شهدت القضية الفلسطينية محطات فاصلة على مر تاريخها، كان أبرزها الانتداب البريطاني والنكبة وما رافقها من مذابح وحملات تهجير ممنهجة والنكسة لاحقًا واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وكانت هذه الأحداث حافزًا للكتابة وتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.
ضمن هذه التجربة، برز العديد من الشعراء في فترة شديدة الخصوبة على المستوى السياسي والفكري والاجتماعي، منهم حنا أبو حنا الذي حمل في قصائده وطنه السليب، وكانت القضية عنوانًا أساسيًّا لقصائده.
يعد حنا أبو حنا أحد أهم الشعراء الفلسطينيين الذين تركوا بصمة خاصة بالمشهد الشعري، بلغته الجميلة المتفردة التي تتكئ على تراث كبير من الموروث المعرفي والشعبي من جهة، والعالمي والحداثي من جهة أخرى.
حنا أبو حنا
وُلد حنا أبو حنا عام 1928، في قرية الرينة قضاء الناصرة لعائلة بروتستانتية، ثم تنقّل في فضاء فلسطين بين أسدود والقدس ورام الله وجفنة وحيفا والناصرة والرينة والقدس وحيفا، بحكم عمل أبيه في هيئة “مسح فلسطين”، وهي الدائرة الحكومية المسؤولة عن مسح فلسطين ورسم خرائطها خلال فترة الانتداب البريطاني.
تلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي والعالي في هذه المدن المختلفة، ما زاد في صقل شخصيته، حتى أنه شارك أطفال الناصرة في مظاهرات الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، حيث كان الكبار يعطونهم حفنات الكُرسنِّة لقذفها على الأسفلت أمام حافلات الجيش البريطاني، فتنزلق الخيل وتهوي بمن عليها.
حالت نكبة عام 1948 وظروفه العائلية دون ذهابه إلى بريطانيا لمتابعة دراسته الجامعية، فتوجّه إلى مجال الإعلام، وعمل سنة 1950 في هيئة تحرير صحيفة “الاتحاد” الشيوعية في حيفا، وكان له فيها زاوية أسبوعية في كل يوم جمعة تحت عنوان “وحي الأيام”، يكتب فيها شعرًا وخواطر في الأحداث التي تشهدها فلسطين.
بعدها بسنة شارك في إنشاء مجلة “الجديد” الثقافية الشهرية، التي صدرت بادئ الأمر كملحق لجريدة “الاتحاد”، إلى أن حصلت على الترخيص وتابعت الصدور عام 1953، وضمّت المجلة مجموعة من الطاقات الشبابية.
كان أبو حنا يقوم بنشاط سياسي أيضًا، إذ شارك سنة 1948 في إنشاء “اتحاد الشبيبة الديمقراطية” في مدينة الناصرة، ثم انضمَّ إلى “اتحاد الشبيبة الشيوعية” عقب اندماج الشيوعيين العرب في “عصبة التحرر الوطني في فلسطين” بالحزب الشيوعي الإسرائيلي، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1948.
فضلًا عن ذلك، كان لابن قرية الرينة نشاط فني كذلك، حيث أنشأ أبو حنا في مدينة الناصرة، في أواخر عام 1948، مع الموسيقار الأرمني ميشيل درملكنيان “جوقة الطليعة”، التي أصبحت من أهم الفرق الموسيقية العربية في الداخل الفلسطيني، كما كان عضوًا في الهيئة الإدارية لـ”المسرح الناهض”، و”مسرح الميدان” في حيفا.
ويمكن اعتبار أن جوقة الطليعة أول ردّ فعل ثقافي فلسطيني مقاوم بعد النكبة، وقد كان أبو حنا يكتب للجوقة أناشيدها ويلحّنها درملكنيان، ومن بين تلك الأناشيد نشيد “العودة”، وقد جالت الجوقة في مختلف أنحاء فلسطين، وشاركت في عدد من المهرجانات المحلية والدولية وحصلت على جوائز.
حرص أبو حنا خلال نشاطه الإعلامي والسياسي والفني على إيصال رسالته، وهي الحفاظ على الهوية الفلسطينية والكيان الفلسطيني المتجذّر في وطنه، رغم مساعي الاحتلال الرامية لطمس وتغييب الشخصية العربية والتراث العربي والهوية القومية وتطويق فلسطينيي الداخل.
عمل أبو حنا طيلة سنوات حياته على عرض قضية وطنه السليب وتجنيد الرأي العام لصالحها، ودافع عن حق اللاجئين والمهجّرين في العودة إلى منازلهم وأراضيهم المغتصبة، وناصر المستضعفين ودافع عن حقوقهم المنتهكة.
رسم أبو حنا ملامح وطنه وجسّد سيرة شعبه المكلوم في ثلاثية مذكراته: “ظل الغيمة” و”مهر البومة” و”خميرة الرماد”، وعلّم الناشئين في المدارس والكليات التي عمل فيها (الكلية الأرثوذكسية العربية وكلية إعداد المعلمين العرب) كيفية حبّ الوطن والدفاع عنه، وأقام الندوات والمهرجانات الشعرية في القرى العربية في الداخل الفلسطيني للحفاظ على الهوية الوطنية.
نتيجة مناهضته الكيان الإسرائيلي والدفاع عن الهوية الفلسطينية، تعرّض أبو حنا لمضايقات كثيرة، حيث تمّ فصله من السلك التعليمي سنة 1948، وفي مايو/ أيار 1958 اُعتقل إداريًّا لمدة 6 أشهر، وتنقّل بين 6 معتقلات وسجون إسرائيلية.
معلم شعراء المقاومة
كان لأبي حنا نشاطًا أدبيًا بارزًا، إذ برع في الشعر وكان يكتب القصائد والمقطوعات النثرية وينشرها في المجلات الصادرة في القدس وحيفا وبيروت، وتميّز شاعر فلسطين بتجدده المتواصل وتطويره لقصيدته، ولونه الخاص الذي لا يحاكي أحدًا.
التزم حنا أبو حنا في شعره بهموم الفلسطيني وقضاياه وأحلامه، ووجّه قصائده لعامة الناس، وكانوا في غالبيتهم عمال وفلاحون بسطاء، لذلك كان يكتب شعرًا مباشرًا بأسلوب بسيط لا مكان فيه للغموض أو الإعجام أو المجاز، حتى تحصل الفائدة ولا يحصل لُبس في فهم مغزى الكلام والتعابير.
انتمى أبو حنا إلى جيل روّاد الشعر العربي المقاوم، إذ تطرّق في أشعاره إلى الاحتلال الإسرائيلي والعمل السياسي، وفترة اعتقاله الإداري في نهاية سنوات الخمسين، وحثّ الشعب على الصمود والمقاومة وبثّ فيهم الأمل.
حتى خلال فترة اعتقاله لم يكفّ عن كتابة الشعر، إذ كان يكتب ويرسل قصائده لنشرها في صحيفة “الاتحاد” ومجلتَي “الجديد” و”الغد”، ما زاد من نقمة المحتل عليه، وفي المقابل زادت شعبيته بين الفلسطينيين والعرب الآملين في تحرير الأرض المقدسة.
عرّف الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني أبو حنا بأنه “يُعتبر من الرعيل الطليعي المعلّم، وعلى يدَيه وبشعره تتلمذ معظم شعراء المقاومة العربية في فلسطين المحتلة”، إذ كان أبو حنا أستاذًا لأجيال من الأدباء والشعراء الفلسطينيين الذين نشأوا تحت الاحتلال.
تعلم هؤلاء الشعراء الحسّ الإبداعي من أبو حنا، وقاوموا معه مساعي الاحتلال الإسرائيلية لتهميشهم واقتلاعهم من وطنهم بالقوة، وصدعوا بكلمة الحق نصرة للقضية الفلسطينية من داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، ما زاد من حماسة الفلسطينيين وتشبُّثهم بأرضهم.
نقل أبو حنا لشعراء المقاومة التجربة، فقال عنه الكاتب والناقد الفلسطيني عبد الرحمن ياغي: “الشاعر حنّا أبو حنّا يقف مثالًا كريمًا لروّاد الشعر النضالي في الأرض المحتلة، بل أستاذًا لشعراء المقاومة المعروفين، الذين تمثَّلت في شعرهم ملامح الشعب المناضل الذي يحاوِل المحتل أن يفرِّغه من كل مضمونه القومي والتاريخي والاجتماعي، من هنا نجد لكلمة الوطن لدى هؤلاء الشعراء طعم الأساطير وطعم الغضب الذي سينتزع النصر انتزاعًا”.
من بين الشعراء الذين أخذوا من حنا أبو حنا وتعلموا منه نجد محمود درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين، وتوفيق زيّاد، وسالم جبران، وحنّا إبراهيم، ومحمود الدسوقي، ونايف سليم وغيرهم الكثير ممّا نعجز عن استذكارهم.
عنونَ أبو حنا ديوانه الأول الذي صدر عام 1969 بـ”نداء الجرح”، أما ديوانه الثاني فصدر عام 1988 وحمل عنوان “حديقة الصبر”، فيما صدر الديوان الثالث “تجرَعتُ سُمَّك حتى المناعة” سنة 1990، وكتب ديوانًا رابعًا بعنوان “عرّاف الكرمل” سنة 2005، وإلى جانب هذه الدواوين الشعرية كتب “الأعمال الشعرية الكاملة” عام 2008، فضلًا عن عدد من الأبحاث في السرد والأدب والتعليم والترجمة.
حنين خاص إلى حيفا
تنقّلَ حنا أبو حنا في فضاء فلسطين الرحب، لكن قلبه كان مشدودًا إلى حيفا التي سحرته بجمالها وبحرها الذي يعانق الجبل، وبيته الواقع على سفح الكرمل، وظلت صلته بحيفا وطيدة إلى يوم مماته، ففيها يسكن أعمامه وأصدقاؤه.
زار أبو حنا حيفا صغيرًا واستقرَّ فيها كبيرًا، درس فيها ودرّس، فكان لها عنده حنين خاص، إذ يصف جمالها بأنه “جمال مأساوي عميق الجرح”، قائلًا: “فأنا الذي عرفت المدينة قبل النكبة، عندما كان يعمرها سبعون ألف فلسطيني، ثم كانت النكبة فلم تُبْقِ إلّا ثلاثة آلاف، واحتلّ بيوتَ مشرَّديها غرباءٌ، وهُدِّمت أحياءٌ وغُيِّرت أسماء”.
ركّز “زيتونة الجليل”، كما لقّبه بعض النقّاد، في أشعاره على وصف عروس البحر حيفا، وأبرز جمالها وأثر الاحتلال الإسرائيلي، وصمود الأهالي ومقاومتهم وتمسُّكهم بأرضهم وهويتهم العربية.
من أكثر الأماكن القريبة إلى قلب حنا أيضًا جبل الكرمل، الذي سكن وجدانه وله نصيب كبير في ذاكرته، وطالما كان موحيًا له، وقد مزج في واحدة من أجمل قصائده نُشرت عام 1958 بعنوان “لقاءات على الكرمل”، بين حبّه الأول وشغفه بالكرمل في قصيدة.
وحضر جبل الكرمل في مواضع أخرى في إنتاجات حنا أبو حنا كما في السيرة الذاتية، فقد ارتبط بالوطن والشتات، وذلك سعيًا منه لتثبيت هويته العربية الفلسطينية، مقابل محاولات إسرائيلية متواصلة لتغيير هويته.
واكب حنا أبو حنّا الشعب الفلسطيني في محنته ونكبته، وحوّل الأحداث والهموم اليومية إلى قصائد منحت الفلسطينيين والعرب وعيًا أكبر بالقضية الفلسطينية العادلة، فكان بمثابة المؤرّخ الرافض لكل وجوه الظلم والإجحاف والاضطهاد، فنال تقدير واحترام أحرار العالم.