“كل الأشياء تندثر ولا يبقى منها إلا الأسماء “بهذه الجملة وعلى لسان الراهب “ويليام” ينهي أمبيرتو إيكو واحدة من أبرز روايات القرن العشرين، “اسم الوردة” .
أمبيرتو إيكو أستاذ جامعي وفليسوف إيطالي من مواليد عام 1932 وحاصل على الدكتوراة في الفلسفة عام 4195، ناقد أدبي وروائي وباحث في تاريخ العصور الوسطى وأستاذ في علم السيميوتكس وهو علم يبحث في الدلالات والرموز والتأويل وتفسير الواقع الذهني والمادي والمعنوي لفهم الدلالات .
أمبيرتو إيكو
صدرت “اسم الوردة” عام 1980 بعد سنوات طويلة من الدراسة والعمل على الفلسفة والتاريخ والتعمق بهما، كتب إيكو روايته الأولى “اسم الوردة” التي امتزجت فيها الفلسفة بالتاريخ بالأدب في توليفة واحدة متقنة، أخرجت لنا تحفته الأدبية تلك .
تدور أحداث الرواية في عام 1327 في العصور الوسطى، الوقت الذي بلغت فيه الصراعات السلطوية والكنسية ذروتها، فالطوائف المسيحية في حالة اقتتال للوصول لمقعد البابا، والبابا يحارب من أجل استمرار سيطرته على الإقطاعيات التي يحكمها بشكل مباشر سواء أراضٍ أو مدن، والصراعات بين أمراء المدن الإيطالية أو بينهم وبين أمراء البلاد الأخرى وملوكها كألمانيا وفرنسا وإيطاليا .
أيضًا العصر الذهبي لمحاكم التفتيش التي كان باستطاعتها القضاء على الآلاف بتهم الزندقة فقط بمجرد الشك فيهم ودون أدلة محددة، في خضم كل تلك الأحداث يُرتب اجتماع في الدير بين ممثلي الطوائف الأخرى من الرهبان وممثلي البابا من أجل إجراء اجتماع تتضمنه مناظرة .
تبدأ الرواية بوصول الراهب ويليام باسكرفيل وتلميذه أدزو (راوي أحداث الرواية)، لدير على الأطراف الشمالية لإيطاليا، فقد حدثت للتو جريمة قتل غامضة يتوقف لديها الجميع، ويعلم بأمرها ويليام ويحاول فك لغزها، الراهب ويليام والضيف على الدير في تلك الأحداث رجل حاد الذكاء، سريع البديهة، ومحقق سابق بمحاكم التفتيش، اضطر للتخلي عن منصبه بعدما رأى كيف أن المحكمة توجه اتهامات بالهرطقة حتى طالته نفسه وهو بريء .
تخطيط متخيل للدير
تتسارع الأحداث والجريمة تتحول لسلسة جرائم، والسبعة أيام التي يقضيها ويليام في الدير – وهي المدة التي تدور فيها أحداث الرواية – تتحول لأيام من الألغاز التي لا يمكن حلها، يقول ويليام لتلميذه: “أين حكمتي؟ لقد تصرفت كما يتصرف رجل عنيد متبعًا شبح النظام، بينما كان ينبغي أن أعرف أنه لا يوجد نظام”، في عبارة تختزل الكثير من الأمور التي كانت في غير محلها والأحداث غير المنطقية في فك اللغز المعقد .
مع تتبع سير الأحداث وجرائم القتل المتسلسلة يبدو الأمر وكأنه نبوءة تتحقق، كل ما يحدث عبارة عن آيات –من سفر يوحنا – متتالية في العهد القديم تثبت نفسها بنفسها مع اكتشاف جثة كل راهب ميت، الدير في وصف الراوي ليس أكثر الأماكن إيمانًا، يضج المكان بالفواحش والرذائل أكثر مما يملأه الإيمان، الدير وإن كان يبدو صامتًا هادئًا إلا أن للنظرات المترقبة ضجيجًا عاليًا لا ينافسه إلا صخب الهمس والهمهمات في الأروقة تتساءل عما سيحدث تاليًا، وعن مَن؟ ومتى؟ ولماذا؟
لا إجابات
تلك الرواية ليست من الروايات الاعتيادية التي تقدم للقارئ كل شيء بسهولة، لا.. إنها تتطلب منك كل التركيز والذكاء والاهتمام من أجل أن تفهمها وتستوعب أحداثها وتفاصيلها، النقاشات بين الرهبان والمحادثات بين ويليام وإدسو والربط بين محاورها كمحور الجريمة ومحور نقاشات الرهبان اللاهوتية، ربما تحتاج أيضًا لدفتر وأقلام لتسجيل الأسماء وطرقات الدير ومتاهات المكتبة من أجل مساعدتك على التخيل والاستنتاج .
يذكر أن ناشر الرواية طلب من إيكو حذف الـ100 صفحة الأولى كاملة بسبب إسهابها الشديد، لكنه رفض معللاً ذلك برغبته في اختبار ذكاء القارئ وقدرته على التحليل .
عن دوافعه وراء كتابة روايته يقول إيكو: “كان لدي الرغبة في تسميم راهب“، أبدى الناشر رغبته في رواية بوليسية، لكن الرواية البوليسية رواية تعتمد على تحقيقات بينما رواية أمبيرتو تعتمد على دلالات وهذا ما يجعله سعيدًا بما أنجزه، المناظرة بين الرهبان كان أساسها الحديث عن وضعية الكنيسة، هل من الصحيح أن تبلغ أملاكها كأملاك الملوك والأباطرة؟ وهل يحق لرجال الدين اكتناز الأموال وصرفها ببذخ؟ أم أن على الكنيسة أن تكون فقيرة كما بدأت؟
يقول: “ولكن القضية ليست إن كان المسيح فقيرًا ولكن إن كان يجب أن تكون الكنيسة فقيرة”، يتخلل الرواية الكثير من التساؤلات الأخرى للعديد من النقائض كالخير والشر، النضج والبلاهة، التسامح والتعصب، ما هو عملي وما هو نظري، تباين الشخصيات الذي يجعل من كل حوار موضوعًا قائمًا بذاته وركنًا بارزًا من أركان الرواية .
المكتبة
ربما تكون المكتبة إحدى الدلالات التي يشير لها اسم “الوردة“، مكتبة الدير الغامضة والمغلقة دائمًا بأمر كبير الرهبان، تثير فضول ويليام، يحاول مرة والأخرى ثم ينجح في دخولها، المكتبة ليست إلا متاهة صممت بعناية واحتراف شديدين، لا يدخلها ويخرج منها إلا من يعرفها جيدًا، يتولاها أمينها، يحضر الكتب منها بنفسه وبعد موافقة كبير الرهبان، وهي مغلقة في وجه الزوار والعُباد في الدير على حد سواء.
خلال الرواية وتتابع الأحداث يستشف القارئ لم أخذت المكتبة هذا الحيز والتركيز في العرض ومجريات الأحداث، فالمكتبة تحمل في قلبها اللغز وأداة الجريمة، تحمل داخلها ما لم يود كبير الرهبان أن يكتشفه غيره أو يعرفه ليكون مصير كل من ينال “المعرفة” الموت ودفن معرفته معه، تخبئ المكتبة الحقيقة وتحملها في ذاتها لأن بطل الرواية الفعلي “كتاب” .
يقول الراهب الفرينسيسكاني: “أعرف أن ديركم يعد نور المعرفة الوحيد الذي تقدر المسيحية أن تضاهي به مكتبات بغداد الـ36 و10 آلاف مخطوطة التي يملكها الوزير ابن علقمي، وكتبكم المقدسة تعادل 2400 مصحف الذي تتباها بهم القاهرة وحقيقة خزائنكم هي البرهان الساطع ضد الكافرين .”
تخطيط متخيل للمكتبة
العرب
تعرض أمبيرتو في روايته للحديث عن عصر النهضة لدى المسلمين والذي تجلى بشدة في العصور الوسطى، فذكر في مواضع متعددة كتاب تقويم الصحة لأبي القاسم البلداشي والحسن المختار لابن بطلان، وحتى حين ذكر ابن سينا قال عنه: “ابن سينا العظيم”، وكتاب الخوارزمي وكتاب علم البصريات ومكتبة طرابلس الغنية بـ6 ملايين مجلد، وموطن السر كتاب أرسطو “الكوميديا” نُقل لهم عن طريق المسلمين من نسخة وصلتهم من العرب وتحوي مخطوطًا عربيًا .
يقول ويليام ملاحظته عن وجود قرآن بالمكتبة: “من الزخرفة يبدو أنه قرآن، ولكن للأسف لا أعرف العربية”.
كان أحد شروط التحاق النساخين بالمكتبة، أن يكون الناسخ على معرفة واسعة باللغة العربية لما لها من إنتاج ثري تميز به المسلمون، لم يصفهم العرب حسب عرقهم ولا حسب دينهم، بل وصفهم بما يعتقده من خلال نصوصه المقدسة “الكفار“، من لا يدين بالمسيحية، فهو كافر.
ما الوردة؟
حين شرع إيكو في كتابة تلك الرواية ذات السمت البوليسي، كان يتحتم عليه اختيار اسم لها، يقول: “بداية كنت سأطلق عليها دير الجريمة، لكن وجدته عنوانًا مستهلكًا ومباشرًا”، فقرر أن يجعل عنوانها محايدًا ذا عدة دلالات.
أحد أبيات الشعر في القرن الثاني عشر يقول: “الأشياء الصغيرة هي التي تنجح ، كانت الورقة اسم ونحن لا نملك إلا الأسماء”، فالاسم هو ما يستمر بعد انتهاء الأشياء واندثارها، البعض يذهب إلى أن الوردة هي المكتبة، فلفائف الوردة عادة تشبه المتاهة، وكذا المكتبة، ما يميزها أنها متاهة .
صورة المكتبة من الفيلم
والبعض يذهب للأسطورة القديمة التي تحكي عن يوم وحيد من أيام العام يُفتح فيه الباب بين عالمي الأحياء والأموات، يذهب الأحياء ليلتقوا بمحبيهم وأهلهم ويعودون شريطة ألا يأخذ أحد منهم أي شيء من عالم الأموات، في مرة وبتصرف أهوج أخذ بشري وردة معه، فأُغلق الباب للأبد ولم يُفتح ثانية .
كما أن الاسم لا اتفاق عليه، أحداث الرواية كلها تقريبًا تخضع للعديد من التأويلات، ولا حدث واحد متفق عليه، الأمر كله خاضع للخبرات ووجهات النظر التي يتمتع بها القرّاء .
ويليام: “إن حياة العامة لا يضيئها نور المعرفة، ولا يقودها إدراك الفارق الذي يجعل منا نحن عقلاء ويرهقها هاجس المرض والفقر الذي يجيد التعبير عن طريق الجهل، غالبًا ما يكون الانتماء بالنسبة للكثير منهم وسيلة فقط مثل غيرها للتعبير عن اليأس“
تحولت الرواية لفيلم في العام 1986 من بطولة جون كونري وكريستين سلاتر، الفيلم بث الروح في كلمات الرواية فحولها لواقع ملموس، ورغم جودة الإخراج، فإنه اختزل الكثير من التفاصيل التي أسهب في عرضها إيكو، لذلك تبقى الرواية متألقة في أسلوب عرضها وسخائها.
بعد ثلاث سنوات من تأليف الرواية وانتشارها ونجاحها، أصدر إيكو كتابه “تأملات في اسم الوردة” تكلم فيه عن ظروف العمل والأفكار التي كانت في ذهنه والصعوبات التي واجهها في كتابتها، وما لفت انتباهه من كلام القرّاء والنقاد عنها .
لقطة من فيلم اسم الوردة في الحوار الذي دار بين رئيس الدير وويليام عن الكتاب المسموم
– الراهب يورك: أنت ذكي جدًا بما فيه الكفاية، تستحق تلك الهدية، خذ الكتاب.
– ويليام: أنت لا تعلم أنني ارتدي القفازات، لقد كشفت السم في الكتاب .
لمشاهدة ترايلر الفيلم من هنا