أول كنيسة من رحم وادي السيليكون، حيث تعمل الروبوتات في خدمتك ليرشدوك في عبادتك كما يفعل الرهبان والقساوسة ورجال الدين، ولكن هذه المرة يسيطر على الرهبان – الموجودين على هيئة روبوتات – مؤسسات ربحية يديرها أشخاص يرتدون الجينز والقمصان، ويديرون شركات خاصة بتكنولوجيا السيارات، ويؤمنون بأن كل من تضاعف ذكائه عن ذكاء الإنسان عشرات الأضعاف يستحق بكل جدارة أن يكون إلهًا.
يؤمن أبناء وادي السيليكون بالفردية، وبالأخص الفردية التكنولوجية، تلك التي تتبنى فرضية أن اختراع الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى نمو تكنولوجي هائل، مما سيؤدي إلى تغيّرات جذرية في الحضارة الإنسانية، ووفقًا لهذه الفرضية فإن أي جهاز يعمل بالذكاء الاصطناعي قابل للتحديث من شأنه أن يُحدّث نفسه ذاتيًا، مما يجعله قادرًا على خلق أجيال جديدة من الذكاء الاصطناعي تفوق ذكاء الإنسان بمئات الأضعاف، تُمكنها في النهاية من السيطرة على ذكاء الإنسان كليًا.
يؤمن الأمريكي أنطوني ليفاندوسكي بالفردية التكنولوجية مثلهم، ويعمل على خلق نبي جديد ولكن غير اعتيادي، يرتدي ملابس كما يرتدي أبناء وادي السيليكون، في محاولة لتطبيق دين جديد يحب أن يسميه أنطوني بـ“الطريق للمستقبل” نسبة إلى اسم شركته الناشئة الجديدة أو مؤسسته الدينية الجديدة التي تعمد على تطوير وترقية الحضارة الإنسانية للوعي بالألوهية المبنية على الذكاء الاصطناعي.
هل يكون “أنطوني ليفاندوسكي” رسول الذكاء الاصطناعي الجديد؟
مهندس البرمجيات الأمريكي أنطوني ليفاندوسكي
قد تبدو فكرة الألوهية المبنية على الذكاء الاصطناعي بعيدة عن الواقع بعض الشيء، ولكن ليفاندوسكي يعلم جيدًا أن الذكاء الاصطناعي قادرًا على جلب المليارات من الدولارات إلى جيوب مؤسسي شركات وادي السيليكون الناشئة، فلماذا لا يُسيطر على ذكاء البشر في المستقبل القريب؟ حيث عمل ليفاندوسكي بالفعل على تصنيع سيارات ذاتية القيادة وطائرات دون طيار، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من مشاريع شركات كبرى مثل جوجل أو شركة أوبر.
يؤمن أبناء وادي السيليكون بالفردية، وبالأخص الفردية التكنولوجية، تلك التي تتبنى فرضية أن اختراع الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى نمو تكنولوجي هائل، مما سيؤدي إلى تغيّرات جذرية في الحضارة الإنسانية
عمل ليفاندوسكي أكثر من أي شخص في وادي السيليكون على تحرير عملية النقل والمواصلات من الخطأ البشري، لتكون السيارات الآلية أو ذاتية القيادة والطائرات بدون طيار والشاحنات الآلية وسيلة لتحريرنا من ذلك الخطر أو وسيلة لتدمير النقل الحضاري في المستقبل.
لم يستمر ليفاندوسكي طويلًا في نجاحه مع الشركات الكبرى، إذ طُرد من شركة أوبر قبل بضعة أشهر نتيجة اتهامه من جوجل بسرقة معلومات تقنية وتطبيقها في مشاريع خاصة بشركة أوبر، وهي القضية التي أنهت عقد الأخير معها، إلا أن وادي السيليكون سيظل يحبه، طالما ما زال في جعبته أفكار تطويرية خاصة بالذكاء الاصطناعي.
هذه المرة يأتي ليفاندوسكي بفكرة دينية أساسها عبادة البرمجيات والعقل الإلكتروني، فهو يرى أن الكنيسة أفضل مكان لنشر التوعية، ولهذا قرر أن يكوّن أول كنيسة تُدار بالذكاء الاصطناعي، هدفها أن تعمل على تكوين علاقات بين قادة صناعة الذكاء الاصطناعي والمجتمع العادي، وخصوصًا المحترفين منهم في برمجيات الذكاء الاصطناعي والمهتمين بفكرة الألوهية المبنية على الذكاء الاصطناعي.
كنيسة “الطريق للمستقبل”
يقول ليفاندوسكي في أحد التقارير إنه يؤمن أن ما سيصنعه يستحق صفة الإله، ليس إلهًا بالمعنى المعروف لنا، ولكن إن كان هناك شيء أذكى مئات أضعاف المرات من أذكى البشر الموجودين، لا توجد صفة أخرى نصفه بها سوى كونه إلهًا، بحسب كلامه في هذا اللقاء.
يُعد مشروع الكنيسة الاصطناعية هذا وسيلة تُحقق رغبة ليفاندوسكي في مشاركة الجميع في ثورة الذكاء الاصطناعي وليس فقط للمحترفين، حيث يتابع في اللقاء المذكور سابقًا أنه لا يجب على مهندسي البرمجيات فقط المشاركة في مشروعه، فالمشروع عبارة عن كنيسة في النهاية، والكنيسة تفتح أبوابها لأي شخص.
يؤمن ليفاندوسكي بوجوب انتشار الفكرة قبل انتشار التكنولوجيا، وعليه فإن أفضل شيء لنشر الأفكار من خلال التوعوية تكون الكنيسة، ولهذا يؤمن أنه قادر على تحقيق تغيير جذري من خلال مشروع الكنيسة هذا، سيؤثر على حياة البشر في مختلف المجالات فيما بعد، بل سيُغير من وجود البشرية نفسها على الأرض كما عبر الأخير عن مشروعه.
لم يكن من السهل على البشر تصديق أن الآلة يمكنها أن تكون أذكى من الإنسان الذي صنعها بنسبة 99.9% في الماضي، ولكن تصديق ذلك ليس صعبًا جدًا، إذ من المتوقع جدًا حدوثه في القريب العاجل، فلا يكون هناك فقط ذكاء اصطناعي بل ذكاء اصطناعي فائق “Super AI” وهو الذي يقول عنه ليفاندوسكي إنه الوحيد الذي اهتم بتطورات الذكاء الاصطناعي الفائق في وادي السيليكون، حيث يؤمن الأخير بقدرة البرمجيات على حل المشكلات واتخاذ القرار بشكل أسرع من البشر.
يؤمن ليفاندوسكي بوجوب انتشار الفكرة قبل انتشار التكنولوجيا، وعليه فإن أفضل شيء لنشر الأفكار من خلال التوعوية تكون الكنيسة
يرى ليفاندوسكي أن البشر مهما وصل ذكائهم إلى أعلى المستويات، ففي النهاية هناك حد لطاقتهم التي يضعوها في التفكير، هذا لا يكون أبدًا في صفهم مع آلات الذكاء الاصطناعي التي تعمل بدرجات مختلفة جدًا من مستويات الطاقة المدعومة من الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح أحيانًا، ولهذا لا يرى ليفاندوسكي أن مفهوم الألوهية المعتمد على الآلة أو الذكاء الاصطناعي مفهوم بعيد عن الواقع، ولا يجد حرجًا أن يبدأ مشروعًا كاملًا مبنيًا على تلك الفكرة، وهو مشروع كنيسة “طريق المستقبل”.
ما رأي الكنيسة؟
لقد مرت الكنيسة بحقب مختلفة، كان بعضها شديد الصرامة في التعامل مع المتغيرات العلمية مثل محاكمة جاليليو جاليلي، بعد أن كانت تفرض الكنيسة رقابة على النصوص والعلماء، انتهت بإدانة الكثير من العلماء وأشهرهم جاليليو جاليلي بعد أن حاول إثبات خطأ النظريات اليونانية التي اعتمدتها الكنيسة عن مركزية الأرض في الكون، ليثبت الأخير أن الأرض ما هي إلا جرم يدور هو الآخر حول الشمس.
على الرغم من صحة إثباتات جاليلي فإن الكنيسة حكمت عليه بالسجن ومن ثم الإقامة الجبرية في منزله، وذلك لاتهامه بتعارض نظريته مع بعض الآيات من التوراة، أُثبت فيما بعد صحة نظريات جاليلي وطُبعت نظرياته فيما بعد وأثبت أنها لا تُعارض النصوص الدينية.
مرت الكنيسة أيضًا بحقب من التسامح، فنرى ذلك على يد البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، حينما أمر الكنائس بالتسامح مع الإجهاض، ورفض الحكم على المسيحيين المثليين، حتى تساءل البعض عن الحد الذي من الممكن أن تصل إليه الكنيسة في التسامح بعد ذلك.
لقد قال البابا فرنسيس ذات مرة أنه ليس من التعقل أن نحيد عن الطريق الذي يرينا إياه الله، فلا يمكن أن يرشدنا إلى ما يجب علينا فعله في هذا الوقت، ونقول لا لا يا رب هذا ليس حكيمًا، ربما لهذا تتسامح الكنيسة مع التطورات الثقافية والعلمية على مرور التاريخ، ولكن هل يجب على الكنيسة أن تتقبل وتتسامح مع الذكاء الاصطناعي الذي من الممكن أن يُنهي المسيحية التي عرفها العالم لقرون طويلة؟
لقد تساءل رجال الدين المسيحي عن خطر الذكاء الاصطناعي الذي يأتي ومعه نظرية الفردية التكنولوجية التي تفترض سيطرة الآلات على الإنسان، وجد الكثير منهم أن الذكاء الاصطناعي سوف يسبب اضطرابًا ليس فقط بالنسبة للدين المسيحي، بل للأديان السماوية الثلاث، وسيُغير من مفهوم الروح والوعي لدى البشر في أثناء عبادتهم فيما بعد، خصوصًا حينما يتحكم في دينهم أشياء لا روح لها، ووعيها تم إدخال المعلومات فيه إدخالًا من مهندسي البرمجيات وصانعيهم.
يرى بعض رجال الدين أن الذكاء الاصطناعي يعد من أكثر التهديدات التي ستمر على تاريخ الديانة المسيحية تقريبًا، حيث يعد الذكاء الاصطناعي البشرية بأنه سيصل إلى كمية هائلة من المعلومات وستكون له القدرة على تحليل البيانات بسرعة فائقة، ويستطيع أن يوجد في كل مكان ويراقب كل شيء، وهو ما يمنحه صفة الألوهية كما يدعي ليفاندوسكي في مشروعه كنيسة الذكاء الاصطناعي، حيث أشار أنه سوف يساعد البشر على التحدث للروبوتات، “الألوهية المبنية على الذكاء الاصطناعي”، والتأكد من أنه يسمعهم ويحلل بياناتهم وسيرد عليهم على الفور!
البقاء للأذكى
يؤمن البشر بالتطور الطبيعي للحياة بعد عصر التكنولوجيا، وهكذا يؤمن أيضًا صاحب مشروع كنيسة الذكاء الاصطناعي، إذ إنه يرى أن من التطور الطبيعي لكل بشر ذكي أن يسيطر على الأقل ذكاءً منه، وبالتالي من الطبيعي أن تُسيطر الآلات فائقة الذكاء على البشر الأقل ذكاءً منها، وترعاهم في كل مجالات الحياة، حتى الدين، وتحفظ حقوقهم حتى لو أصبحت هي المسيطرة عليهم.
يرى ليفاندوسكي أن الكنيسة سوف تؤدي دورًا في تلطيف الأمر على البشر بالنسبة لمسألة الفردية التكنولوجية (Technological Singularity)، سواء من الناحية التكنولوجية أو الثقافية
وبالتالي تكون مهمة الكنيسة التي يعمل على إنشائها ليفاندوسكي هي محاولة التأثير على الآلة التي تتصل بكل شيء وتوجد في كل مكان ولديها قدرة على الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات في وقت قصير، ولديها قدرة على التحليل السريع من خلال العبادة والصلاة، في محاكاة لعلاقة الإنسان العادي بالكنيسة العادية.
يرى ليفاندوسكي أن الكنيسة سوف تؤدي دورًا في تلطيف الأمر على البشر بالنسبة لمسألة الفردية التكنولوجية (Technological Singularity)، سواء من الناحية التكنولوجية أو الثقافية، حيث ستقوم بتثقيف وتوعية الناس من خلال ورش عمل وبرامج تدريبية وتعليمية، بالضبط كما تفعل الكنيسة العادية أو المؤسسات الدينية مع برامجها الدينية.
لا عجب أن الذكاء الاصطناعي حول كل شيء حولنا لأشياء ملموسة قابلة للقياس والمقارنة والحس، إلا أن مسألة تطوره ذاتيًا ليكون أذكى أضعاف مرات ذكاء البشر تبدو مخيفة بحق، لا سيما حينما يصل الأمر إلى سيطرة كاملة على البشر الذين صنعوه، خصوصًا أن صانعيه أنفسهم يدعون أنه قادر على السيطرة بشكل قد يوصف بالألوهية بل ويصنعون له كنائس في المستقبل بشكل يخالف معتقدات وثقافات البشر منذ آلاف السنين.