بترايوس يتحدث ويجيب:
– والحرب ضد الدولة الإسلامية تشارف على نهايتها، ماذا الذي يمكن أن نتوقعه بخصوص العراق وسوريا؟
هذا أمر بالغ الدلالة على نجاح استراتيجيتنا التي انطلقت مع الإدارة السابقة وتسارعت مع الإدارة الحاليّة، لكن المعركة التي تأتي بعد المعركةِ هي ما يهم أكثر، في العراق هذه معركة من أجل السلطة والموارد، فمستقبل العراق، صراحة، سيكون في جانب كبير منه مرهونًا بمدى قدرة رئيس الوزراء حيدر العبادي على نهج سياسة تحتوي جميع الأطراف دون إقصاء، لضمان أن المجتمع السني العربي – الذي أحس بالعزلة بل والاضطهاد من جهة رئيس الوزراء السابق – قد عاد إلى نسيج المجتمع العراقي.
في سوريا، لا بد من ترسيخ خطوط لوقف إطلاق النار، توفير المساعدات الإنسانية، تأسيس قوات الأمن المحلية، وسلطة محلية، ومع الوقت سوف يتم تحديد خطوة إلى الأمام في سبيل سوريا ككتلة واحدة أو ربما سوريا كمجموعة من الكيانات.
– ماذا يمكن أن نشهد في عام 2018 بخصوص إيران والاتفاق النووي؟
علينا أن نتريث لنرى ماذا سيحدث في عام 2017 أولاً، لأن الكونغرس عليه الآن أن يتخذ قرارًا في غضون60 يومًا بعد أن اختار الرئيس عدم إجازة الاتفاق (الرئيس عليه أن يصادق على أن إيران لم تخل ببنود الاتفاق كل90 يومًا، وكان ترامب قد صادق على الاتفاق على مضض مرتين في أبريل ثم يوليو)، سيتعين اتخاذ قرار عما إذا كان سيتم تعديل أو تغيير هذا القانون (الاتفاق)، وكذلك المبادرة التي سوف يطرحها الكونغرس بخصوص التشريعات التي سيفرضها كعقوبات على إيران بالنسبة لبرنامجها الصاروخي وأنشطتها العدائية في المنطقة، وتصرفات أخرى تثير قلق الولايات المتحدة، هذه الإجراءات ستجعلنا نتوقع إلى حد كبير ما ستسفر عنه السنة القادمة من أحداث.
كان هذا مقطعًا من حوار نشرته مجلة بلومبرغ بيزنس ويك مطلع الشهر الحاليّ، وكان المُحاوَر هو الجنرال المتقاعد ومدير وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق دافيد بترايوس، في هذا الحوار الذي وضع فيه ثعلب الحروب النقط على الحروف بالنسبة لسياسة بلاده المستقبلية بشأن قضايا ساخنة وملفات بعينها، تطرق فيه إلى أمور أخرى مثل الملف الكوري الشمالي وتعزيز القوات الأمريكية في النيجر وإمكانية انضمامه إلى الإدارة الأمريكية، لكن ما يهمنا هنا أمرين: مستقبل سوريا والبرنامج النووي الإيراني.
بترايوس ليس بالشخص الذي يلقي الكلام على عواهنه، كما أن موقعه ومكانته في الولايات المتحدة والمناصب الرفيعة التي تقلدها تجعل لتصريحاته عمقًا ومصداقية، لا بد أيضًا أن نلاحظ أن كلامه ينبغي أن يقع إلى محله في سياق الأحداث والتطورات الحاليّة في الشرق الأوسط.
الإدارة الأمريكية بدأت إن لم تكن انتهت من وضع تصور لسوريا الجديدة، سوريا الكيانات والدويلات العرقية والطائفية
فعندما يتحدث عن العراق فهو يؤكد على ضرورة استقلالية القرار السياسي وقدرة العبادي على احتواء جميع الطوائف العراقية وبالخصوص السنة العرب الذين يشعرون كما قال بالعزلة والاضطهاد، وهو هنا يلمح إلى التدخل الإيراني في العراق وسيطرتها على السياسيين والحياة السياسية العراقية، يمهد هنا لمحاولة إعادة الاعتبار للعرب السنة الذين همشتهم الإدارتان الأمريكيتان السابقتان سواء في عهد بوش الابن أو أوباما، لكن لماذا هذا الاهتمام بالعرب السنة في هذا الوقت بالتحديد؟
سوريا أم سورْيَات؟
نجد الجواب هناك في بلاد الشام، وربما تكون هذه المرة الأولى التي يصرح فيها مسؤول أمريكي رفيع المستوى بقبول مبدأ بلقنة سوريا وتقسيم الشعب السوري على غرار ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية من خلق ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وبناء جدار برلين للفصل بين أبناء الوطن الواحد، فهو يقول بكل براغماتية: “ومع الوقت سوف يتم تحديد خطوة إلى الأمام في سبيل سوريا ككتلة واحدة أو ربما سوريا كمجموعة من الكيانات”.
واضح من هذا التصريح أن الإدارة الأمريكية بدأت إن لم تكن انتهت من وضع تصور لسوريا الجديدة، سوريا الكيانات والدويلات العرقية والطائفية، لنَقُلْ “سوريات” مبلقنة أو “مُبَرْلَنَة”، ويبدو واضحًا أن عودة سوريا إلى سابق عهدها كدولة موحدة في حدودها الوطنية المعروفة، لم يعد أمرًا واقعيًا إن لم يكن مستحيلاً بعد تأمين الروس للأراضي التي توجد تحت سيادة نظام الأسد.
لذلك ترى الولايات المتحدة أن دويلات تسيطر عليها خير من المضي في مهمة مستحيلة قائمة على خروج الأسد من اللعبة كأساس للمفاوضات، فليس بعيدًا أن نشاهد سيناريو أشبه بجدار برلين في سوريا، دولة الأسد في المعسكر الشرقي يدعمها الروس إلى جانب إيران، ودويلات أمراء الحرب من الثوار والأكراد والتنظيمات المسلحة في المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، تبدو قسمة مرضية كفيلة بتجنب صدام حاد بين الأمريكيين والروس، ولم يبق سوى تصفية إرث تنظيم الدولة الإسلامية والصراع بشأن الأرضي التي انسحب منها.
وكيفما دار الأمر فالولايات المتحدة لم تخسر شيئًا رغم تزايد النفوذ الروسي في سوريا، لأنها قبل الحرب الأهلية لم تكن تملك شيئًا في سوريا، وها هي اليوم تتحكم في جزء مهم من الأراضي السورية من الشمال إلى الجنوب.
سيطرة الولايات المتحدة على أراض في سوريا سيمكنها من إنشاء قواعد عسكرية على مرمى حجر من لبنان إن لم تكن فعلاً قد بدأت في إنشائها، وهذا أمر سيشكل تهديدًا مباشرًا لحزب الله اللبناني
في العراق تحملت الولايات المتحدة وحدها تبعات سقوط صدام، وتكبدت خسائر جسيمة في الأرواح، في سوريا كفاها السوريون ومن انضم إلى الحرب الأهلية من شباب العرب الضائع في عوالم الحوريات المفتون بالسلاح والنكاح، مهمة إسقاط النظام، على الأقل في أجزاء كبيرة من الوطن السوري، وقدموها لها لقمة سائغة بعد أن تكبد العرب متطوعين كعادتهم خسائر مهولة في الأرواح والأموال، ونزح ملايين اللاجئين إلى خارج البلاد، صحيح أن المناطق الغنية بالنفط والغاز تبقى في حمى الروس والنظام السوري، لكن ذلك لا ينفي أن الأمريكيين حققوا نصرًا مبينًا دون أن تنزف منهم قطرة دم، وبلغوا من سوريا ما بلغه العطشان الذي وقع على إبريق، لأنهم ما زالوا يَرَوْن أن بعض العرب مزَوّدون بأذناب.
حزب الله بين فكي كماشة.. و”إسرائيل”: يد الله مع الجماعة
ما ينبغي التنبه إليه أن سيطرة الولايات المتحدة على أراضٍ في سوريا سيمكنها من إنشاء قواعد عسكرية على مرمى حجر من لبنان إن لم تكن فعلاً قد بدأت في إنشائها، وهذا أمر سيشكل تهديدًا مباشرًا لحزب الله اللبناني، الذي كان قبل ذلك يتحرك في نطاقه بحرية، ويتمتع بمساحة مريحة من المناورة.
أما اليوم وفيما سوف يأتي من الأيام، فإنه أضحى بين فكي كماشة، “إسرائيل” في الجنوب، وأمريكا في الجنوب الشرقي، وهذا يجعلها قادرة على القيام بعمليات نوعية ضد مواقع الحزب، ومراقبة أنشطته الحدودية عن كثب، وتعقب طرق ومسارات تهريب السلاح والصواريخ الإيرانية إلى مخازن الحزب في لبنان، كما أن الأمريكيين ما زالوا يعتقدون أن لهم حسابًا قديمًا وثأرًا دفينًا مع الحزب الذي تسبب بمقتل قرابة300 جندي من قوات المارينز في تفجيرات عام1982 في بيروت.
جميع المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة بدأت تحشد مبكرًا لحلف عربي سني إسرائيلي يقوض نفوذ إيران في بلاد الشام والعراق، وتمددها إلى السواحل السورية، ولن يهدأ لها بال حتى تقضي تمامًا على حركة المقاومة الإسلامية في لبنان كخطوة أولى في سبيل التوجه بكل أساطيلها البرية والبحرية والجوية المعبأة نحو طهران، وهذا سوف يتطلب توحد القبائل العربية السنية في العالم العربي، واستدعاء مخزون القومية العربية في مواجهة القومية الفارسية، واستثارة النعرة الطائفية باعتبار العرب شعوب عاطفية تحسبها بالثارات لا بالاستراتيجيات.
وفِي نفس الوقت لا بد من كسر الحاجز النفسي، وتمويل دعاية منظمة لفقدان الهوية، وتقوية أنشطة التطبيع مع “إسرائيل”، لأن هذه الأخيرة طرف حيوي في الحرب القادمة على إيران، ولا يمكن بناء حلف من دونها، وهذا ما يفسر التحركات الدبلوماسية المتصاعدة بين مسؤولين عرب و”إسرائيل”، وسوف يستمر هذا التقارب يترقى من درجة إلى أخرى، تارة على الظاهر وتارة على ما وراء الظاهر، حتى يبلغ مداه بالدخول العلني والرسمي لـ”إسرائيل” في الحلف العربي السني الأمريكي دون مواربة.
إيران وافقت على الحد الصارم من أنشطتها النووية وبرنامجها النووي، في مقابل أن الدول الستة الموقعة على الاتفاق تخفف من العقوبات المفروضة عليها بسبب نشاطها النووي
بل إن مصادر إسرائيلية عبرت عن مصلحة السنة في عقد تحالف مع “إسرائيل” ضد التغلغل الشيعي، وكأنها فرقة من فرق أهل السنة كالأشاعرة والصوفية، كما أنه يفسر سياسة الاستعداء المتسارعة تجاه إيران من طرف المملكة السعودية و”إسرائيل” معًا ومحاولتهما زعزعة استقرار لبنان، وهذا لم يعد غريبًا على بعض الساسة العرب الذين أصبحوا هم أنفسهم لكثرة الخطايا التي ترتكب سرًا وعلنًا، ينظرون إلى أنفسهم في المرآة فيرددون قول الحطيئة: “أرى لي وجهًا شوه الله خلقه، فقُبّح من وجه وقُبّح حامله”.
ترامب: الاتفاق النووي “يِبِلّوه ويِشْرَبو ميِّتُه”
وهذا كله يمر طبعًا عبر إلغاء الاتفاق النووي مع طهران الذي يراه منظرو شيطنة إيران في الإدارة الأمريكية والشعبويون البانونيون bannonists مضرًا بمصلحة الولايات المتحدة، وأنه ورقة رابحة لصالح إيران، تخول لها التحرك في المنطقة بحرية أكبر، لأنها بحسبهم تعلم أن الاتفاقية تمنع الغرب والولايات المتحدة من التضييق على حركتها.
وكالة الطاقة الذرية أكدت في تقريرها أن إيران لم تخرق حتى الآن أي بند من بنود الاتفاقية المعروفة اختصارًا بـJCPOA – وهي ورقة فنية معقدة وطويلة الذيل، والتي يمكن تلخيصها في كون إيران وافقت على الحد الصارم من أنشطتها النووية وبرنامجها النووي، في مقابل أن الدول الست الموقعة على الاتفاق (الولايات المتحدة فرنسا الصين روسيا ألمانيا وبريطانيا) تخفف من العقوبات المفروضة عليها بسبب نشاطها النووي، وقد أدى الاتفاق إلى تفكيك إيران لآلاف من أجهزة الطرد المركزي centrifuges التي تستعمل لتخصيب اليوارنيوم المخصص لصنع السلاح – مع كل تلك التنازلات والتزام طهران النموذجي بمبادئ الاتفاقية، فإن ذلك لم يشفع لها لدى ترامب الذي يصر على أن هذا الاتفاق هو الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، ويعبر عن فقدان مهارة التفاوض لدى من دبجوا بنوده.
ورغم أن خلافًا ظاهريًا قد يخدع المراقبين لعلاقة ترامب بمستشاريه في الأمن القومي، وعلى رأسهم الثلاثي ماكماستر مستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية ريكس تيليرسون، ووزير الدفاع المخضرم ماتيس، فإن الخلاف إنما هو في التوقيت والاستراتيجية والديبلوماسية، وليس في الأهداف والغايات التي يعملون في سبيلها، فقد صرح ماتيس قبل أن يرفض ترامب المصادقة على الاتفاق، أمام جلسة سماع في مجلس الشيوخ عندما سئل عما إذا كان الاتفاق بشأن برنامج إيران النووي يهدد مصالح الولايات المتحدة، فأجاب الرجل بحزم: “كلا، لا يهدد مصالحنا”، لكن القرار في الأخير يعود للرئيس، ولا يملك هؤلاء إلا الرضوخ لقراراته والتصرف بحسبها.
سيبدأ العد التنازلي في اللحظة التي تعود الولايات المتحدة إلى ممارسة واجبها الإنساني إزاء البشرية المعذبة، وتستأنف سياسة العقوبات والحصار والاستعداء والشيطنة
كما أننا إذا نظرنا إلى الحجج والمبررات التي يصدرها ترامب كدافع لرفضه الاتفاق، نجدها مبررات ساقطة، فترامب الذي يستند إلى مادة فضفاضة جاءت في الوثيقة الثانوية المعروفة باسم INARA التي تعطي للرئيس حق إلغاء الاتفاق إذا تعارض مع مصالح الولايات المتحدة، وهذا شرط موسع يسمح لأي كان الادعاء أن الاتفاق يضر بالمصالح الحيوية لأمريكا بحسب أهوائه وآرائه الشخصية، وعادة ما يحتج ترامب وأعضاء في إدارته بالنشاط الصاروخي الباليستي لإيران ودعمها لحزب الله كمبرر للخروج من الاتفاقية، رغم أن عدم ممارسة هذه الأنشطة ليس ضمن الشروط المنصوص عليها في بنود الاتفاقية.
وحقيقة الأمر أن هذا الاتفاق يقف عائقًا أمام إتقان “التكتيك إياه”، أيْ تكتيك شن حرب ضد الدول “العاصية” و”الآبقة من بيت الطاعة الأمريكي”، الذي يبدأ أولاً من فرض حصار شديد ينهك الدولة اقتصاديًا، ويحد من تحركاتها إقليميًا، ويضعف قدراتها الدفاعية، ويحطم من معنوياتها، ويجوع سكانها، تمامًا مثلما حدث مع العراق في سنوات الحصار، رغم اختلاف زمان ومكان التجربة، ولكن الأساس يظل واحدًا، لذلك سيبدأ العد التنازلي في اللحظة التي تعود الولايات المتحدة إلى ممارسة واجبها الإنساني إزاء البشرية المعذبة، وتستأنف سياسة العقوبات والحصار والاستعداء والشيطنة.