كما عودتنا الولايات المتحدة الأمريكية في كل مرة بتغير سياساتها الخارجية بشكل سريع، غيرت هذه المرة موقفها من المليشيات الإيرانية العاملة بالعراق، فقد أقدمت مؤخرًا على تصنيف مليشيا النجباء كمنظمة إرهابية كباكورة لسلسلة من التصنيفات المماثلة ضد مليشيات إيرانية أخرى قريبًا مثل مليشيا العصائب ومليشيا حزب الله العراقي العاملتان بالعراق.
وتندرج الخطوات الأمريكية الأخيرة ضد هذه المليشيات، في معرض محاربتها للنفوذ الإيراني في العراق (كما يدعي القادة الأمريكان بذلك)، لكن من يستعرض تاريخ أمريكا الحديث وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، يجد أنها اتخذت إجراءات مماثلة ضد منظمات عديدة، لكن تلك الإجراءات لم ترتق عند الأمريكان لمستوى محاربتها يومًا ما، كما قامت بفعل ذلك مع تنظيم داعش مثلًا.
فالولايات المتحدة صنفت حزب العمال الكردستاني (التركي) كمنظمة إرهابية، إلا ان ذلك لم يمنعها من التعامل مع منظمة وحدات حماية الشعوب الكردية السورية والتي هي فرع من ذلك الحزب، بل إن الأسلحة التي تزودها للأخير، تجد طريقها لحزب العمال الذي تصنفه حزبًا إرهابيًا، كما سبق لها أن صنفت حزب الله اللبناني كمنظمة إرهابية إلا إنها سكتت عن كل جرائمه في سوريا وسكتت عن مصادرته للدولة اللبنانية وقرارها السياسي.
انتهت أغراض الإدارة الأمريكية من تلك المليشيات وحققت ما كانت تريده من خلالهم، جاء الدور على تلك المليشيات ليتم حلها أو ضرب بعضها ببعض لكي يستمر مسلسل إغراق المنطقة بالحروب الأهلية
الأمر الذي يلاحظ على الخطوة الأمريكية الجديدة، أن الأمريكان يعزون إجراءاتهم تلك ضد مليشيا النجباء، كون الأخيرة مرتبطة بالنظام الإيراني، وهذا النظام يستخدمها في تنفيذ أجنداته بالمنطقة، والأدلة على ذلك تصل إلى سنة 2008 عندما ضربت تلك المليشيا المنطقة الخضراء في بغداد والتي تضم الحكومة العراقية والسفارة الأمريكية، ويحق لنا أن نتساءل: أين كانت الإدارة الأمريكية من جرائم تلك المليشيات طيلة السنين الماضية؟ ولماذا الآن تُخرج ملفاتها إلى العلن وتصنفها بأنها إرهابية؟
الجواب المقنع الوحيد على ذلك أن تحالفًا خفيًا كان يربط بين الإدارة الأمريكية وتلك المليشيات من خلال الراعي الإيراني، كون تلك المليشيات (على اختلاف مسمياتها) مكّنت للاحتلال الأمريكي في حربه ضد المقاومة العراقية الشريفة في تلك السنين، وعند ظهور تنظيم داعش في السنوات الأخيرة، كان لا بد من مليشيات مختلفة عنه عقائديًا (ولو في الظاهر) لإدامة الحرب التدميرية في العراق، لكي تكون مبررًا لعودتهم الثانية للعراق، ويبرر دخول قواتها أيضًا لسوريا، وقد كان ذلك بالفعل.
وحينما انتهت أغراض الإدارة الأمريكية من تلك المليشيات وحققت ما كانت تريده من خلالهم، جاء الدور على تلك المليشيات ليتم حلها أو ضرب بعضها ببعض لكي يستمر مسلسل إغراق المنطقة بالحروب الأهلية، وهذا يفسر أيضًا صمت الإدارة الأمريكية عن كل جرائم المليشيات الإيرانية، سواء كانت من مليشيا النجباء أو من المليشيات الأخرى، وسواء كانت تلك الجرائم في العراق أو سوريا.
الأمر الثاني الذي يلاحظ على الخطوة الأمريكية الجديدة أن قيامها بتصنيف مليشيا واحدة أو أكثر كمنظمات إرهابية، يحمل في طياته شرعنه للمليشيات الأخرى التي لم يطالها التصنيف الأمريكي، فالمليشيات الإيرانية العاملة بالعراق تتساوى كلها في طبيعة إجرامها وولائها الخارجي لإيران وخروجها عن القانون، فلماذا تصنَّف مليشيا بعينها إرهابية وتستثنى أخرى؟ فلو كانت الإدارة الأمريكية جادة فعلًا في حرب مليشيات إيران بالعراق وفي بقية الدول، لاتخذت ذات التصنيف على كل المليشيات.
ثم ماذا سيكون رأي الإدارة الأمريكية بالجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي العراقي؟ وكيف ستتعامل معه وهي التي قامت بنفسها بتأسيسه بعد الاحتلال؟ وكان الأساس في بناء تلك القوى العسكرية هي المليشيات الإيرانية التي جاءت من إيران بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وبرعاية وتدريب أمريكي لها، وجُعل العراق محكومًا من تلك المليشيات.
أغلب الظن أنها ستتعامل معها كمؤسسات وطنية حامية للشعب العراقي والدولة العراقية ونحن نعلم أن آخر ما تفكر به تلك المؤسستان (وهي على ذلك الحال من الولاء المليشياوي لإيران) هو حماية الشعب والدولة العراقية.
لا أستطيع أن أفهم كيف أن الولايات المتحدة تريد إدارة الصراع مع إيران بالعراق من خلال رجلها العبادي وتجعله ورقتها الرابحة وهي تعلم أن هذا الرجل لا حول له ولا قوة أمام سطوة المليشيات والنفوذ الإيراني المستحكم في العراق
إن الولايات المتحدة الأمريكية بإجراءاتها الأخيرة ضد المليشيات، تريد أن تُظهر نفسها بأنها فعلًا تحارب النفوذ الإيراني، لذر الرماد في عيون بعض زعماء العرب الذين بذلوا لأمريكا مئات المليارات من الدولارات نظير حربها لإيران، ولو كانت الولايات المتحدة الأمريكية جادة فعلًا في محاربة المليشيات، لبدأت بحرب إيران نفسها، لا أن تحارب أطرافها، فالشجرة الخبيثة مهما قصصت أطرافها ستنبت لك أطرافًا أخرى، فالأولى قص جذورها لا أطرافها، وجذور تلك الشجرة الخبيثة موجودة في طهران لا في بغداد.
لا أستطيع أن أفهم كيف أن الولايات المتحدة تريد إدارة الصراع مع إيران بالعراق من خلال رجلها العبادي وتجعله ورقتها الرابحة وهي تعلم أن هذا الرجل لا حول له ولا قوة أمام سطوة المليشيات والنفوذ الإيراني المستحكم في العراق، وبتصنيفها لبعض مليشيات إيران بالعراق كمنظمات إرهابية، ستجعل العبادي في حرج كبير مع تلك المليشيات، فهو لا يستطيع انتقاد الإجراء الأمريكي كما فعل في موضوع وصف أبو مهدي المهندس بالإرهابي، ولا يستطيع أن يؤيد ذلك الإجراء لأن ذلك يعني دخوله بحرب صريحة ضد تلك المليشيات.
والإجراء الأمريكي سيجعل السياسية التي يتبعها العبادي بالوقوف من منطقة الوسط بين النفوذين الأمريكي والإيراني، أمرًا مستحيلًا، فالمليشيات تطالب العبادي الآن بتحديد موقفه من التصنيفات الأمريكية، وتتوقع منه أن يكون ضد تلك التصنيفات، لكنه أكثر ضآلة من أن يقف بوجه أمريكا ومن أن يقف بوجه المليشيات وراعيها الإيراني.
إن تخلي الولايات المتحدة عن المليشيات، يرسخ النظرية التي ترسَّخت عن الأمريكان، وهو تخليها عن حلفائها حينما تنتهي أغراضها منهم
هل سنصبح في يوم قريب على انقلابٍ للعبادي، ليتحول من رجل أمريكا في العراق إلى رجل إيران كما كان سابقًا؟ فالتجربة مع الراعي الأمريكي لا تنبئ بخير، فلقد تخلوا عن رجلهم في كردستان قبل أشهر فقط لأنه لم يؤجل استفتائه بعض الوقت، وتخلت عن المليشيات بمجرد أن انتهت معاركها المزعومة مع داعش في العراق، فكيف للعبادي أن يثق بالأمريكان ويضمن عدم تخليهم عنه واستبداله برجل آخر؟ وهل هذا السبب بالذات هو الذي جعل عمار الحكيم يحسم أمره بنفض يده من الأمريكان واختياره الولاء للراعي الإيراني علنًا دون تردد، وانبرى يدافع عن المليشيات في معرض رفضه للتصيف الأمريكي لهم كمنظمات إرهابية.
إن تخلي الولايات المتحدة عن المليشيات، يرسخ النظرية التي ترسَّخت عن الأمريكان، وهو تخليها عن حلفائها حينما تنتهي أغراضها منهم، الأمر الذي يجعل ناقوس الخطر يدق عند كل حلفاء أمريكا بالمنطقة، بأن لهم موعدًا مع واشنطن لن تخلفه أبدًا، هو تخليها عنهم بكل بساطة، ولذلك اليوم ليعَّد أكراد سوريا عدتهم، وليتدبر العرب أمرهم بعد أن سلموا أمريكا خطامهم لتقودهم كيفما تشاء، وهي عبرة للعرب السنة في العراق من أن الأمريكان ليسوا بحلفاء موثوقين، فوالله لن تترك أمريكا أحدًا منهم قد سلَّمها أمر نفسه، إلا بجعلهم يركعون لسيدا المنطقة الجديدان: “إسرائيل” وإيران.