عند إعادة مشاهدة فيلم النجم الأمريكي الراحل جيمس دين “ثائر بلا قضية” بعد مرور أكثر من 60 عامًا على عرضه الأول في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، فإننا لا نزال نشعر بنفس الغليان وطاقة الغضب والتمرد الشبابي تطفح من الشاشة، تمامًا كما أحس المشاهدون عند عرضه لأول مرة، محققًا نجاحًا ضخمًا حول العالم، خاصة عند الشباب الذي أصبح جيمس دين بالنسبة لهم أيقونة تمثل أزمتهم الخاصة، خصوصًا بعد رحيله المفاجئ في نفس عام عرض الفيلم 1955 إثر حادث تعرض له وهو يقود سيارته البورش على أحد طرق كاليفورنيا السريعة مما أدى إلى مصرعه عن عمر 24 عامًا فقط.
وبرصيد 3 أفلام كبيرة خلدته كأهم نجوم السينما الأمريكية وهي: “شرق عدن” للمخرج الكبير إليا كازان عن رواية بنفس العنوان للكاتب الأمريكي جون شتاينبيك و”ثائر بلا قضية” للمخرج نيكولاس راي، وكلا الفيلمين تم عرضهما عام 1955، بينما عُرِض الفيلم الثالث والأخير لجيمس دين “العملاق” بعد عام من وفاته، وكان الفيلم من إخراج جورج ستيفنز وقد شاركه البطولة النجم روك هدسون والنجمة إليزابيث تايلور.
يمثل جيمس دين في الفيلم النمط الاستهلاكي لشباب هذا الجيل
يمثل جيمس دين على الشاشة وفي حياته الخاصة التي انتهت سريعًا، أغلب تناقضات جيل شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي يكره نفاق جيل الكبار ويثور بغضب على مؤسساته ورموز السلطة كافة، عندما يخبر الشاب جيم ستارك الذي يجسده جيمس دين، أحد رجال الشرطة المسؤول عن تأهيل الأحداث، في المشاهد الأولى من فيلم ثائر بلا قضية،عن توقه إلى “يوم واحد لا يشعر فيه بالحيرة أو الارتباك، يوم لا يشعر فيه بالخجل والخزي من كل شيء حوله، وأن يشعر بأنه ينتمي إلى مكان ما”، فإنه كان يفصح بشكل علني عن الأفكار والمشاعر التي يتشاركها شباب ومراهقو هذا الجيل كافة في كل مكان.
من ناحية أخرى يمثل جيمس دين في الفيلم النمط الاستهلاكي لشباب هذا الجيل، فهو في الفيلم من أسرة من الطبقة المتوسطة العليا التي توفر لأبنائها الكماليات المادية من ثياب جذابة وسيارات أنيقة يذهبون بها إلى مدارسهم الثانوية، جيل ثري ماديًا ولكن ينقصه مبدأ أخلاقي لم يمده به جيل الكبار، فنرى في بداية الفيلم شخصياته الرئيسية الثلاثة: جيم ستارك “جيمس دين” وجودي التي تجسدها النجمة ناتالي وود عندما كانت بعمر 17 سنة وجون الملقب بـ”أفلاطون” وهم جميعًا يقضون ليلة في مخفر الشرطة بتهم التشرد والسكر ليلًا، ونراهم جميعًا مترددين في العودة إلى بيوتهم الدافئة، بل يفضلون المبيت في مخفر الشرطة أو افتراش الشارع ليلًا كما نرى جيم في أولى لقطات الفيلم وهو يفترش الأرض كأنها فراش وثير ويداعب دمية قرد ضاحكًا.
هي شخصيات تحاول البحث عن المعنى، عن الهدف، حتى لو في أديم الأرض أو في أماكن مهجورة ، شباب يشعر بالوحدة ولا يجد أحد يستمع إليه أو يفهمه أو يفهم منه.
هذا البحث الحائرعن هدف، هذا الألم هو ما جعل جيمس دين معبودًا ورمزًا لدى الجماهير إلى الآن، خاصة مع نهايته المأساوية – موته المبكر في حادث سيارة – والتي بدت وكأنها نبوءة في فيلم “ثائر بلا قضية” عندما يقول جيم ستارك أو جيمس دين في أحد المشاهد: “لا أدري ما الذي يمكنني أن أقوم به بعد الآن، إلا ربما أن أموت”، أو في مشهد سباق السيارات بين الشباب عند منحدر صخري خطر، يلهون فيه مع الموت كإثبات للشجاعة والخشونة الفردية، والذي بنهايته تسقط السيارة بمنافس جيم لأسفل المنحدر ليلقى حتفه.
أو في مشهد آخر من أعذب مشاهد الفيلم، عندما يتبادل جيم مع الفتاة جودي الحديث في هدأة الليل بعد الحادث، وكان ذلك أول حوار صادق بينهما، فيخبرها بشعوره عندما وقع بصره عليها في بداية اليوم: “أتدرين شيئًا؟ لقد استيقظت هذا الصباح وكانت الشمس مشرقة، كان الجو رائعًا، وأول من رأيته كان أنت، قلت لنفسي: هذا سوف يكون يومًا جميلاً، لذا من الأفضل أن تعيشه، لأنك في الغد لن تكون موجودًا”.
ينعكس وهج الانفجارات الزرقاء التي تمثل نهاية كوكب الأرض، من الشاشة على وجوه الشباب الغضة المنبهرة فإننا نستشعر بعمق تلك الحقيقة، أي محدودية حياتنا وتفاهة مشاكلنا بالمقارنة مع الوجود العظيم المترامي في المكان والزمان
طوال الفيلم يسيطر شعور بحتمية الزوال وأن الحياة على الأرض مؤقتة وعابرة، يتجلى ذلك في مشهد زيارة الطلاب إلى القبة الفلكية والتي تعرض شريطًا سينمائيًا وثائقيًا لنشأة الكون، يعرض للنجوم والمجرات المختلفة، نسمع صوت المعلق يقول: “وبينما يبدأ وميض الأرض وهي ما زالت في بدايتها بالسفر ملايين السنين الضوئية عبر الكون، ولم يصل بعد إلى الكواكب الموجودة في عمق المجرات الأخرى، حتى نختفي في عتمة الكون التي نشأنا منها وتهلك الأرض مثل البداية في انفجار من الغازات والنار، ثم يعود الهدوء والثبات مرة أخرى، وفي هذا الكون السرمدي اللانهائي لن يشعر أحد بغياب الأرض، فالإنسانية مجرد حلقة محدودة في عمر الكون”.
وبينما ينعكس وهج الانفجارات الزرقاء التي تمثل نهاية كوكب الأرض، من الشاشة على وجوه الشباب الغضة المنبهرة فإننا نستشعر بعمق تلك الحقيقة، أي محدودية حياتنا وتفاهة مشاكلنا بالمقارنة مع الوجود العظيم المترامي في المكان والزمان.
إن بنيان فيلم “ثائر بلا قضية” بنيان متدرج، فمن خلال بطل واحد نجد أنفسنا غارقين في سر الكون كله، وكل الدوائر التي تحدد الجماعات والأجواء تتداخل فيما بينها، إن وضع بطل الفيلم الشاب الحائر جيم يقترب من المطلق، ولقد أراد المخرج نيكولاس راي بالتكنيك الذي استعمله أن يجمع المستويات المختلفة لتأملاته، انطلاقًا من مأساة جيم ورفاقه في لحظة محددة ومكان محدد، أي أمريكا في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، إلى المستوى الميتافيزيقي الفلسفي الذي تؤدي به مضاعفات هذه المأساة.
ما زال فيلم “ثائر بلا قضية” يمارس فتنته على الشباب حتى اليوم، وليس من الغريب أن تبدأ قصة الحب بين بطلي فيلم الأوسكار للعام الماضي “لا لا لاند” بشكلها الصريح بعد مشاهدتهما معًا لفيلم “ثائر بلا قضية”
إن بطل الفيلم جيم يفتش كالأعمى عن وسيلة للتخلص من ضغط يحس به، ونحن نكتشف معه الأسباب العميقة للحيرة والقلق التي تجتاحه، إن جيم يرفض نظام الأشياء التي تحيط به لأنه يتعارض مع دوافعه النبيلة النقية، إنه يتوق كما قال لوالديه منفعلًا أن يقوم بفعل الشيء الصحيح ولو لمرة واحدة، دون الخوف من العواقب.
إن موقف شباب الفيلم الثلاث من الحياة، يلمح بوضوح إلى رغبتهم الخفية في أن يقطعوا الحدود الأرضية التي تقف في وجه آمالهم وأن يجدوا هواءً آخر أكثر نقاءً وأكثر أمنًا.
وما زال فيلم “ثائر بلا قضية” يمارس فتنته على الشباب حتى اليوم، وليس من الغريب أن تبدأ قصة الحب بين بطلي فيلم الأوسكار للعام الماضي “لا لا لاند” بشكلها الصريح بعد مشاهدتهما معًا لفيلم “ثائر بلا قضية”، وبعد زيارتهما للقبة الفلكية التي جلس فيها جيمس دين وناتالي وود ورفاقهما قبل أكثر من نصف قرن.