يعتبر تنزيل فصول السلطة المحلية الواردة في دستور الجمهورية التونسية أكبر تحدٍ ينتظره التونسيون نظرًا لما أتى به من ترسانة مبادئ ومفاهيم حديثة تؤسس لتوجه مبني على التشارك والوفاق في ظل حكم محلي يعتمد المقاربة التشاركية ومبادئ الحوكمة والشفافية .
ماهية الحكم المحلي
يمكن تعريف الحكم المحلي بأنه الديمقراطية التي تمارس على مستوى محلي ومن هيكل محلي اعتمادًا على طبيعة النظام المعمول به لتسيير الشأن العام، فالديمقراطية المحلية تعني في المقام الأول أن يُعهد للجماعات المحلية بتصريف شؤونها باستقلالية في إطار دولة موحدة، وقد تكرس هذا الأمر بموجب الدستور التونسي بما يفرض مراجعة المنظومة القانونية في جزئها المتعلق بالجماعات المحلية على المستويين الإداري والمالي.
وأقر الدستور نموذجًا جديدًا للسلطة المحلية كأحد أهم سمات نظام الحكم في المرحلة المقبلة، ومنح الحكم المحلي مكانة ومقامًا متميزًا، حيث خصه بباب كامل (الباب السابع) عنوانه السلطة المحلية تماشيًا مع روح الثورة ونجاح تجارب تطبيق الديمقراطية التشاركية في عديد الدول، فاستلهم المشرع التونسي هذا المبدأ ونص الفصل 131 من الدستور على أن السلطة المحلية “تقوم على أساس اللامركزية التي تتجسد في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية، وتتمتع هذه الجماعات بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الإدارية والمالية وتدير المصالح المحلية وفقًا لمبدأ التدبير الحر” (الفصل 132).
أهل الردة ودعاة الدولة المركزية
وفي وقت كنا ننتظر فيه الإسراع بخطوات تنزيل مبادئ الحكم المحلي في تونس من خلال إجراء أول استحقاق انتخابي محلي نفاجأ في مرة أولى وثانية بتأجيل الموعد في حركة مخيبة لآمال المواطن ومنظمات المجتمع المدني التي اعتبرته رجوع خطوة إلى الوراء في العملية الديمقراطية، لتتواصل مفاجأتنا من خلال ما صدر من تصريحات للحزب الفائز في انتخابات 2014 وصاحب السلطات الثلاثة (رئيس جمهورية ورئيس حكومة ورئيس مجلس النواب) تنظر للعودة إلى ماضٍ قريب.
تولت المجالس البلدية مسؤوليات وظيفية محدودة أمام سياسة مركزية وخيارات سلطة واحدة أدت إلى تكريس سياسة التهميش والحرمان والتخطيط المركزي وحولت الجهات الداخلية إلى مناطق منفرة ومقصية من الامتياز المجالي للاستثمارات وتوزيع عائدات الدورة الاقتصادية
فقد أطل علينا السادة برهان بسيس منظر السياسات والمكلف بالإعلام والاتصال في حزب حركة “نداء تونس” وفؤاد بوسلامة اللذان اعتبرا أن الحكم المحلي، كما ورد في الدستور، فيه “خطر على البلاد”، وأن نظامه لا يناسب تونس، بل إن الصدمة كانت أكبر حين صرح أحد النواب المؤسسين عن حركة النهضة ووزير الصحة عماد الحمامي أن الشعب التونسي غير مؤهل حاليًّا للحكم المحليّ!
القيادة الندائية ومن معها يجذبهم الحنين لمركزية القرار وسلطة القصر في توجيه السياسات العامة وترى أن صياغة الباب السابع للدستور تعطي حصانة واستقلالية وسلطة مركزية قد تمثل خطرًا على وحدة البلاد والتواصل بين مؤسساتها، لذلك سيعمل النداء وحلفاؤه حسب نفس المصادر على مراجعة هذا الباب خاصة أن المواطن غير معتاد على هذه الممارسة وسيضغط الحزب عبر مجلس نواب الشعب خاصة لمزيد من توضيح مسؤوليات السلطة المحلية الجديدة في اتجاه المحافظة على سلطة الدولة ومراقبتها لهذه السلطة المحلية حتى لا تحيد عن مسارها.
مسار كرسته السلطة المركزية بداية من اعتماد دستور 1959، والقائم على تقسيم جهوي وإداري خاضع للحسابات السياسية وضرورة ضمان ارتباط مختلف الجهات بالمركز السياسي أين تتم صناعة القرارات السياسية والخيارات الاقتصادية والمخططات التنموية للبلاد كافة.
ورغم تعديل الأمر نحو اللامركزية المخففة بداية من أوائل التسعينيات من خلال إنشاء المجالس الجهوية والمحلية فإنها ظلت مجرد مجالس صورية لا تعبر عن اختيارات وحاجات المواطنين وبصلاحيات مفرغة ودون سلطات حقيقية، بل كانت تخضع لسلطة وإرادة الحكومة المركزية والحزب الحاكم في مناخ سياسي تميز بهيمنة حزب الدولة.
الديمقراطية التشاركية تجعل من المواطن العادي في قلب اهتماماتها باعتبارها شكلًا من أشكال التدبير المشترك للشأن العام المحلي يتأسس على تقوية مشاركة السكان في اتخاذ القرار السياسي
هؤلاء يروجون لعودة نظام فاشل اتسم بالمركزية الشديدة في اتخاذ القرارات، أدت فيه المجالس البلدية المنتخبة دورًا محدودًا نسبيًا في التنمية المحلية، ولم تتعد حصتهم من إجمالي الإنفاق العام 4%، وبحكم القانون (الساعين لعودته)، فقد تولت المجالس البلدية مسؤوليات وظيفية محدودة أمام سياسة مركزية وخيارات سلطة واحدة أدت إلى تكريس سياسة التهميش والحرمان والتخطيط المركزي وحولت الجهات الداخلية إلى مناطق منفرة ومقصية من الامتياز المجالي للاستثمارات وتوزيع عائدات الدورة الاقتصادية.
الطريق إلى الديمقراطية المحلية
تنبني الديمقراطية المحلية على أسلوبين: النموذج التمثيلي الذي يقوم فيه ممثلو ساكني الجهة بالتكفل بشؤونهم، والنموذج التشاركي الذي يُمكن هؤلاء من المساهمة المباشرة في اتخاذ القرار، والملاحَظ أن النموذجين يتكاملان في غالب الأحيان، وفي تونس تم اعتماد النموذج التمثيلي منذ الجمهورية الأولى وقد تم تدعيمه بالديمقراطية التشاركية في دستور 2014، أسفرت تجارب تطبيق الديمقراطية التشاركية، بأنها نظام للحكم الجيد وإعادة الثقة في السياسات الحكومية، وأنها كذلك عملية لترميم الديمقراطية التمثيلية.
فالديمقراطية التشاركية تجعل من المواطن العادي في قلب اهتماماتها باعتبارها شكلاً من أشكال التدبير المشترك للشأن العام المحلي يتأسس على تقوية مشاركة السكان في اتخاذ القرار السياسي وهي تشير إلى نموذج سياسي “بديل” يستهدف زيادة انخراط ومشاركة المواطنين في النقاش العمومي وفي اتخاذ القرار السياسي، أي عندما يتم استدعاء الأفراد للقيام باستشارات كبرى تهم مشاريع محلية أو قرارات عمومية تعنيهم بشكل مباشر، وذلك لإشراكهم في اتخاذ القرارات مع التحمل الجماعي للمسؤوليات المترتبة عن ذلك.
وتستهدف الديموقراطية التشاركية دمقرطة الديموقراطية التمثيلية التي أظهرت جليًا بعض عيوبها وتعزيز دور المواطن الذي لا ينبغي أن يبقى منحصرًا فحسب في الحق في التصويت أوالترشح والولوج إلى المجالس المنتجة محليًا ووطنيًا، بل يمتد ليشمل الحق في الإخبار والاستشارة وفي التتبع والتقييم، أي أن تتحول حقوق المواطن من حقوق موسمية تبدأ مع كل استحقاق انتخابي وتنتهي بانتهائه إلى حقوق دائمة ومستمرة ومباشرة تمارس بشكل يومي وعن قرب، وهي بهذا المعنى تتميز عن الديمقراطية التمثيلية التي تمارس عبر واسطة المنتخبين الذين قد يتخلون عن دور الاقتراب من المواطن وإشراكه في صنع وإنتاج القرارات وبذلك يصبح دور المواطن تتبع وتدبير الشأن المحلي دون وساطة.
يبقى الآن امتحان جدي للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الوقوف أمام محاولات الردة والمضي قدمًا للضغط من أجل أن تجد هذه اﻷحكام طريقها إلى التجسيم في القوانين التطبيقية
لقد غاب عن هؤلاء “دعاة الدولة المركزية الفاشلة” أن أصدقاءهم في الغرب ممن يتسابقون إلى سفارتهم أكدوا في مؤتمر للاتحاد الأوروبي عن الديمقراطية التشاركية المنعقد بالعاصمة البلجيكية بتاريخ 8 و9 من مارس 2004، أن الديمقراطية الأوروبية في أزمة حصيلة يتقاسمها الكل وأن الديمقراطية التشاركية هي الحل للأزمة وقيمة مضافة لدول الاتحاد الأوروبي ويجب على الديمقراطية التشاركية أن تضخ دمًا جديدًا للديمقراطية لتكمل الديمقراطية التمثيلية وتنمية التعاون مع باقي الشركاء الاجتماعين”
يبقى الآن امتحان جدي للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الوقوف أمام محاولات الردة والمضي قدمًا للضغط من أجل أن تجد هذه اﻷحكام طريقها إلى التجسيم في القوانين التطبيقية (مجلة الجماعات المحلية، إلخ) وفي الممارسة اعتمادا على سياسة القرب المنطلقة من الأطراف إلى المركز خيارًا سياسيًا اجتماعيًا واستراتيجيًا.
وبأن تكون الإدارة التنفيذية في المستوى المحلي والجهوي والإقليمي في متناول السكان فعلاً وتمنحهم فرصًا حقيقية لتوسيع مجالات اﻟﻤﺸﺎرﻛﺔ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﻴﺔ ﻓﻲ صنع اﻟﻘرار اﻟﻤﺤلي في إطار الديمقراطية التشاركية وﺘﺸﺠﻴﻊ اﻟﺘﻌددﻴﺔ وﺘﺤﻘﻴق اﻟﺸﻔﺎﻓﻴﺔ وﺘوﻓﻴر ﻤﺠﺎﻻت اﻟﻤﺴﺎءﻟﺔ وأن تكون هذه اﻟﺴﻠطﺎت أﻛﺜر ﺘﺠﺎوﺒًﺎ وﺘﻛﻴﻔًﺎ ﻤﻊ اﻷوﻀﺎع اﻟﻤﺤﻠﻴﺔ اﻷﻤر اﻟذي سيعطيها ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ أﻛﺒر في تنمية الجهات وانتشالها من التهميش.