المُرْبِكَة التونسية (the puzzle) تعيد تركيب نفسها ولكنها لا تكشف صورة محددة، فهي كلوحة سريالية لرسام مبتدئ يمكن تركيبها كيفما تيسر، فغموض المشهد أو بلاهته تجعل كل الاحتمالات ممكنة ولا ضير، فالفن الحديث تجاوز الانطباعية إلى فن لا يفهمه إلا أصحابه، لكن هل يفهم التونسيون عامة والطبقة السياسية خاصة لوحتهم السياسية الآن وهنا وهم على مشارف العيد الثامن للثورة؟
التوافق يستعين بحزب اللاشيء ليعدل وزنه
توجد أزمة سياسية لا يكشفها الإعلام، لكن الجميع يستشعر تعديلاً وزاريًا قريبًا يذهب الشاهد بمقتضاه إلى جحيم النسيان أو ثلاجته، ولكن يبدو أن (وأقول يبدو لأن المعلومات ضنينة جدًا) أن التعديل القادم تعرض إلى عملية ابتزاز من أطراف سياسية بقيت خارج حكومة الشاهد وتريد الآن الدخول لزيادة وزنها الانتخابي في أفق 2019.
ولكن الحزبين القويين (النداء والنهضة) لم يقبلا الابتزاز الذي سيعيد تشتيت الجهد الحكومي بالمحاصصة بين الأحزاب وينفر الناس أكثر من العمل الحكومي المرتبك أصلاً، لهذا يبدو (مرة أخرى) أن الحزبين يحتاجان إلى كتلة برلمانية تسند الحكومة لذلك احتاجت إلى نواب حزب سليم الرياحي.
حزب الرياحي (الوطني الحر) هو حزب اللاشيء، بل إن اللاشيء موجود في اللغة بينما حزب الرياحي أخف وزنًا من اسمه في اللغة، حزب نشأ من عدم الفراغ السياسي الذي خلفه بن علي وبأموال مجهولة المصدر (الجميع يقول من دون دليل ملموس أنها نقود أولاد القذافي) والرياحي منذ ظهر أقرب ما يكون إلى ممثل تجاري لشركات وهمية يبيع سلعة لا وجود لها، فقد دفع أموالاً كثيرة لتوليف أشخاص لا رابط بينهم لبناء حزب وأفلح في ذلك لما تتوفر عليه الساحة من انتهازيين ومتزلفين وأشخاص بلا ضمير ولا انتماء، وبقانون أكبر البقايا أوصل نوابًا إلى البرلمان ظل يتاجر بهم في صفقات الحكومات المتتابعة وآخر صفقة عقدها بهم هي إسناد الحكومة القادمة مقابل إسقاط التتبعات القانونية ضده وضد أمواله.
تكلم زعيم النهضة في المدة الأخيرة بلهجة حادة وحاسمة مهددًا بأن المساس بسلامة حزب النهضة هو مساس بالأمن القومي وهي رسالة موجهة للخارج أولاً وللداخل ثانيًا وتعني لجميع الجهات لقد خرجت النهضة من موقع الحزب المرعوب من التهديد
الرجل مطلوب للعدالة المحلية في قضايا فساد وأمواله (الافتراضية) محجرة ويطارده من تبقى من أبناء القذافي لدى القضاء الدولي، ونواب حزبه الباقون يبحثون كالفئران المذعورة عن مخارج للحفاظ على رواتبهم حتى آخر المدة النيابية، وقد ظهرت الحاجة إليه فجأة فظهر مع قيادة الحزبين مشرئبًا كزعيم حزب حقيقي ويبدو أن صفقة عقدت يساند الرياحي بمقتضاها أي حكومة يؤلفها الحزبان مقابل تبييضه أمام القضاء، شكلاً يمكن الآن إجراء تعديل حكومي له سند نيابي كافٍ (115 نائبًا) ويمكن طرد المبتزين عن أعتاب الحكومة التي ستكون أقل تشتتًا حزبيًا من سابقاتها.
سيكون هناك نقاش أخلاقي عن الشرعية الأخلاقية لحكومة تأسست على تبييض فاسد وعلى حساب العدالة، وستكون هناك فتاوى الواقعية ودرء المفاسد (مفسدة الفوضى) وستكون مزايدات على حكومة اليمين الرجعي، إلخ، لكن هذه الصفقة مثل صفقات سابقة وأخرى ستلحق حتمًا ما كان لها أن تقوم لو كان هناك اتفاق سياسي إلى حد أدنى وطني يتجاوز رغبات الأشخاص ويحترم الدستور.
غياب الحد الأدنى الوطني
صفقة الحكومة القادمة لاستدامة التوافق إلى حين الوصول لانتخابات تفتح بابًا آخر في مستقبل التجربة السياسية التونسية جرت بموازاة معركة أخرى مهمة تعمل على إنهاء التوافق بحجة فشل السياسيين في الحفاظ على مصالح البلد، حيث سيقال بكل جمود أن العرب ليسوا أهلاً للديمقراطية الحزبية ويجب حكمهم بالحديد والنار، وقد سارت مناورة إسقاط التوافق عبر مسارين:
الأول مسار قرصنة الهيئة الانتخابية لقطع الطريق على استمرار العمل السياسي القائم على شرعية الصندوق، فتم الضغط على أعضاء الهيئة المستقلة للانتخابات حتى استقال رئيسها، ثم دامت مناورات ترشيح بديل له طيلة الصائفة ولم يحل المشكل إلا منذ يومين بتصعيد وجه جديد نكرة سياسية، ويبدو أن الحزبين المعنيين أكثر باستمرار التجربة قد توصلا إلى تفاهم بشأنه، فسقط خيار حكومة معينة بقوة اللوبيات واستعيد أمل الانتخابات ولو بعد حين.
سيكثر جرحى التوافق في المسافة الفاصلة حتى انتخابات 2019 وربما نشهد جنازات سياسية كثيرة إذا توصّل عمودا التوافق إلى تحالف انتخابي في الانتخابات البلدية
المسار الثاني السيطرة على الأجهزة الأمنية عبر تفريغ الوزارة من الكادر السائر في طريق التوافق السياسي الحاليّ وفرض كوادر من زمن بن علي، ودفع النقابات الأمنية إلى التصعيد وفرض قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين الذي يمكنه أن يكون سيفًا مسلطًا على كل الطبقة السياسية والإعلاميين النزهاء (رغم قلتهم) والمدونين الأحرار الباقين في شبكات التواصل بعد أن ثبطت عزيمة الأغلبية.
تفريغ الوزارة كان يُقرأ ولا يزال كتمهيد لانقلاب أمني (بن علي 2 من دون بن علي)، لكن يبدو أن هذا المسار قد سقط بدوره بحضور وزير الداخلية وإقراره بسحب القانون (بعد أن فرض على البرلمان لمناقشته بسرعة) ويبدو أن العملية الإرهابية الأخيرة المتمثلة في طعن ضابط أمن في الشارع في أثناء أداء عمله قد شابتها ريبة، ولم يصدق الكثيرون صبغتها الإرهابية التي اتخذت مبررًا لفرض القانون.
سقوط المسارين المذكورين توج بفشل الجبهة البرلمانية التي سعى في تكوينها الخاسرون من التوافق بمن فيهم حزب آفاق الذي يشارك في الحكومة ويؤلف جبهة برلمانية ضدها.
تراكم فشل الخاسرين من التوافق مع فشل حكومة الشاهد في حل معضلات الاقتصاد الحالية وأبسطها السيطرة على الأسعار فضلاً عن انهيار الدينار وتوقف التصدير وفشل الموسم الزراعي وتفاقم أزمات الهجرة السرية (الحرقة)، سيعجل بحكومة يراها الجميع قادمة تتألف أساسًا من حزبي النداء والنهضة وحزب الرياحي أو حزب (اللاشيء) ويمكن تزيينها بأسماء مستقلة.
إنقاذ التوافق أو موت التجربة
سيكثر جرحى التوافق في المسافة الفاصلة حتى انتخابات 2019 وربما نشهد جنازات سياسية كثيرة إذا توصّل عمودا التوافق إلى تحالف انتخابي في الانتخابات البلدية، يخوض الخاسرون من التوافق هذه الأيام آخر معاركهم ضده ولكنهم من الضعف بمكان جعل حزب اللاشيء يكتسب وزنًا ضدهم، فلم يعد خطاب المزايدة الثورية يربك المتوافقين، لقد تبين أن كثيرًا من الثوريين يعملون على انقلاب أمني أو فرض حكومات غير منتخبة تعمل على تجاوز الدستور وإسقاطه، أما الديمقراطيون فقلة هينة لم تفلح في التنظم فذهبت ريحها.
لا يبدو الحزبان المتوافقان قادرين عليها وهذا يترك البلد على كف عفريت التمرد الشعبي الذي نتحسسه جمرًا تحت رماد ونرى خلاله وميض نار
لقد تكلم زعيم النهضة في المدة الأخيرة بلهجة حادة وحاسمة مهددًا بأن المساس بسلامة حزب النهضة هو مساس بالأمن القومي وهي رسالة موجهة للخارج أولاً وللداخل ثانيًا وتعني لجميع الجهات لقد خرجت النهضة من موقع الحزب المرعوب من التهديد، وتعني أن التوافق قائم على أسس قابلة للعيش رغم الفشل الاقتصادي ولا خيار غير الحفاظ على سلامة التجربة من التخريب وهي أمر للمخربين أن توقفوا لقد تجاوزكم حزب النهضة وشركاؤه ولو بحزب اللاشيء وتعني أن أحزاب اللاشيء كثيرة وعاجزة وأن الاستئصال استأصل أصحابه.
بقيت الآن مغامرة غير محسوبة العواقب قد لا يفلح من يفكر فيها في إخراجها من درج مكتبه، فإذا فعل قد ترتد عليه فيجهز على نفسه، ولن يفيد دحلان القادم لعقد صفقة ما في إبرام صفقته ولو دخل من باب كبار الزوار، ولعلنا نكتب في الأيام القادمة أن الأرز الإماراتي (بعد نفاد الأرز السعودي) لم يعد قادرًا على تمويل انقلاب لا لأنه قليل بل لأنه لم يجد دحلانيين أذكياءً في الداخل التونسي، وربما نكتب بشيء من السخرية أن التوافق قد قضى على الدحلنة التونسية.
هل هذا أمل؟ إنه أمل البقاء في الحد الأدنى لأن مطالب الثورة ما زالت بعيدة عن التحقيق، ولا يبدو الحزبان المتوافقان قادرين عليها وهذا يترك البلد على كف عفريت التمرد الشعبي الذي نتحسسه جمرًا تحت رماد ونرى خلاله وميض نار، لذلك فإن المربكة التونسية لا تزال لوحة سريالية.