بعد الخسارة الفادحة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية التي انعقدت في 31 مارس/آذار الفائت، وخسارته الكثير من بلديات المدن الكبرى والبلديات الفرعية لصالح الحزب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، يترقب المقيمون العرب بقلق انعكاسات نتائج هذه التغييرات الكبرى على وجودهم في تركيا، على الرغم من كون هذه الانتخابات بلدية ولا تؤثر على السياسة العامة للدولة.
تمكن حزب الشعب الجمهوري من الحصول على 37.77% من أصوات الناخبين، أما حزب العدالة والتنمية الحاكم فحصل على 35.49%، فيما جاء حزب الرفاه من جديد في المرتبة الثالثة بما نسبته 6.19% أي أن حزب العدالة والتنمية خسر 16 بلدية من بلديات المدن والمحافظات، بينما ازدادت عدد البلديات التي يسيطر عليها الحزب الشعب الجمهوري من 20 إلى 36 بلدية.
حجم البلديات في تركيا
تخصص الحكومة ميزانية ضخمة للبلديات في تركيا، قد تتجاوز في المدن الكبرى ميزانية بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، وذلك حتى تتمكن هذه البلديات من تقديم الخدمات بكفاءة وجودة عالية، خاصة في المدن ذات الكثافة السكانية المرتفعة. ويبلغ عدد البلديات في عموم تركيا نحو 1400 بلدية، 30 منها بلدية كبرى.
وفي عام 2024 بلغ مقترح موازنة الحكومة لدعم الإدارات المحلية نحو 28.4 مليار دولار، وكانت بلدية إسطنبول الكبرى صاحبة أكبر ميزانية، إذ حددتها بقرابة 6.7 مليارات دولار، بينما بلغت ميزانية العاصمة أنقرة مليار و744 مليون دولار، وتوضح هذه الأرقام حجم المسؤوليات والخدمات والملفات التي تهتم بها البلديات.
وتتمتع البلديات بسلطة على مجالات واسعة جدًا مثل التخطيط الحضري وأعمال البنية التحتية وهو الموضوع الأكثر إثارة للجدل في تركيا وخاصة بعد زلزال 6 فبراير/شباط العام الماضي، إذ تشجع الحكومة بالتعاون مع البلديات إعادة بناء المباني القديمة وإعادة تخطيط الأحياء العشوائية بما يضمن سلامتها في حال حدوث زلزال متوقع خاصة في إسطنبول ومحيطها.
أضف إلى ذلك إدارة المياه والصرف الصحي، وخدمات النقل، فضلًا عن تلبية احتياجات السكن وخدمات الصحة والتعليم والخدمات الثقافية والاجتماعية، ومثال ذلك معاهد ISMEK في إسطنبول أو KOMEK في قونية، وجهودها في توفير فرص العمل وحماية الثقافة والموارد الطبيعية وحماية المساحات الزراعية وأحواض المياه، لذا يركز المرشحون في برامجهم الانتخابية على إنشاء الحدائق والاهتمام بالغابات ومنع العمران من التمدد على حساب المساحات الخضراء.
برامج الأحزاب السياسية لانتخابات 31 مارس/آذار
اتسمت الحملات الانتخابية الفائتة بالهدوء النسبي وغاب عنها الاستقطاب السياسي الحاد الذي شهدناه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 2023 بدرجة كبيرة. وما يهم هنا هو عزوف الأحزاب السياسية بشكل ملحوظ عن استخدام ورقة اللاجئين للتأثير في خيارات الناخبين، عدا بعض التصريحات أو الموقف المتفرقة، مثل الإعلان الذي بثه مرشح بلدية الفاتح في إسطنبول عن حزب الرفاه، ومقطع الفيديو الذي انتشر لمرشح الحزب الجمهوري في إحدى البلديات الفرعية لأنقرة وهو يتوعد أطفالًا عراقيين بترحيلهم خارج البلاد.
الإعلان الذي بثه مرشح بلدية الفاتح في إسطنبول عن حزب الرفاه
لكن في حديثه مع “نون بوست” قال الباحث المستقل روشتو حجي أوغلو Rüştü Hacıoglu إن البلديات في الواقع لا تملك أي صلاحية لترحيل الأجانب مهما كانت صفة إقامتهم في البلاد، ولا يمكنها تجاوز قرارات وإجراءات إدارة الهجرة.
خدمات البلدية للأجانب بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري
في العموم، يشعر المقيمون العرب واللاجئون بالأمان النسبي في ظل وجود حزب العدالة والتنمية، بسبب الخلفية المحافظة للمسؤولين والتصريحات الودية تجاه العرب واللاجئين عامة، إضافة للتسهيلات والترحيب الذي حظوا به أول قدومهم لتركيا، ورغم تغير سياسة الباب المفتوح في السنوات الأخيرة والإجراءات المتشددة التي طبقتها الحكومة لمكافحة الهجرة غير النظامية والوجود العشوائي للاجئين والأجانب في المدن التركية، فإن العدالة والتنمية بقيت الخيار الأكثر تفضيلًا للعرب.
وفي الواقع، لا نجد اختلافًا ذا أثر بمعاملة الأجانب في بلديات المعارضة، إذا استثنينا بعض الشخصيات العنصرية مثل رئيس بلدية بولو، الذي أصدر قرارًا برفع سعر المتر مكعب من المياه للأجانب إلى 2.5 دولار وزيادة رسوم عقد الزواج إلى 100 ألف ليرة، قبل أن تبطل المحكمة الإدارية قراراته.
وعن هذا الموضوع سألنا الباحث روتشو الذي عمل في مجال أبحاث اللاجئين مع بلدية إسطنبول الكبرى، فيما إذا كانت مثل هذه السياسات ضمن خطط بلديات المعارضة، أجاب: لا يمكن ذلك، لأن المجالس البلدية لا يمكنها أن تمارس سياسات تمييزية ضد بعض الأشخاص خلافًا للقانون. بعض الخطابات السياسية الناتجة عن مشكلات الهجرة غير الشرعية لا يمكن تنفيذها بسبب مخالفتها القانون، ودون تنظيم قانوني، لا يمكن أن تتحول التصريحات التعسفية إلى إجراءات تعسفية.
وأضاف الباحث أن بلدية إسطنبول الكبرى أجرت أبحاثًا مكثفة عن الهجرة في السنوات الـ5 الماضية (استلم الحزب الجمهوري بلدية إسطنبول الكبرى منذ 2019)، كما درست النموذج الأوروبي فيما يتعلق بالهجرة وإدارة مشكلات المهاجرين في إطار حقوق الإنسان والقانون العالمي، لكن تنفيذ هذه الدراسات يتطلب تغييرات في القانون والتشريعات، أي سلسلة من القرارات التي يتعين أن تتخذها الحكومة المركزية وإدارة الهجرة التابعة لوزارة الشؤون الداخلية والبرلمان.
إن القرارات المتعلقة بالمواطنة وحقوق المواطنة تخضع لتقدير الحكومة المركزية، وهي من تحدد تعريف اللاجئ، أما البلديات فتقوم بإدارة العمليات، وتتولى تقديم الخدمات لجميع سكان المنطقة، ليس فقط لحاملي تصاريح إقامة وحماية مؤقتة، لكن أيضًا السياح يقعون ضمن نطاق الخدمات البلدية.
وبحسب حجي أوغلو فإن الحقوق المتساوية تنطبق على المواطنين والحاصلين على تصاريح الحماية والإقامة ضمن الإطار القانوني، ولا يمكن أن يحدث خلاف هذا، لأنها حقوق حددها الدستور والقوانين ولا يمكن ترك الأمر للممارسات التعسفية للمسؤولين.
أما بالنسبة لبلدية إسنيورت التي تضم أكبر عدد من السوريين في إسطنبول، فتحدثنا إلى أسمى الملاح، ناشطة وباحثة سورية، تحمل بطاقة الحماية المؤقتة، وقالت إنها عملت على مدار 4 سنوات في مجال دمج الأطفال السوريين مع الأتراك ودعم وتمكين المرأة السورية، كما نسقت بعض البرامج بالتعاون مع بلدان الاتحاد الأوروبي ونفذت كل الأنشطة في مقرات بلدية إسنيورت والمرافق التابعة لها، التي يسيطر عليها الحزب الجمهوري، دون أن يتعرض لها أحد أو تضطر لإيقاف نشاطها المجتمعي.
في المقابل اشتكت بعض الجمعيات والهيئات والمنظمات العربية من تغيرات في طريقة التعامل من بلدية إسطنبول الكبرى بعد عام 2019، حيث سجل بعضها صعوبة أكبر في الحصول على حجوزات في القاعات والمرافق الكبرى، وهي التي كانت مفتوحة لأنشطتهم ومعارضهم ولقاءاتهم بيسر وسهولة في عهد العدالة والتنمية.
ماذا بعد خسارة الانتخابات البلدية؟
يرى البعض أن المشكلة بالنسبة للعرب المقيمين واللاجئين ليست في الإجراءات المباشرة التي قد تتخذها بلديات المعارضة، بقدر ما يقلقهم مستقبل البلاد وظهور تحولات كبيرة في المزاج العام، خاصة إذا تذكرنا أن استخدام أحزاب المعارضة لورقة اللاجئين للضغط على الحزب الحاكم وجذب الناخبين بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية الخانقة؛ دفع الحكومة للتضييق على الأجانب والتعامل بحساسية أكبر مع ملف الهجرة. على سبيل المثال، حددت وزارة الداخلية نسبة الأجانب المقيمين في الأحياء إلى نسبة الأتراك، ما أدى إلى إغلاق أحياء كاملة أمام المهاجرين.
كما يخشى العرب من كون هذه الانتخابات تمهيدًا لقدرة المعارضة على تحقيق تقدم مشابه في انتخابات برلمانية أو رئاسية قادمة قد تغير من السياسة العامة للدولة، لكن لا توجد مؤشرات حاسمة على هذا أيضًا، فإذا نظرنا إلى الأرقام التي حصلت عليها الأحزاب نلاحظ أن الأصوات التي خسرها العدالة والتنمية لم تذهب إلى الشعب الجمهوري، وأن التقدم الذي حققه كان بسبب امتناع جمهور العدالة والتنمية عن التصويت أو إبطال أصواته أو التصويت لحزب الرفاه مجددًا، أي أن الناخب التركي أراد إرسال رسائل قوية للحزب الحاكم دون أن يمس استقرار البلاد السياسي، إذ منح ثقته وصوته للرئيس أردوغان وحزبه في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي لم يمر عليها سوى بضعة أشهر، فيما جاء تصويته مختلفًا للغاية اليوم رغم عدم حدوث تغيرات كبرى في البلد.
ختامًا، يجدر بالعرب المقيمين في تركيا، وممثلي اللاجئين، فتح أبواب اتصال دائمة وفاعلة مع المعارضة التركية، إذ من غير الطبيعي ربط الوجود العربي أو قضية اللاجئين بوجود حزب معين في السلطة، في ظل دولة تحكمها صناديق الاقتراع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك 4 سنوات من الاستقرار السياسي قبل الانتخابات القادمة في 2028، كما أن حزب العدالة والتنمية عازم على كسب ثقة الشارع من جديد وتصحيح مسار الحزب بحسب ما تعهد الرئيس أردوغان في خطابه عقب انتهاء الانتخابات.