مرّ ما يقارب العام على تَركي للصّف الدراسي، و اعتزالي للوقوف أمام الطلبة كـ “أستاذة آية” .. و لِبُعد التجربة و ضعف ذاكرتي، كنت قد نسيت، أو تناسيت، مؤخراً السبب الذي دفعني لِترك التدريس بعد فصلٍ دراسيّ واحدٍ فقط! كيف و أنا مقتنعةٌ تماماً بالأسباب التي دفعتني لدخول الصف في المرة الأولى؟ كيف كان لتلك المهنةِ أن تشبهني جداً و لا تشبهني أبداً في ذات الوقت؟ و كيف كان لها أن تسعدني جداً و تحبطني جداً في آنٍ معاً؟ و كيف كان لي أن أندفع لخوض التجربة فيها فور تخرجي بالسرعة تلك، و أهرب منها بعد بضع شهورٍ بسرعةٍ أكبر؟
عامٌ مضى و أنا مرابطةٌ على ذكرى تلك التجربة التي تركت في نفسي ذكريات لا أنساها مع رغبتي الشديدة بنسيان الكثير من تفاصيلها.. و بما أنني مبتلاةٌ بضعف ذاكرةٍ شديد، فقد راودتني الشكوك مؤخراً حول الأسباب التي دفعتني لترك التدريس.. و كان أن حصلت على فرصة العودةِ للطابور الصباحي، و فسحة التاسعة، و منقوشة الزعتر، و مريول ملطّخ بالحليب لمدة أسبوع، لأنشط ذاكرتي كأستاذة بديلة عن أخرى مسافرة لسبب ما، في الأسبوع الماضي..
كان يكفيني يومٌ واحد لأستعيد ذاكرتي و أشعر بذلك الإحساس الذي يصارع في ذاته آلاف الأحاسيس.. فإذا بحبي و كرهي المتناقضين تجاه تلك المهنة، نابعٌ من احتوائها على كل المتناقضات .. نابعٌ من شبهها الشديد بالإنسان الذي يسكننا مصارعاً كل يومٍ تناقضاته في محاولة إيجاد صلحٍ بينه و بينه..
مهنة التدريس كانت عدسة تكبير لدواخلي و دواخل الإنسان، و تحدٍّ لأحاول، (فاشلة)، إثبات أني قادرةٌ على التصالح مع نفسي و مع الإنسان المتمثّل في من حولي .. لقد حوت هذه المهنة كل تناقضاتي و أظهرتها، أشارت بتجلٍّ واضحٍ لم أقوَ على احتماله إلى ضعفي و قوتي، فرحي و حزني، صدقي و كذبي، شجاعتي و جُبني ..
لقد ارتطم الواقع الساكن جدران المدرسة، بصورةِ التدريس و الإنسان و صورتي كأستاذ ساكنٍ جدران عقلي و قلبي.. و قد كان ارتطاماً عنيفاً جداً..!ً
الصّفّ الذي تخيّلت أنني سأتمكن من أن أصنع منه خلية نحل لا تتوقف عن التفكير و السؤال، ارتطم بالزمن متسابقاً معه في محاولةٍ لإتمام عدد من الصفحات (لازم نخلصها، لأنو الاختبار الأسبوع الجاي!)، و صورة الإنسان التي عاهدت نفسي أن أراها في كل طفلٍ يجلس أمامي، ارتطمت بازدحام الصف بالكلام و الصراخ و عَدّي أنا للعشرة كلما دخلت الصف .. و صورتي أنا التي تخيلتها لنفسي كأستاذة ستتمكن من أن تسمع بكل جوارحها لأولئك الطلاب و تتفهمهم، ارتطمت بعدم تقبّلي لتناقضاتهم و طلباتهم اللا نهائية!.. كنت آلةً تجيد صناعة عدد لا نهائي من إشارات “الصح” الحمراء، و تتكلم بلا توقّف متفوِّقة بذلك على جرس الحصة..!
ارتطمت بنفسي التي لا تشبه ما أريد من نفسي.. و بواقعٍ صفيٍّ لا يشبه ما يسكن خيالي .. فكشفت لي تلك المهنة بوضوح أني أضعف من أن أحتمل تناقضاتي و تناقضات العالم من حولي في آنٍ معاً .. أضعف من أن أواجه اللا شبه بيني و بين ما يسكن رأسي .. و أضعف من أن أقف أمامهم و لا أعطيهم .. و أضعف جداً، على الأقل الآن، من أن أغيّر ذلك النظام الطاحن للإنسان بكل الوسائل..!
المدرسة يا رفاقي صارت مصنعاً، يقيّم عُمّاله بالأرقام التي تعلو يمين أوراق اختباراتهم.. و يقيّم الآلة بكمّ الصفحات التي أتمّت و عدد الكتب التي تمّ تصليحها .. و عدد العمّال الذي التزموا الصمت حين علا صوت الآلة صارخاً في همس ضحكاتهم..!
المدرسة يا رفاقي تصنع منّا (براغي) في آلات الدولة.. لنا شكلٌ معيّن و حجمٌ معيّن و عملٌ معيّن .. علينا كلنا أن نشبه كلنا، لتتحرّك عجلة الدولة المُعَظّمة بلا ضجيجٍ قد يزعج الكبار ..!
المدرسة يا رفاقي تشبه الإنسان جداً.. و حتى يرتقي “فِيّ” و فينا، و يتصالح مع تناقضاته و يحبها و يتقبلها، لن يتمكّن من صناعة إنسانٍ يشبه نفسه فقط .. و يلعنُ البراغي لأنها تخنق حبل أفكاره و خياله.. عندما يكبر إنساننا فينا فيحتوي الأساتذة، و الطلاب، و القائمين على الأنظمة التعليمية، لا العكس.. قد تصير المدرسة عالماً يحتضننا كما نحن و يعيننا أن نشبهنا بصدقٍ
تذكرت اليوم لم تركت التدريس سابقاً و تركته اليوم، أعترف أني هربت من التدريس و مني لأنّ إنساني لم يتّسع بالقدر الكافي بعد..
ربّما، يوماً ما..