مسرح الجم
في مدينة كانت تسمى في العصور القديمة “يسْدْرُوسْ”، وتسمى حاليًّا “المهدية” في الساحل التونسي، يقف المسرح الروماني العظيم المشهور بقصر الجم أو مدرج الجمّ كما يحلوا للبعض أن يطلقوا عليه، شامخًا رغم عاديات الإنسان والطبيعة.
تاريخ مسرح الجم
ترجح أغلب الروايات عن تشييده أن الإمبراطور الروماني غورديان الثاني الذي قاد انتفاضة على إمبراطور روما في ذلك العصر هو من أمر ببناء المسرح سنة 238 ميلاديًا، ليكون مسرحًا رومانيًا عظيمًا يضاهي في العظمة والمساحة نظيره في عاصمة الإمبراطورية في روما، ويتجاوزه جمالًا وروعة، وأطلق عليه اسم “كُولُوسِّيُومْ تِيسْدْرُوسْ”.
في أثناء بنائه عالج المصممون كل الأخطاء الهندسية التي وقعت في بناء المدرج الروماني السابق في روما، الأمر الذي يفسّر بقاء مسرح الجم في نظر علماء الآثار والتاريخ إبداعًا معماريًا وفنيًا من الطراز الأول، يشهد بالرقي لمدينة تِيسْدْرُوسْ (الجم) الرومانية.
رغم مرور أكثر من 1800 سنة على بنائه، ما زال هذا المسرح الذي يعتبر بمثابة التحفة الرومانية فوق أرض تونس، على صورته الأولى بنسبة كبيرة جدًا
ويعتبر هذا المسرح الذي شكّل على مدى العصور ومنذ بداية العهد الروماني مسرحًا لأحداث تاريخية عظيمة، إذ حصلت فيه العديد من الأحداث التي شكّلت منعطفات في التاريخ الإنساني، واحدٌ من أعظم الآثار الرومانية في العالم، ولعراقته وتاريخه الكبير وجماله الفريد أُدرج هذا المسرح الروماني سنة 1979 على لائحة مواقع التراث العالمي من طرف اليونسكو، ليضاف بذلك إلى المواقع الأعرق والأجمل في العالم التي تديرها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم “اليونسكو”.
إضافة إلى اسم “مسرح الجمّ” سمي هذا المسرح الروماني أيضًا في بعض الكتابات العربية القديمة باسم “قصر الكاهنة”، ذلك أنه في أثناء الفتح الإسلامي لإفريقية (تونس) في أوائل القرن الثامن الميلادي، احتمت به الملكة البربرية “ضميا” الملقبة بـ”الكاهنة” مع جيشها لمدة أربع سنوات إثر هزيمتها في المعركة الثانية أمام حسان بن النعمان الغساني، وهو الذي طلب الإمداد من عبد العزيز بن مروان إثر هزيمته في المعركة الأولى، لذلك سمي قصر الجم.
رغم مرور أكثر من 1800 سنة على بنائه، ما زال هذا المسرح الذي يعتبر بمثابة التحفة الرومانية فوق أرض تونس، على صورته الأولى بنسبة كبيرة جدًا، لولا بعض الأحداث التي دفعت إلى هدم بعض أجزائه، حين استخدم المدرج حصنًا للاحتماء به، فعندما ثار السكان على محمد الثاني، باي تونس المرادي آنذاك (سنة 1695)، وتحصنوا بالمسرح وبعد أن أخمد ثورتهم، أمر الباي بهدم الجانب الغربي للقصر، حتى لا يتحصن فيه غيرهم مستقبَلًا.
مسرح الجم هندسة معمارية فريدة
تبلغ مساحة القصر ذي الواجهة الرومانية المرتفعة، 148 مترًا في 122 مترًا، أما أبعاد الحلبة فتبلغ 65 مترًا في 39 مترًا، وتتسع مدارجه لقرابة 35 ألف متفرج، ويقع تحت حلبته رواقان يصلهما الضوء من الفتحة الوسطى للحلبة إضافة إلى فتحتين من جانبي الحلبة كانت تستخدم لرفع الوحوش من أسود ونمور والمصارعين من أسرى الحرب، حيث كان المصارعون والوحوش يؤسرون في غرف تحت الحلبة ليتم إطلاقهم في الأعياد والمناسبات الضخمة التي تشهد إقبالاً جماهريًا ضخمًا من الشعب والنبلاء الذين يجلسون في المدارج لمشاهدة مصارعات الوحوش ومعارك المصارعين من أسرى الحروب وسباقات العربات.
يحتوي هذا المسرح الروماني الفريد من نوعه في وقتنا الحاليّ، على العديد من القطع الأثرية النادرة في العالم
هذه الهندسة المعمارية التي جمعت بين التيارات الشرقية والغربية، شدّت اهتمام الكتاب والمؤرخين الغربيين والمشارقة الذين زاروا المسرح في القرون الماضية، كما فتنهم المسرح بتناسق أجزائه ومركّباته وجمال لونه المحاكي للون الذهب فأفاضوا في مدحه وإعلاء شأنه ورأوا فيه أثرًا مميّزًا لإفريقيا الرومانية.
ويحتوي هذا المسرح الروماني الفريد من نوعه في وقتنا الحاليّ، على العديد من القطع الأثرية النادرة في العالم نقل بعضها لمتحف الجم والبعض في متاحف أخرى، فضلاً عن نحو 30 موقعًا رومانيًا تم اكتشافهم عبر الحفريات أبرزها منزل إفريقيا الذي يحتوي على قطع نادرة من الفسيفساء التي تصور الحياة اليومية لسكان روما وطرق عيشهم، ويوجد بالمسرح العديد من الغرف والأقبية، ويقال إن هناك سراديب طويلة تصل القصر بمناطق بعيدة لكنها لم تكتشف بعد، استعملها السكان أيام الحروب لجوءًا إلى قرطاج والبحر.
من مسرح للموت إلى مسرح للحياة
في أثناء تأسيسه، كان مسرح الجمّ حلبة لمصارعة الوحوش ومسرحًا داميًا تتمزق فيه أجساد العبيد وأسرى الحرب وكبار المجرمين الذين تجاوزوا القانون، كما كانت جدرانه شاهدًا على النبلاء الرومانيين الذين أدمنوا الصّراعات الدامية، وخصّصوا لمشاهدتها أغلب وقتهم.
غير أنه اليوم أصبح مسرح الجم مكانًا لالتقاء الفنانين ومسرحًا شهيرًا لأهم الحفلات الموسيقية في تونس والعالم، إذ تقام في مسرح الجم سنويًا مهرجانات وحفلات لأهم الفرق العالمية وفرق موسيقى الجاز، وقد ازدادت شهرته أكثر منذ إنشاء أول مهرجان للموسيقى السمفونية في ثمانينيات القرن الماضي، حيث تضاء الشموع في كل صيف في مختلف أروقته مشكلة لوحة تجمع بين سحر الأثر التاريخي وإبداع الفن المعاصر لتعلن انطلاق دورة جديدة من مهرجان الموسيقى السمفونية بالجم.