التكلفة المعيشية، وعدم قدرة الأهالي على تأمين مستلزمات الطفل التعليمية. ولفت الفريق إلى أنه من أسباب التسرُّب حالات الزواج المبكر، وبُعد المنشآت التعليمية عن مناطق السكن وغيرها من الأسباب.
وبحسب الفريق، دمّرت هجمات النظام السوري وروسيا مئات المدارس وإخراجها عن الخدمة، حيث بلغ عدد المدارس المدمَّرة والتي أُخرجت عن الخدمة أكثر من 870 مدرسة، بينها 227 منشأة تعليمية في شمال غرب سوريا، خلال السنوات الثلاثة الأخيرة.
وتعاني أكثر من 80 مدرسة في شمال غرب سوريا من الاستخدام الخارج عن العملية التعليمية، وإشغال تلك المدارس في مهمات غير مخصصة لها.
توقُّف الدعم
لا تحتوي مخيمات النازحين التي تضمّ أكثر من مليوني نازح، على نقاط تعليمية أو مدارس، حيث يضطر الأطفال إلى قطع مسافات طويلة ضمن الظروف الجوية المختلفة للحصول على التعليم.
نبراس العبد الله، وهو طالب في المرحلة الإعدادية، كان يدرس في إحدى مدارس مخيمات منطقة الدانا شمال سوريا، لكنه ترك الدراسة بعد توقف الدعم عن المدرسة، وعدم قدرة المعلمين على العمل دون راتب شهري.
يقول نبراس في حديث لـ”نون بوست”، إن المدارس معظمها أصبحت بلا دعم إلا بنسبة قليلة، وهي المرحلة الابتدائية المدعومة من إحدى المنظمات الدولية، لذلك أصبحت نسبة التسرُّب أكثر من أي وقت.
وأضاف في حديثه أنه بدأ يتعلم مهنة الحلاقة عند أحد الحلاقين، لكي يساعد أهله في المصروف، في ظل عدم قدرة والده على وضعه في مدرسة خاصة بسبب سوء وضعهم المادي.
استهداف المعلمين
لقيَ أكثر من 55 معلمًا حتفهم خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، نتيجة الهجمات العسكرية من قبل الجهات المختلفة، عدا عن هجرة مئات المعلمين.
كما تحوّل قسم من المدرّسين إلى أعمال أخرى نتيجة انقطاع دعم العملية التعليمية، حيث تعاني أكثر من 45% من المدارس من انقطاع الدعم عنها. وبحسب فريق الاستجابة، فقد بلغت نسبة الاستجابة لقطاع التعليم 29% فقط خلال العام الماضي 2023.
معاناة مادية
محمد الحمدو، وهو والد أحد الطلاب الذين تركوا المدرسة، ويعيش في مخيم الضياء في منطقة سرمدا شمال سوريا، يؤكد أن مستقبل الطلاب شمال سوريا في خطر، لأن هناك جيلًا ينشأ بلا تعليم بسبب عدم توفر الدعم لهذا القطاع.
وأضاف أن المدرّس في أحسن الأحوال، وفي حال وجود دعم، لا يتجاوز راتبه الـ 150 دولارًا، لذلك معظم المدرّسين يعانون ماديًّا، وبالتالي الكثير منهم تركوا المدارس وبدأوا العمل في مهن أخرى ليعيلوا عوائلهم.
وأشار في حديث لـ”نون بوست” إلى أنه فضّل إرسال ابنه إلى العمل بدل بقائه من دون دروس في المدرسة، حيث خلال الفترة الأخيرة لم يكن هناك معلمون في المدرسة، بسبب عدم وجود رواتب لعدة أشهر.
خصخصة التعليم
يقول معلمو شمال سوريا إن التوجُّه في الوقت الحالي إلى خصخصة التعليم، أي التحول إلى القطاع الخاص، بزيادة قدرها 24% عن العام الماضي، وهذا الأمر يعتبَر خطيرًا في ظل انتشار البطالة والفقر، حيث سيتمكن فقط أبناء الأغنياء من الدراسة.
وأكد آخرون أن انتشار المدراس الخاصة زاد من نسب التسرُّب وحرمان آلاف الطلاب من التعليم، كما تشهد المدارس العامة ازدحامات هائلة ضمن الصفوف المدرسية، وصلت إلى نسبة 44% كمتوسطة الازدحام و23% كمزدحمة جدًّا.
يؤكد عبد الله العيدو، وهو أستاذ مدرسة، أن رواتب المعلمين لا تساوي ربع راتب أي موظف في المنظمات العاملة شمال سوريا، بالإضافة إلى أنه يعمل في السنة 7 أشهر فقط، وباقي الأشهر يبقى عاطلًا عن العمل في حال كان هناك دخل.
تدخُّل دولي
أشار العبدو في حديث لـ”نون بوست” إلى أن ملف التعليم شمال سوريا بحاجة إلى تدخل دولي لإنقاذ مستقبل جيل مهدَّد في الضياع، لأن الدعم يتجه إلى ملفات أقل أهمية بكثير من التعليم، والذي يجب أن يكون على سُلَّم أولويات المنظمات العاملة.
تبلغ نسبة التسرُّب المدرسي والتوجه إلى العمل طفلَين من كل 5 أطفال، وسط توقعات بارتفاعها خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، بسبب المصاعب المستمرة بحسب فريق الاستجابة.
يعود تفاقم عمالة الأطفال إلى عدة أسباب، أبرزها الوضع الاقتصادي الذي يدفع الأهالي إلى زجّ أبنائهم في سوق العمل، كذلك تواصُل النزوح والتهجير اللذان يزيدان من صعوبة تأمين مستلزمات الأطفال.
ويؤكد خالد غريب، وهو مسؤول تعليمي في شمال سوريا، أن المنظمة التي يعمل بها كانت تكفل 40 مدرسة شمال سوريا، لكن قبل أسابيع أعلنت عن توقفها عن العمل وتسريح الموظفين والقائمين على المدارس، ما تسبّب في وقف التعليم عن أكثر من 35 ألف طفل.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أن المنظمات تحمل على عاتقها جزءًا يسيرًا من ملف التعليم، بالإضافة إلى مديرية التربية شمال سوريا، لكن كل ذلك لا يغطي أكثر من 35% من الحاجة لأعدادٍ ضخمة من الطلاب.
قد لا تظهر تبعات هذه الأزمة المتفاقمة في الوقت الحالي، لكن انعكاساتها على العوائل في شمال سوريا ستكون وخيمة على المدى المتوسط والبعيد، تحديدًا من الناحية الاجتماعية، إذ لا يمكن أن ننتظر مستقبلًا أفضل أو أكثر أمانًا من الحاضر عندما يكون الشارع أو سوق العمل أولى البيئات الحاضنة للأطفال والمراهقين الباحثين عن العمل.