صباح يوم الثلاثاء الموافق الـ7 من الشهر الحاليّ، استيقظ الشارع السوري من جديد على مقدمات حلقة إضافية من مسلسل اقتتال يلعب بطولته هيئة تحرير الشام من جهة وفي الجهة المقابلة حركة نور الدين زنكي التي كانت لوقت قريب إحدى مكونات الهيئة الرئيسة، اقتتال دارت رحاه العاصفة في الأزقة والحواري المزدحمة بالسكان، واستمد وقوده من أبناء هذا الشعب الصامد الذي يبدو أنه اضطر أن يعض على جراحه ويصبّر نفسه ليس أمام إجرام نظام الأسد وشركائه فحسب بل أمام ظلم ذوي القربى، وظلم الأقرباء أشد وأعظم كما يخبرنا المتنبي، أسلحة ثقيلة، رصاص عشوائي، خوف وقلق كبيران أجبرا الناس على النزول إلى الطوابق السفلية والأقبية، أبرياء يتساقطون واحدًا بعد آخر، كيف ذلك؟
بداية الحكاية
انطلقت الشرارة من قرى ريف حلب الشمالي بوقوع استفزازات ومشادات كلامية من كلا الطرفين، تفاقمت بعدها المشكلة بأن نصب الفصيلان الحواجز والمتاريس وغدا كلٌّ منهما يعتقل من الآخر ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم ما لبث الأمر أن امتد وانتقل من القطاع الشمالي لحلب (عندان وحيّان) إلى القطاع الغربي وصولًا إلى ريف إدلب الشمالي (الدانا/دير حسان)، ليسطّر لنا باللون الأحمر صفحة داميةً جديدة من حرب بينية لم تنته إلى لحظة كتابة هذه السطور.
بيانات أولية واتهامات متضادة
بعد ازدياد حدّة الصراع وعلو صوت الرصاص وتقدّم هيئة تحرير الشام على بعض مواقع حركة الزنكي، شعرت الأخيرة بخطر على وجودها ودار في مخيلتها مآل تنظيمات عسكرية أنهتْها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، فما كان منها إلا أن أعلنت – بواسطة الاتحاد الشعبي قوتها الرديفة في الريف الغربي لحلب – حالة الاستنفار العام والاستعداد للدفاع عن الأرض والثورة، ثم جاء البيان الرسمي للحركة (10من نوفمبر) بعد يوم من بيان الاتحاد الشعبي قالت فيه إنها ستمضي في المواجهة المفتوحة مع هيئة تحرير الشام حتى النهاية وأن الهيئة تحاول القضاء على الثورة بتكرار نموذج تنظيم الدولة.
ردّ الهيئة لم يتأخر إذ أصدرت بعد ساعات بيانًا عرضت فيه إنجازاتها في قتال النظام وتنظيم الدولة في أرياف حماة واعتبرت أن الزنكي “يزاود بأعمالنا علينا مدعيًا مصلحة الساحة ومتحدثًا باسم ثورة الشام الأبية تارةً ومناديًا بتغليب الشرع والعقل – زورًا – تارةً أخرى وهو في كل ذلك آمن مطمئن في مقره أو مقيم مستقر خارج البلاد”.
وأعربت عن استعدادها للمصالحة وحل الإشكالات كافة، وطالبت الزنكي في نهاية البيان بالإذعان لصوت الشرع والعقل، ثم مضت الأمور بين الجهتين ما بين شد وجذب وأقوال متعاكسة ونفي وإثبات، بالتوازي مع العمليات العسكرية التي لم تهدأ وتنخفض وتيرتها البتّة.
موقف الأطراف الفاعلة من الحدث
كان رأي المكونات العسكرية بشكل إجمالي ميّالًا إلى الصلح وحقن الدماء، إذ دعا جيش الأحرار – أحد تشكيلات هيئة تحرير الشام سابقًا – في بيان له، الطرفين إلى المصالحة الشاملة وفق أربعة بنود أبرزها: صياغة ميثاق عمل مشترك لتنظيم العمل بين الفصائل العاملة في المناطق المحررة على جميع الأصعدة، وأكد أنه لن يقف موقف المتفرج مما يحصل وأطلق نداءً إلى المدنيين والفعاليات والخطباء وغيرهم أن يقوموا بالضغط على جميع الأطراف لقبول المصالحة.
ذكرت بعض الأخبار نية جيش الأحرار وحركة أحرار الشام الدخول إلى جانب الزنكي في المعركة بموجب اتفاقية دفاع مشترك بين الفصائل الثلاثة
حركة أحرار الشام شابهت جيش الأحرار بالدعوة إلى المصالحة الشاملة وتنظيم العمل في المناطق المحررة بميثاق مشترك، ولكنها خالفته بعدة نقاط أهمها أنها حمّلت الهيئة المسؤولية واعتبرت أن أخطاءها الكارثية ومسلسل البغي الذي تقوم به سببٌ فيما صار إليه حال الساحة، وطالبت الهيئة بالكف عن بغيها وإطلاق سراح جميع المعتقلين من الفصائل كلّها من بداية البغي وحتى اليوم، فكان بيان حركة أحرار الشام أثقل لهجة وأكثر وضوحًا ولعل ذلك بسبب صراعها المرير مع الهيئة التي حجّمت الحركة عن كثير من مناطق نفوذها.
فيلق الشام بدوره دعا الطرفين لنبذ الخلاف والتعالي عليه وتقديم المصلحة العامة، وأبان عن جاهزيته للقيام بدور الإصلاح بين المتنازعين، إلا أن القيادي البارز في حركة الزنكي حسام الأطرش اعتبر الفيلق “يساوي بين الظالم والمظلوم”، وذكر في منشور على قناته في التيلجرام: “لم يكتف فيلق الشام بهذه المواقف المشبوهة والمذلة بل عمل على تسليم حواجزه في الريف الغربي لهيئة تحرير الشام”، وسرد أشياء أخرى تؤكد – حسب رؤيته – انحياز الفيلق لهيئة تحرير الشام وأن أكثر من ثلثي الفيلق مبايع للجولاني، أقوال نفاها فيلق الشام واعتبرها مجرد ادعاءات وافتراءات ما لم تقدّم قيادة حركة الزنكي بينات عليها.
كان اللافت في هذا السياق إصدار عدد من المهاجرين كالشيخ عبد الله المحيسني والشيخ مصلح العياني ومعهما بعض الجماعات وكثير من الأفراد بيانًا صريحًا أعلنوا فيه اعتزالهم للقتال الدائر ووقوفهم على الحياد في أي قتال داخلي، وجاء في البيان: “موقفنا في بلاد الشام هو دفع العدو الصائل لا نتدخل في نزاعات الفصائل الداخلية” واعتبروا أن “جميع الفصائل إخوة لنا في الله لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.
وعلى ذلك ظلّت المعركة قاصرة على طرفيها الرئيسين دونما تدّخل من أي تنظيم آخر، مع أن أخبارًا رشحت من هنا وهناك عن نية جيش الأحرار وحركة أحرار الشام الدخول إلى جانب الزنكي في المعركة بموجب اتفاقية دفاع مشترك بين الفصائل الثلاثة، ولكن لم يحصل شيء من ذلك على أرض الواقع.
يظهر على لسان هيئة تحرير الشام في الغالب الأعم لغة التهدئة والتخفيف ولعل مبعث هذه اللغة الناعمة هو تماسك وصمود حركة الزنكي على نحوٍ لم تتوقعه الهيئة
مبادرات الصلح
منذ أول الأمر، نهض مجموعة من العلماء والدعاة والمجالس المحلية والتجمعات العشائرية لفض الاشتباك ورأب الصدع بين الطرفين، ولكنّ انعدام الثقة بين الجانبين حال دون ذلك، وهذا ما أكده الدكتور عبد الله المحيسني إذ كتب على قناته في التيلجرام (11من نوفمبر): “لم ييسر الله لنا جمع الطرفين ولعل السبب الأهم هو عنصر فقد الثقة في دخول مناطق الطرف الآخر والمرور بحواجزه”، وبعد طرح أكثر من مبادرة من أطراف مختلفة خلال الأيام الثلاث الأولى للأزمة، تم التوصل في اليوم الرابع (12من نوفمبر) إلى اتفاق هدنة مؤقت يقضي بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وتشكيل لجنة من مجلس القبائل والوجهاء والشرعيين لإنهاء المشكلة تمامًا، اتفاق ضعيف لم يدم طويلًا وما لبثت آلة الحرب بعد ذلك بساعات أن تحركت من جديد.
أعقبت حركة الزنكي هذا الاتفاق بتقديم لائحة من الشروط للوصول إلى حل شامل، يأتي في مقدمتها حسب ما جاء في بيان الحركة: “أن يصرح الجولاني بأنه سينسحب من كل المواقع التي احتلتها الهيئة لحركة الزنكي، وأنه سيعيد حقوق الزنكي وأحرار الشام القديمة خلال مدة أقصاها أسبوعين، وأن يعلن أن لن يتفرد بالقرار السياسي والعسكري بالمناطق المحررة”، شروط اعتبرتها الهيئة على لسان أكثر من مسؤول لها “غريبة وتعجيزية” منها مشاكل تعود لبداية الثورة.
الحقيقة تنطق بأن الطرفين يسعيان للصلح، لكن يظهر على لسان هيئة تحرير الشام في الغالب الأعم لغة التهدئة والتخفيف ولعل مبعث هذه اللغة الناعمة هو تماسك وصمود حركة الزنكي على نحوٍ لم تتوقعه الهيئة وكثير من الناس والمراقبين، هذا الأمر – أي صمود حركة الزنكي – هو الذي دفعها للتصعيد في الخطاب ورفع السقف وطرح هذه الشروط المفاجئة.
إلى أين وصلت الأمور؟
آخر ما حرّر في الموضوع وعلى إثر الجهود الحثيثة للعلماء والتجمعات والمجالس على اختلاف أنواعها، وكذلك الضغط الشعبي القوي الذي تصاعد شيئًا فشيئًا إلى حد منع الفصيلين من المرور ببعض المناطق (مدينة الأتارب مثالًا)، وأيضًا إصدار جيش الأحرار بيانًا قرّر فيه النزول إلى الشوارع كقوات فصل ثم الانطلاق إلى الطرفين المتنازعين لإيقاف الاقتتال، لأجل ذلك كله وقع الطرفان على اتفاق ثانٍ للتهدئة برعاية الشيخين عبد الله المحيسني ومصلح العلياني يستمر من مساء الأربعاء إلى ظهر الخميس (15من نوفمبر)، هدنة تشمل – بحسب ما صرح الطرفان – الجانب الإعلامي والعسكري ويتم خلالها السعي الحثيث لتذليل عقبات الصلح.
أخيرًا، وبعد اجتماع مطول – بحسب بعض المصادر – تم الاتفاق رسميًا بين الطرفين ليلة الجمعة (16من نوفمبر) على وقف الاشتباكات وفك حالة الاستنفار وإخلاء سبيل الموقوفين، فهل يكون الهدوء الذي ساد في أثناء الهدنة وبعد انتهاء مدتها إلى توقيع اتفاق الحل هدوءًا مستدامًا تنتهي به المعركة، أم أنها استراحة محارب يلتقط فيها الفريقان الأنفاس ويستجمعان القوة للانقضاض مرة أخرى طمعًا في تحصيل مكاسب أكبر فيما بعد؟ هذا ما ستخبرنا به الأيام.