يكتنف الغموض ظروف اغتيال القيادي البارز في “هيئة تحرير الشام” ميسر علي الجبوري المعروف بـ”أبي ماريا القحطاني”، لا سيما الجهة التي تقف وراء العملية ما إن كان تنظيم الدولة “داعش” أو تنظيمات جهادية أخرى وصولًا إلى الهيئة ذاتها، إلا أن الثابت أن ما جرى يصب في مصلحة أبو محمد الجولاني زعيم الهيئة، لجهة تفرده بالقرار.
وفي ظل التكتم الشديد وشح المعلومات، انتشرت العديد من الفرضيات عن الجهة الضالعة بتنفيذ الهجوم الانتحاري الذي استهدف القيادي الجهادي العراقي الجنسية في مضافة تابعة له ببلدة سرمدا القريبة من الحدود التركية السورية في ريف إدلب، ليل الخميس.
وجاء مقتل القحطاني بعد فترة وجيزة من إطلاق قيادة الهيئة سراحه بعد تبرأته من تهمة “العمالة لجهات خارجية”، ليعزز الحديث عن مصير الفصيل والخلافات التي تعصف به.
القحطاني
اتهمت مصادر الهيئة تنظيم الدولة “داعش” بالمسؤولية عن مقتله، ونعاه الجولاني بقوله: “ترك فينا لوعة الفراق، ونسأل الله أن نلحق به”، وتوعد في مقطع مصور نشرته وكالة “أمجاد” بالثأر لمقتله.
ينحدر القحطاني حسب المعلومات المتوفرة من محافظة نينوى العراقية وينتمي بالنسب إلى عشيرة “الجبور” الممتدة في سوريا والعراق، وكان يقود “القطاع الشرقي/كتلة الشرقية” المكون من أبناء العشائر والمحافظات السورية الشرقية، ويعد هذا الجناح من أبزر الأجنحة (جناح حلب، جناح بنش) المكونة لهيئة تحرير الشام.
ووفق معلومات متداولة، يعد القحطاني من المؤسسين لتنظيم “جبهة النصرة/هيئة تحرير الشام”، وذلك بعد دخوله الأراضي السورية عقب اندلاع الثورة السورية، قادمًا من العراق.
واستطاع بحكم خبرته الطويلة في العمل مع التنظيمات الجهادية، أن يهندس جانبًا من مسيرة وتحولات الهيئة، من حيث علاقتها بتنظيم “القاعدة” و”الدولة الإسلامية – داعش”، فأسهم في إبعاد الجولاني وتنظيمه عن “داعش”، وفك الارتباط مع “القاعدة” عام 2016.
وتسلم القحطاني العديد من المناصب القيادية في الهيئة، وعينه الجولاني شرعيًا عامًا لـ”جبهة النصرة”، وبعد ذلك عزله، ثم عينه عضوًا في مجلس الشورى التابع للهيئة.
وحتى أغسطس/آب 2023، كان القحطاني يعد الرجل الثاني في “تحرير الشام”، لكن يبدو أن الحال تغير مع توارد الأنباء المؤكدة عن اعتقاله، وتجميد صلاحياته، على خلفية الخلافات والصراعات بين الأجنحة داخل الهيئة التي بدأت تظهر للعلن.
وتقول مصادر لـ”نون بوست” إن مرد الخلافات بين الجولاني والقحطاني هو تخوف الأول من نفوذه وتمرده، ما حوله من قيادي مقرب إلى قيادي سابق “مهمش”، وصولًا إلى مقتله.
ما تداعيات مقتل القحطاني؟
تراوحت القراءات لتداعيات مقتل القحطاني بين من عدها حادثة “غير مؤثرة” على الهيئة، وبين من رآها “فارقة” في مسيرة التنظيم، وتؤسس لمرحلة قادمة من التصفيات والصراعات الداخلية، باعتبار أن للقحطاني أتباعًا كثر، قد يدخلون في مواجهات مع قيادة الهيئة.
الخبير المتخصص بشؤون الجماعات الجهادية حسن أبو هنية، يقول لـ”نون بوست”، إن القحطاني يعكس إحدى المشكلات التي تواجه الهيئة، بعد تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بالملف السوري مؤخرًا.
ويضيف: “الشمال السوري كان عرضة للديناميكيات الخارجية والداخلية، لكن مع تراجع الاهتمام الخارجي بالملف السوري، وتحديدًا بعد انشغال روسيا والعالم بالحرب في أوكرانيا في المرحلة الماضية، وبالحرب على غزة حاليًا، اقتصرت العوامل في المنطقة على المحركات الداخلية”.
ويوضح أبو هنية أن ما كان يوحد الهيئة وجود الأعداء والحلفاء أيضًا، لكن بعد ما جرى بدأت حدة الخلافات ترتفع داخل الهيئة، لعدم تجانس التنظيم الذي انشق عن داعش والقاعدة، وتوجه الجولاني “البراغماتي” نحو إعادة تأهيل الهيئة وتقديمها للعالم على أنها تنظيم “معتدل” باهتمامات داخلية ليست جهادية عابرة للحدود.
ولم تفلح الهيئة في توجهها السابق، كما يؤكد الخبير في شؤون الجماعات الجهادية، مضيفًا: “الآن تمر الهيئة بمرحلة صراع الهوية، وهذا الصراع يأخذ الطابع الشخصي في بعض الأحيان والمناطقي في أحيان أخرى”.
وبذلك، يعتقد أبو هنية أن مصير الهيئة يبقى رهن مسار “أستانا”، ويقول: “من المفترض أن ينتهي مصير الهيئة إلى التفكيك بقرار تركي وروسي، لكن حتى يحدث ذلك، لا توجد في الساحة جهة بديلة عنها”.
ويتابع بقوله: “لا توجد قوة طموح قادرة على إزاحة الهيئة، وبالتالي سنشهد المزيد من الاغتيالات بعد اغتيال القحطاني والمزيد من الصراعات الداخلية، والمشكلات العديدة”.
هل تتأثر الهيئة بمقتله؟
يتفق مع أبو هنية، الباحث المختص في الجماعات الإسلامية عرابي عرابي، لجهة التقليل من تأثيرات مقتل القحطاني على الهيئة، ويقول لـ”نون بوست”: “مع اعتقادي بوقوف داعش خلف اغتيال القحطاني، لدوره في مقتل قيادات داعش، وفي تفكيك خلايا داعش في درعا، إلا أن الحادثة جاءت في صالح الجولاني، أو ربما بتسهيل من جهات داخل الجهاز الأمني للهيئة”.
والمؤكد وفق الباحث أن مقتل القحطاني أنهى العمل بقناة تواصل بين الهيئة و”التحالف الدولي”، في إشارة إلى تواصل القحطاني مع المخابرات الغربية، وقال: “الكثير من المعلومات الأمنية ذهبت بلا عودة، لكن في الغالب لن تتأثر الهيئة بمقتله”.
في السياق ذاته، يشكك الكاتب والباحث السياسي المهتم بالجماعات الجهادية، خليل المقداد، برواية مقتل القحطاني، ويقول لـ”نون بوست”: “بغض النظر عن حادثة مقتله وظروفها والجهة التي تقف خلفها، يبقى القحطاني من أكثر الشخصيات الجدلية في الهيئة باعتباره من المؤسسين، ومن أتباع تنظيم الدولة الذين انقلبوا عليها”.
وفي رأيه، كان القحطاني يوازي الجولاني في الأهمية، مرجعًا ذلك إلى مكانة الأول داخل الهيئة، ويقول: “القحطاني أسس للجولاني ودعمه وكان على ارتباط وثيق بجهات خارجية متعددة، لذلك يعد خازن أسرار الهيئة والجولاني”.
وعن التداعيات، يلفت المقداد إلى تزامن مقتل القحطاني مع تصدعات كبيرة داخل “تحرير الشام” وتصاعد الرفض الشعبي لها، ويقول: “لكن مع ذلك لا يمكن توقع حدوث انشقاقات كبيرة داخل الهيئة لأن القيادات على ارتباط وثيق بالجولاني”.
ويكمل قائلًا: “الهيئة مرت بتحولات عديدة، وتصفية القحطاني واحدة من هذه التحولات التي تؤسس لمرحلة تطور جديدة، علمًا يأن المستفيدين من مقتله كثر لأنه أسهم في اعتقال ومقتل العشرات بل المئات، وفي مقدمتهم الجولاني”.
ومع كل ذلك، لا يمكن إغلاق المجال على احتمال حدوث تحركات داخل الهيئة، خاصة من الشخصيات التي تتخوف من المصير الذي انتهى إليه القحطاني.